افتتاحيّة | طوفان الأقصى: عن موقعنا في المعركة

فريق التحرير
نعم، جميعنا فرحنا وانتشينا – ومازلنا – بما حقّقته المقاومة الباسلة – وما تزال – من إنجاز نوعي وتاريخي. فما حصل فتح أعيننا على أمر كدنا ننساه في خضم ما عشناه من انكسارات ختمَت عقدًا كان مليئًا بالآمال المُحبَطَة. إذ ذكّرنا أبطال فلسطين بأنّنا نحن أيضا، كشعوب عربية، قادرون على الانتصار عندما تتوفّر فينا الإرادة الصلبة والمثابرة والتنظيم والتخطيط والإبداع والجسارة والحدّ الأدنى من الإمكانيات المادية. وهذا ما جسّده أسود المقاومة في عملية طوفان الأقصى.

لكن علينا الآن أن ننظر إلى المشهد بواقعية. واقعيّة الحريص على ترسيخ الانتصار، لا واقعية الليبراليين المهزومين الذين يحاول بعضهم هذه الأيّام اخفاء جبنه وانبتاته عن هموم شعبه وراء خطاب انسانويّ زائف.

ما قامت به المقاومة الفلسطينية لم يجرح فقط كبرياء الصهاينة المتغطرسين وزلزل كيانهم، بل يتمّ التعامل معه كتهديد استراتيجي في كلّ عواصم الغرب الاستعماري (وهذه فرصة لنراه على حقيقته). وسبب ذلك أنّ انجازات المقاومة لم تقتصر على مساحة “غلاف غزّة” أو حدود فلسطين… بل هي بصدد إعادة الروح إلى الجسد العربيّ برمّته، بصدد قبر خطاب الهزيمة والاستسلام والتطبيع مع وجود العدوّ الصهيوني وهيمنته. اليوم سقطت (وليست أول مرّة لكن بعضنا ينسى أو يجهل) أقنعة الخطاب الغربي عن “حقوق الانسان” و”الديمقراطية” و”دعم التنمية” والخ. فجميعها أدوات دعاية لدمغجة واستقطاب أو تحييد ما أمكن لهم من طبقات وسطى وطبقات شعبية في بلداننا (البرجوازيات تخدم مصالحهم منذ عقود) وللتعمية على التناقض الرئيسي بين مصالح شعوبنا ومصالح نظامهم الرأسمالي المعولم الذي ينهب ثرواتنا ويديم تبعيّتنا لمراكزه.

القوى الاستعمارية (بقيادة الأمريكان) يعلنون اليوم بكلّ صفاقة عن دعمهم المطلق للكيان الإرهابي. بل ويحشدون قواهم ويرسلون الأساطيل للمنطقة، ويفتحون مخازن أسلحتهم ليتزوّد بها جيش العدوّ الصهيوني. في الحقيقة، هم يفعلون ذلك لا دفاعًا عن “اسرائيل” فحسب، بل دفاعًا عن هيمنتهم على منطقتنا وشعوبها من خلال حليفتهم وربيبتهم التي زرعوها في فلسطين منذ سبعة عقود. لكن هناك سبب آخر غير مُعلَن ولا يقلّ أهمّية – بل ربّما هو الأهمّ: إنّهم يرفضون أن يروا من جديد انبعاث الشعور بالفخر والعزّة والانتماء إلى أمّة واحدة لدى شعوبنا. إنهم يخشون أن تعود هذه المشاعر الإيجابية المحفّزة على النهوض والانعتاق مجدّدا إلى منطقتنا، بعد أن نجحوا في قبرها إثر إنهاء التجربة الناصرية، وبعد أن نجحوا في احتواء الانتفاضات العربية وتحويلها إلى “انتقال ديمقراطي” نحو المزيد من التبعية في بعض البلدان (تونس تحديدا) أو إلى مدخل لحروب أهلية ولمزيد تفتيت بلداننا (ليبيا، سوريا، السودان والخ)… وبعد نجاحهم في إدخال عديد بلدان المنطقة في منظومة التطبيع والقبول بوجود كيان العدوّ كحقيقة راسخة يُعدّ التفكير في تغييرها ضربًا من الخيال.

إنّهم باختصار يحضّرون لمجزرة مكتملة الأركان في غزة. يستعدّون لتحطيم لا فقط المقاومة، بل كذلك الحاضنة الشعبية لهذه المقاومة. ومن خلال ذلك يريدون أن يلقّنوننا جميعًا درسًا مؤلما جديدًا (وكان آخر تلك الدروس غزو العراق وتدميره في 2003) يحطّم معنوياتنا لعقود قادمة حتى لا نجرُأ على الحلم والأمل، ومن ثمّة التحدّي ومحاولة النهوض من جديد. لطالما فعلوا ذلك طيلة العقود الماضية في مختلف مناطق الجنوب العالمي التي تجرّأت على النهوض والتحدي (من فيتنام وكوريا إلى شيلي وكوبا وباقي أمريكا اللاتينية مرورا بأفريقيا). إنّها الامبريالية يا سادة: تُغرقك بقروضها المشروطة وبخطابها الليبرالي المعسول عن “القيم الكونية” وعن “العالم المفتوح” وعن “التعاون الدولي”. لكنها في الحقيقة تعمل على استعبادك بشتّى الأشكال وترفض أن تراك ندًا لها، وهي مستعدّة للتخلّي عن كلّ شعاراتها الليبرالية وأن تحطّمك بكلّ قسوة حالما تجرُأ على رفع رأسك أمامها.

ولهذا كلّه، فإنّ المعركة الجارية اليوم في غزة وفلسطين المحتلّة وتخومها ليست مجرّد معركة تحرّر وطني للفلسطينيين وحدهم. بل هي أكثر من أيّ وقت مضى معركة تحرّر وطني لكامل شعوب المنطقة العربية، ومن ورائها شعوب الجنوب. هي معركة استرداد شعورنا بالكرامة وبإنسانيّتنا كاملة دون نقصان. هي، على عكس خطاب الليبراليين السطحيّين، معركة “انسانية” بامتياز.

وعليه، فإنّه من واجبنا ألّا نكتفي بالحماس العاطفي والسخرية من العدوّ (على أهمّية ذلك)، ولا يجب أن نكتفي بمتابعة الأحداث على التلفاز وشبكات التواصل. بل علينا أن نعي أنّنا جزءٌ من هذه المعركة وأنّ كيّ وعينا بنار الهزيمة المذلّة هو أحد الأهداف الرئيسية للحرب الصهيونية الأطلسيّة الراهنة، والتي ستتصاعد خلال الأيام المقبلة. وبالتالي علينا جميعًا أن نفكّر بعقلانية ونجاعة في موقعنا كأفراد وجماعات في هذه المعركة، وفيما يمكننا القيام به على مختلف المستويات. المقاومون في فلسطين يقدّمون لنا فرصة جديدة للانعتاق وللعودة إلى صناعة التاريخ ولاسترداد انسانيّتنا المهدورة. فلنغتنم الفرصة ولنكن في مستوى هذه اللحظة المفصليّة.

ما المطروح عمليًا، سيسأل البعض؟ لن نتحدث عن المشاركة في المقاومة المسلّحة، فأهل فلسطين وجنوب لبنان وغيرهم يقومون بالمطلوب وأكثر وتردّي أوضاع الوطن العربي لا يسمح بذلك للأسف. ومع ذلك، لو يتّخَذ قرار بفتح أبواب التطوّع سنرى الشباب العربي يتزاحم بالآلاف. لكن يمكننا رغم ذلك القيام بالكثير: تنظيم مظاهرات حاشدة هادرة كي نرفع الصوت الشعبي العربي المغمور اسنادًا لإخواننا المرابطين الصامدين ولنضغط على أنظمتنا العميلة أو المهادنة ورفضًا للتواطؤ الغربي الوقح في سفك دمائنا.

في بعض البلدان التي وقّعت على معاهدات تسوية واستسلام، الأولوية هي الضغط لإسقاط تلك الاتفاقيات، وفي بلدان لم تطبّع رسميا بعد كتونس والجزائر وليبيا والكويت، يجب الضغط بقوّة من أجل سنّ قوانين لتجريم التطبيع وتحصين شعوبنا من هذا السرطان الذي نهش جسدنا في العقدين الأخيرين. وبالتوازي مع ذلك، وهذه مهمّة استراتيجية، العمل على تصعيد معركة الوعي وتثقيف أطفالنا والأجيال الجديدة وإعدادهم لخوض الصراع عندما تحين ساعتهم. هذا صراع وجود لا حدود. وهذه المعركة لن تكون الأخيرة، ولا يجب أن تنتهي بهزيمة نكراء، بل بانتصار، ولو جزئي. وتحقيق ذلك يعتمد على دور كلّ واحد وواحدة منّا خلال الأيام والأسابيع المقبلة. حيِّ على المقاومة!

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *