رأيْ | ما يجب أن يُقال حول جريمة الغريبة

بقلم غسّان بن خليفة

بدايةً لا يجب التردّد في إدانة ما وقع أوّل أمس في جزيرة جربة وتوصيفه بدقّة: جريمة إرهابية.

فمن لا يتردّد في الغدر برفيق السلاح، ممّن يحرسون ثغور البلاد، ثمّ يهاجم معبدًا دينيًا – مهما كانت الديانة – يؤمّه على مدار السنة الآلاف من المصلّين والزوّار من أبناء الجزيرة اليهود وغير اليهود، فضلاً عن زوّاره من غير التونسيّين، ليستهدف الأمنين من رجال ونساء وأطفال هو قطعًا إرهابي. فمعبد الغريبة هو معبد تونسي أصيل يعود تاريخه لمئات السنين ولم يُقَم على أرض محتلّة، وأصحابه يهود تونس هم سكّان أصليون بهذه البلاد وليسوا محتلّين لها وهم جزء من تاريخها الثري ومجتمعها المتنوّع. ومن يريد أن يقتل اليهود لمجرّد كونهم يهودًا هو ارهابي، فضلا عن كونه عنصري بغيض.

إلّا أنّ ما يجعل نقاش الموضوع شائكًا بعض الشيء هو ما تداولته بعض وسائل الاعلام وصفحات شبكات التواصل حول هويّة القتيليْن اليهوديّيْن. اذ اتضّح أنّ كليهما من أصل تونسي، الّا أنّ أحدهما يحمل الجنسية الاسرائيلية (وقع في البداية تداول أنّ كليهما يحمل تلك الجنسية). وقد شهدت شبكات التواصل الاجتماعي طيلة أمس جدالا بين من يترحّمون على روح الصهيوني التونسي ومن يرفضون ذلك.

وهنا يجب القول كذلك بكلّ وضوح ودون تردّد وبعيدًا عن منطق التشفّي: الصهيوني الذي يحتلّ أرض الفلسطينيين هو بالضرورة ارهابي. وكونه تونسيًّا لا يعفيه من صفته الصهيونية الارهابية. فهل نسينا أنّ الإرهابي أبا عياض، على سبيل المثال، هو أيضا تونسيّ؟ هل تسمح الحذلقة الليبرالية لهؤلاء الانسانويّين المُفعمين بالعزّة القومجية التونسية بالحزن على حياة كلّ الارهابيين التونسيين، يهودًا كانوا أم مسلمين؟ بالنسبة لكاتب هذه السطور لا فرق بينهم.

يحيلنا ذلك إلى تناول مسألة حسّاسة أكّدت الأحداث الأخيرة مجدّدًا ضرورة نقاشها بوضوح وصراحة وهدوء. وهي مسألة تَحَوُّل حجّ الغريبة إلى مناسبة سنوية للتطبيع مع الصهاينة. فهذا الموسم الديني الذي كان في الأصل يهمّ بالأساس يهود تونس وليبيا، ثمّ انضاف إليهم اليهود التونسيون المقيمون بفرنسا، تحوّل منذ عقد اتفاقيات أوسلو الاستسلامية إلى موسم سنوي للتطبيع بين الدولة التونسية والكيان الصهيوني. ويكفي الاطّلاع على البيان الأخير للحملة التونسية للمقاطعة ومناهضة التطبيع مع الكيان الصهيوني، وغيرها من الهيئات الوطنية المناهضة للتطبيع على مرّ السنين الماضية، للتأكّد من مدى تورط بعض التونسيين المتصهينين (وعلى رأسهم وزير السياحة الأسبق روني طرابلسي) في الاشراف على تحويل “حجّ الغريبة” إلى موسم سنوي للتطبيع السياحي والديني.

ولا شكّ في أنّ هذا التطبيع يحصل باشراف وتواطؤ السلطات الرسمية التونسية التي تنسّق عملية استقبال الصهاينة بجوازات سفرهم وتسهر على مرافقتهم وحماية حافلاتهم خلال تنقلاتهم إلى جربة أو إلى باقي مدن البلاد. إنّ هذا التطبيع السافر المرفوض لا يمثّل طعنة لنضال أشقائنا في فلسطين المحتلّة فحسب، بل يمثّل كذلك تهديدًا بالغًا لأمن تونس وشعبها، وتحديدًا لأبناء جزيرة جربة. فهذا العمل الإرهابي هو الثالث من نوعه ضدّ المعبد وروّاده (الأوّل في 1985، والثاني في 2002). إذ أنّ تواجد المئات من الصهاينة القادمين من فلسطين المحتلّة كلّ عام في هذا المكان يزيد من احتمالات استهدافه، بدعوى تواجد “الاسرائيليين” فيه، من أولئك الذين لا يهتموّن بحرمة الأماكن الدينية ولا يزعجهم أن يموت الأبرياء من اليهود وغير اليهود بجريرة الصهاينة.

وفي نفس السياق، حان الوقت لكسر صنم “نجاح موسم الغريبة يعني نجاح الموسم السياحي” ، التي يردّدها روني الطرابلسي كلّ عام بنبرة أقرب منها للابتزاز. عن أيّ موسم سياحي نتحدّث عندما تجوب أخبار الاعتداء الارهابي كلّ وسائل الاعلام العالمية؟ كيف سيأتي السيّاح إلى جربة وهم يعلمون أنّها صارت هدفًا ثابتًا للارهابيين؟ هذا فضلا عن الحديث عن تحويل الجزيرة كلّ عام إلى ما يشبه الثكنة العسكرية المغلقة وما يسبّبه ذلك من تعطيل وتضييق على حياة أغلب ساكنيها.

ثمّ أنّ هذا التشديد المهووس على مكانة السياحة يدفعنا إلى فتح النقاش حول النمط الاقتصادي التونسي برمّته. لماذا هذا التشبّث المرضي بتقديم قطاع السياحة كـ”حلّ سحري” لاقتصاد البلاد؟ وذلك رغم أنّ الأرقام أثبتت خلال العشرية الماضية أنّ هذا القطاع شديد الهشاشة ويتأثّر بسرعة بأيّ توترات اجتماعية أو أمنية أو سياسية بالبلاد. كما أنّ البحوث والقراءات النقدية لطالما انتقدت ما يسبّبه هذا القطاع من استنزاف للمائدة المائية للبلاد على حساب الفلاحة واستهلاك مياه الشرب (يكفي التذكير بأنّه عندما يُقطع الماء على المناطق الساحلية، لا يشمل ذلك النُزُل التي تكون لها الأولوية على حساب باقي المواطنين) ومن استنزاف لصندوق الدعم ومن مردودية اقتصادية ضعيفة ومن طاقة تشغيلية موسميّة وهشّة.

نعلم جميعًا أنّ السبب الرئيسي والوحيد الذي يفسّر تشبّث النخب الحاكمة منذ عقود (تحديدا منذ المنعرج الليبرالي مع الهادي نويرة) بهذا القطاع هو أنّه يسمح بتوفير مداخيل (مشكوك في وفرتها بالنسبة لخزينة الدولة) بالعملة الصعبة لأصحاب النزل، وخاصة لأصحاب وكالات الأسفار. وأنّ دولتنا التابعة للمراكز الاستعمارية تحتاج لهذه العملة الصعبة من أجل تمويل صفقات وأرباح برجوازيّات التوريد والسياحة و”المستثمرين الأجانب”، ولتمويل تسديد القروض الأجنبية التي تأخذها باسم الشعب وعلى حساب مصلحته، وليس لاقتناء ما يلزمنا من تكنولوجيا حديثة ووسائل انتاج نحتاجها لترسيخ أسُس صناعة وطنية تهدف إلى فكّ الارتباط والتحرّر من هذه التبعية.

مرّة أخرى، يؤكّد ما سبق شرحه مدى ارتباط المسألة الاقتصادية والطبقية بالمسألة الوطنية. إذ أنّ اندراج الدولة التونسية وبرجوازيتها السمسارة (الكمبرادور في الأدبيات الماركسية) في “التقسيم العالمي للعمل” الذي يجعل منها مجرّد سوق تصدير للمواد الأولية وسوق استهلاك لفائض انتاج المراكز الامبريالية المصنِّعة، وما يفضي إليه ذلك من تبعية اقتصادية متعدّدة المستويات (من الصناعة إلى الفلاحة والطاقة والسياحة وصولا الى مجالات الثقافة والتعليم وغيرها)، يؤدّي بالضرورة إلى تبعيّتها السياسية. فمن يرهن اكتفاءه الذاتي الغذائي بسلاسل التوريد العالمية ويحوّل الحصول على العملة الصعبة إلى غاية في حدّ ذاتها لا وسيلة من أجل دعم اقتصاده المنتج، سيسلمّ بالضرورة قراره السيادي المستقلّ إلى القوى الاقتصادية الخارجية المتحكّمة في تدفق العملة الصعبة “والاستثمارات الأجنبية”.

وهو ما يفسّر تقاعس السُلط الحاكمة المتعاقبة منذ عقود عن اتخاذ قرارات جريئة فيما يخصّ التطبيع مع الكيان الصهيوني. فحتى في عهد أوّل رئيس يجرأ على الاصداع بموقف واضح ضدّ التطبيع (“ليس تطبيعًا بل خيانة عظمى”) مازالت الدولة خاضعة لاملاءات اللوبيات الصهيونية النافذة في قطاع السياحة على حساب سيادة البلاد وكرامة شعبها.

أخيرًا، حان الوقت للحديث بصراحة وهدوء عن مسألة أخرى لطالما وقع التغاضي عنها لاعتبارات مختلفة. إلى متى ستسكت هذه الدولة عن ارتباط جزء من الطائفة اليهودية التونسية بالكيان الصهيوني؟ كيف يمكن لدولة تجرّم قوانينها “التخابر مع العدوّ”، الذي سبق ان اعتدى على شعبها وسيادتها أكثر من مرّة، وسبق لرئيسها الاصداع بذلك الموقف السالف ذكره، كيف يمكنها أن تقبل بازدواجية الجنسية والولاء لبعض مواطنيها حيال دولة العدوّ الصهيوني؟

إنّ استمرار الصمت عن هذا الوضع غير السويّ وغير الأخلاقي (خاصة تجاه تاريخ النضال التونسي العريق وأرواح شهدائنا من أجل فلسطين) هو تواطؤ لا في حقّ أشقائنا في فلسطين فحسب، بل أوّلا وقبل كلّ شيء في حقّ اخوتنا اليهود التونسيّين. فمن يسكت عن عملية تحويلهم إلى “طابور خامس” هو بصدد تكريس عزلهم عن بقية مكوّنات المجتمع وتأجيج مشاعر العداء بينهم وبين الأغلبية، التي لا يمكن أن تقبل بتحوّل جزء من شعبنا إلى صهاينة مشاركين في احتلال أرض فلسطين والتنكيل بشعبها.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !