المسألة الزراعية في العالم وفي تونس

بقلم هيثم صميدة-قاسمي، باحث في السياسات الزراعية


“في هذه الأوقات، وفي خضم المواجهة الحتميّة، فإنّ أخطر ما يواجهه ‘الملعونون في الأرض’ هو أنّهم يقاتلون بلا أيديولوجيا. كانت تلك تمامًا مأساة رفاقنا الفلاحين الإنجليز الذين كسروا جيوش الملك، وأسقطوه، ليذهب وجهاؤهم إلى نبيل آخر متمنين عليه بأن يقبل تولي العرش بدل الملك المخلوع.” سعيد محمّد – فانون: عن المثّقف قائدًا لمتراس.

حاولنا في المقال الأول تفصيل تاريخ الفلّاحة الثوري في تونس ودورهم الاستباقي في التقاط سوء الأحوال والانتفاض ضدها. وكنا قد تطرقنا باقتضاب إلى الجذور الفلسفية والسياسية التي جُبِلَت على تحقير هذا الدور وبخس الفلّاحة تاريخهم. امتدّت هذه الجذور إلى حدود الفلسفات الأكثر ثورية (مازلنا نقصد الماركسية) فكان فهمها في البداية مبتورا في التاريخ (القرن التاسع عشر) والجغرافيا (أوروبا الغربية) ممّا جعلها تعجز عن استيعاب هذه الفئة البشرية ذات الماضي السحيق والمستقبل المديد. إلى أن تطوّرت الظروف الموضوعية في أطراف الأرض وحقبات الزمان، فتطور معها الفكر الماركسي الذي أضحى بلا ضفاف – حسب تعبير المفكر سمير أمين – وذلك خلال تجارب بناء “الاشتراكية قائمة الذات” في شرق العالم وعند تخمّر صراعات التحرّر الوطني في جنوبه.

ولعلّ أكثر المفاهيم الفلسفية والسياسية التي انغمست في تحليل دور الفلّاحة التاريخي يبقى بلا منازع مفهوم “المسألة الزراعية – The Agrarian Question» الذي أسال حبرا غزيرا منذ قرون ومازال إلى يوم الناس هذا يؤرّق المنظّرين والسياسيين والفلّاحة أنفسهم.

فماهي عناصر مفهوم “المسألة الزراعية”؟
وكيف تطوّر بتغيّر الواقع؟
وماهي تمظهراته في تاريخ الواقع الفلاحي التونسي؟

المسألة الزراعية تعريفا

مثّل كتاب “المسألة الزراعية: دراسة توجهات الفلاحة الحديثة” (1889) للمفكر التشيكي-النمساوي “كارل كاوتسكي” (1854 – 1938)1 نقطة محورية في البحث عن التحوّلات التي طرأت على القطاع الفلاحي إثر تغيّر نمط الإنتاج في أوروبا من الإقطاع إلى الرأسمالية. يُعرّف كاوتسكي إذن المسألة الزراعية بكونها مجال دراسة كيفية استحواذ رأس المال على الفِلاحة ومظاهر تحويل أنماط الإنتاج القديمة إلى أنماط جديدة. هكذا أصبح للظاهرة إسم ومجال اشتغال وبحث.

تتمحور المسألة الزراعية الأولى حول كيفية تَحَقُّق الرأسمالية في القطاع الزراعي عبر عناصر هذا النمط من الإنتاج الذي ظهر بأكثر وضوح في القطاع الصناعي. وذلك من خلال الاستقطاب الحادّ في الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج التي منحت للناس الذين يملكونها مكانة طبقة الرأسماليين، وللذين يشتغلون فيها طبقة العمّال أو البروليتاريا.

لم يَسلَم الريف من هذا التناقض، إذ عرف في المراحل الأولى لتغلغل الرأسمالية فيه فصل الفلّاحة عن وسائل إنتاجهم، أي عن الأرض. وهو ما مثّل أول خطوة نحو تركيز الملكيات لدى مجموعات (كبار المُلّاك) وذلك عبر انتزاعها من مجموعات أخرى (صغار ومتوسطي الفلّاحة). كانت عملية الانتزاع هذه خاضعة لتمشِّيَيْن إثنين: إمّا من خلال الانتزاع القسري والإغارة العنيفة على أراضي صغار ومتوسطي الفلّاحة (أي الرأسمالية من فوق) أو عبر التفريط في الأراضي وبيعها من قِبل صغار ومتوسطي الفلّاحة حينما تشتدّ قوانين السوق التنافسية فيُصبح نشاطهم الاقتصادي لا يلبّي حاجياتهم الحياتية (الرأسمالية من تحت).2

هكذا تمّ خلق حالة من التسليع المتسارع للأراضي وللعمل الزراعي، ممّا أبدع فكرة العمل الأجير في القطاع الفلاحي الذي عزّز بدوره عملية امتصاص فائض القيمة من عند المنتجين الحقيقيين إلى المُلّاك. هنا، أصبحت الأرض معمَلا وأصبح الفلّاحة عُمّالا فاضطُرَّ هؤلاء إمّا إلى العمل الإضافي خارج الحقول من أجل سدّ رمقهم وإما إلى النزوح نحو المدن من أجل الالتحاق بجحافل العمال والبطّالة ممّن يرزحون في أحزمة الفقر القصديرية.

بتوصيفٍ أبسط، انتقل الإنتاج الفلاحي من وظيفة توفير الاكتفاء الذاتي لعائلات الفلّاحة وأجوارهم إلى وظيفة سِلَعيّة بحتة. وبعد أن كان الغذاء على وجه الخصوص يؤدي قيمته الاستعمالية في تغذية الناس وإعادة إنتاج حياتهم، أصبح يَخضع إلى قيمته التبادلية المرتكِزة على كسب المال الذي به يشتري الفلّاحة مأكلهم الذي كانوا ينتجونه بأيديهم.

من جهة أخرى، أصبحت العلاقات الاجتماعية محكومة بالسوق التي تفرض على الناس ما يأكلون من خلال قوانين العرض والطلب الخارجة عن السيطرة الجماعية. فأصبح الإنتاج فوضويا لا يحترم الحاجيات الإنسانية ولا يهتم بالموارد الطبيعية والتوازنات البيئية، بما أن هدفه الوحيد يتمركز حول الربح والتراكم.

من الجدير بالتنويه أنّ أنماط الإنتاج ما قبل الرأسمالية لم تكن بريئة من الاستغلال الفاحش وتهديد حياة الإنسان، ولكن التوحّش الرأسمالي قد هجم بطريقة مجازريّة متغوّلا بسلعنة كلّ الموجودات من عمل وموارد وحياة.

تجاوز هذا الانتقال العلاقات البشرية المحدودة في أمكنة متفرقة فأصبحت المسألة الزراعية شاملة لكلّ العالم إثر الموجات المتعددة من التوسع الرأسمالي على الصعيد العالمي. وأضحى الهدف الرئيسي من المسألة الزراعية متمحورا حول كيفية استغلال الفائض الذي يوفّره القطاع الفلاحي أو ما يُطلَق عليه إسم القطاع الأول من أجل تطوير القطاعات الأخرى كالصناعة والخدمات.

فكيف حصّلت دول العالم هذا الفائض وبأي طرق وجّهته إلى القطاعات الأخرى؟

المسائل الزراعية في التاريخ والجغرافيا

نعتمد في هذا الجزء من المقال بصفة كبيرة على الأبحاث القيّمة التي اشترك فيها وقدّمها كُلٌ من سام مويو وبرافين جها وباريس ييروس.3

يمكن التفريق بين السُبل التي اتخذتها دول العالم في تحقيق مسألتها الزراعية بناءً على معطيَيْن جوهريّيْن متّصليْن: الاقتصاد السياسي الذي تعتمده هذه الدول من جهة، وطرق توجيه الفائض الزراعي نحو الصناعة وغيرها من القطاعات.

1. المسألة الزراعية الأوروبية: الإمبريالية والتصنيع السِلَعي

حققت الدول الأوروبية مسألتها الزراعية من خلال امتصاص الفائض الزراعي من مستعمراتها. فقد ارتكز التراكم الرأسمالي البدائي بالأساس على الموارد الطبيعية للأمريكيتيْن في مرحلة أولى ثم من شرق آسيا في مرحلة ثانية، وصولا إلى الحملات الاستعمارية التي انطلقت في القرن التاسع عشر على إفريقيا بالخصوص. كان العمل العُبودي عمادا لهذا التراكم قبل أن يُمنع الرقّ فيتمّ استبدال استغلال قوة عمل المستعمَرين بأنماط أخرى لا تخلو من استغلال.

لعلّ أبرز مثال على هذا النمط من التراكم يتجلّى بوضوح في شركة الهند الشرقية البريطانية التي نهَبت قطن وحرير وسكر وبهارات وشاي وأفيون بلدان جنوب شرق آسيا لمدة 273 سنة بـ “أمر من ملك انجلترا وبرلمانها”، حسب شعارها.

2. المسألة الزراعية السوفياتية: الاشتراكية والتصنيع الدفاعي

انتصرت الثورة البلشفية في روسيا وقامت على أنقاض نظام قيصري تحكمه علاقات إقطاعية عميقة في مجتمع ذي أغلبية ريفية. حتّمت طبيعة المجتمع، الذي يتكون من عدد كبير من الفلّاحة الصغار، على القيادات البلشفية – وعلى رأسهم فلاديمير لينين – بتطويع النظريات الماركسية الأرثودوكسية التي ترى بأن الثورة عُمّاليّة بالأساس وأن المرور إلى نظام الحكم الاشتراكي لا يكون سوى إثر تطور الرأسمالية وتعمّق تناقضاتها الداخلية. بينما في الواقع، لم تحدُث هذه الثورة في دول مركز رأس المال بل تحقّقت في أطرافه الشرقية مثل روسيا التي مازالت ترزح تحت تخلف الإقطاع.

تدارك لينين هذا القصور النظري وتجاوَز الأطروحات التي تقول بتحويل الفلّاحة إلى بروليتاريا من أجل المرور إلى المجتمع الاشتراكي. كما أنه ركّز على محورية “الصراع على الأرض” وافتكاكها من كبار المُلّاك، وذلك ضمن برنامج اقتصادي يرتكز على قاعدة التحالف الاستراتيجي بين العمّال والفلّاحة من خلال إصلاح زراعي جذري يطوّر من القوى المنتِجة في الريف.

استمرّ هذا الاعتراف بدور الفلّاحة خلال بناء دولة العمال بعد لينين، إلّا أنّ ظروف الحرب العالمية الثانية وهجمات الإمبريالية على هذه التجربة أدّيَا إلى اتخاذ خيار التراكم البدائي الاشتراكي4 من خلال امتصاص الفائض الزراعي من أجل التصنيع، وخاصة التصنيع الحربي. وذلك من خلال الاعتماد على الموارد المحلية وعلى الطاقات الذاتية، في قطيعة واضحة مع نموذج المسألة الزراعية الأوروبية التي تنطلق من النهب الاستعماري كي تصل إلى التصنيع ذي الغايات التسليعية.

3. المسألة الزراعية في المستعمَرات: التحرّر الوطني والطليعة الفلّاحية

بدأت المسألة الزراعية في التبلور في المستعمرات انطلاقا من التجربة الصينية خلال حرب التحرير ضد الاستعمار الياباني. هنا تحَوّل الفكر الماركسي جذريا نحو التعويل الفعلي على قدرة طبقة الفلّاحة الصغار في حمل الثورة على كواهلهم وبناء بديل وطني لسياسات النهب الخارجي.

تفطّن ماو تسي تونغ لهذه الطاقة عندما انكبّ على تحليل المجتمع الصيني، فاستنتج أنّ الفلّاحة يمثلون أكثر طبقة تتعرّض لاضطهاد التراكم البدائي الرأسمالي. اذ كانت الأراضي مُرَكَّزة في أيدي طبقة المُلّاك الكبار المتحالفة مع البرجوازيات المحلية التي تتقاطع مصالحها مع القوى الخارجية.

هكذا تطور التناقض في المجتمع الصيني من محاربة الاستعمار إلى مقارعة كبار المُلّاك والبرجوازيات الكمبرادورية، وصولا إلى إصلاح زراعي يقوده الفلّاحة عبر تعاونيات وكومونات جعلت نقطة بدايتها الأهم توزيع الأراضي على من يفلحونها. تحققت بذلك الوحدة بين المدينة والريف كما تواصل العمل على تحقيق التوازن بين القطاعات، فكان التحوّل الصناعي في المدينة مُوَجَّهًا، في مرحلة أولى، إلى تطوير الفلاحة في الريف ممّا خلق حالة من التبادل المتكافئ للفائض الزراعي والفائض الصناعي.

في بقية دول الأطراف، قاد الفلّاحة حروب التحرير الوطني ضد الاستعمار فتطوّرت وسائلهم الأيديولوجية وواكبوا الواقع الموضوعي ليتجاوزوا أدران الأفكار المتعصّبة من أجل مشاريع وطنية جامعة.

يفسّر الفيلسوف والطبيب النفسي فرانز فانون هذا التطور في الحسّ الوطني والثوري لدى الفلّاحة بكونهم طبقة “المعذّبين في الأرض”. إذ أنهم لا يملكون شيئا يخسرونه بينما يروْن أمامهم الكثير كي يغنموه. فحالة الحرمان والقمع الشديديْن صنعتا بركانا.

نظرا لقيادة الفلّاحة لحروب التحرير، كانت سياسات بناء الدول الوطنية الفتية مرتكزة على الاعتماد على الطاقات الذاتية والموارد المحلية. فكانت المسألة الزراعية محمولة في اتجاه تحقيق مصالح الفلّاحة وحقوقهم. هكذا تحققت الإصلاحات الزراعية الكبرى والتي استُهِِلَّت بتوزيع الأراضي على المنتجين داخل فلسفة تُبنى على الاكتفاء الذاتي كحجر أساس يحمل أعمدة التبادل المتكافئ والمنصف مع الحلفاء الخارجيين الذين يتشاركون في الفكر التحرّري والطريق غير الرأسمالية.

تحققت هذه المسألة الزراعية بتفاوت في العديد من بلدان العالم الثالث، من الفيتنام إلى كوبا ومن مصر إلى أنغولا ومن الجزائر إلى الزيمبابوي. لكنّ فكّ الارتباط بالقوى الامبريالية لا يأتي دون ثمن باهظ. واجهت هذه الدول اعتداءات جمّة إمّا بالتدخل الحربي المباشر أو بالانقلابات العسكرية المدبَّرة خارجيا أو بالعقوبات الاقتصادية الدولية. من جهة أخرى، فشلت العديد من الدول في فضّ التناقض بين برجوازية الدولة الناشئة والطبقات الشعبية5. انتصرت الأولى في الكثير من الأحيان ففَرضت فكرها التبعيّ فلسفيا وسياسيا بتعلّة ضرورة اللحاق برَكْب التقدم الغربي.

كان هذا الفكر فاتحة لفشل مشاريع الإصلاح الزراعي، وذلك بسبب غياب الإصلاحات السياسية الجوهرية التي تركت المجال مفتوحا للقرارات المركزية المُسقَطة وللإستغلال المفرط للموارد ولقوة العمل وللجوء إلى التبعية لمراكز رأس المال العالمي. وذلك خاصة منذ بوادر انهيار الكتلة الشرقية وهجمة الأفكار النيوليبرالية على العالم والبشرية.

4. المسألة الزراعية العالمية: النيوليبرالية وسياسات التبعية

كانت الأزمة العالمية سنة 1973 واحدة من الأزمات الدورية التي يمرّ بها النظام الرأسمالي منذ بدايات نشأته، ولكنها مثّلت منعرجا محدِّدا للسياسات التي نعيش تأثيراتها اليوم. كانت هذه الأزمة فاتحة لتغوّل احتكارات رأس المال المالي (Monopoly–Finance Capital) خاصة عبر المؤسسات الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. تحقّق هذا التغوّل كإجابة للتحديات التي فرضها المعسكر الشرقي على دول مراكز رأس المال بالإضافة إلى انتشار الثورات الوطنية في العديد من بلدان الأطراف والتي عزمت على فكّ الارتباط.

من الجدير بالذكر أنّه لم يتمّ أبدًا تحقيق المسألة الزراعية الأوروبية التي ناقشناها سابقا. فلئن قطعت دول مراكز رأس المال مع العمل العبودي والاستعمار المباشر على طريقة القرنين التاسع عشر والعشرين، إلّا أنّ هذه الدول لم تَبني أيّ سياسات تجعلها تغذّي شعوبها عبر الإنتاج المحلي أو المبادلات التجارية المُنصفة. ماتزال هذه الدول محكومة بالشركات عبر-القُطرية التي تَعْبُر بالفعل أقطارها وتضع شعوبها تحت رحمة القوة العسكرية أو المالية لحكوماتها. أزمة الطاقة والغذاء في أوروبا المُنجرَّة عن التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا خير دليل على هشاشة وعجرفة هذا النظام.

بناءً على ذلك، تحالفت هذه المؤسسات العالمية مع البرجوازيات المحلية الناشئة من أجل فرض سياسات تبعية تضمن استمرار تدفق المنتجات الفلاحية من دول الجنوب. تم تحقيق ذلك اعتمادا على سياسات ضخ الأموال عبر الديون من جهة وفرض “الثورة الخضراء”، عبر إقحام البذور المهجنة والمدخلات الكيميائية والآلات الفلاحية من جهة أخرى. كلّ هذا الكرم الحاتمي كان من أجل ضمان إدراج الإنتاج الفلاحي المحلي في الأسواق العالمية.

تتحصل دول مراكز رأس المال على حاجياتها من الموارد الطبيعية والمنتجات الفلاحية الخام وقوة العمل الرخيصة مقابل “عملة صعبة” تشتري بها دول الأطراف حاجياتها من التكنولوجيا والمنتجات الصناعية عبر الاستيراد.

هكذا تخلّت دول العالم الثالث عن مشاريعها التصنيعية السيادية، فتحققت المسألة الزراعية عبر تصدير الفائض الزراعي (الذي لم يَعد “فائضا” في الواقع بما أنّ المنتجين لا يحققون إكتفاءهم الذاتي أصلا) مقابل استيراد التكنولوجيا الصناعية. يمكن القول دون مبالغة بأنّ بعض الدول تتبادل باخرة كاملة من الطماطم مثلا مقابل آلة تصوير مغناطيسي طبية.

بلغت هذه المسألة الزراعية أوْجها حين تم فرض “برامج الإصلاح الهيكلي” من قِبل صندوق النقد الدولي مقابل ديون مشروطة بسياسات، من بينها6:
– تقويض سيادة الدول على العملة والأسعار ورؤوس الأموال والتجارة
– التخلي عن البرامج التصنيعية
– خوصصة الشركات العمومية
– تحرير السوق العالمية عبر اتفاقيات التبادل الحرّ

نتيجة لكل ذلك، انفجرت نِسب النزوح الريفي في دول أطراف هذا النظام العالمي، فعجزت المدن عن امتصاص قوة العمل النازحة نظرا لشبه انعدام القطاع الصناعي وتعزّز القطاع الخدماتي الذي لا ينتج الثروة، بل يشتغل بنظام المناولة تحت الشركات العالمية المنتجة.

المسألة الزراعية في تونس

1. المسألة الزراعية الإستعمارية: المرور إلى نمط الإنتاج الرأسمالي

تعود الجذور القريبة للمسألة الزراعية في تونس إلى بداية حقبة الاستعمار الفرنسي. هذا الاستعمار كان زراعيا بالأساس وقد انبنت فلسفته الكبرى على مواصلة التراكم البدائي الرأسمالي عبر الامبريالية. وذلك من خلال نهب الموارد الطبيعية والفلاحية من المستعمرات باستعمال القسر العسكري.

انطلاقا من الفهم الأصلي لمفهوم المسألة الزراعية، أي مرور أنماط الإنتاج الفلاحي إلى النمط الرأسمالي، فقد كان ما يُسمَّى بالاستعمار “الخاص”، ذلك الذي سبق الاستعمار “الرسمي” المصادَق عليه بمعاهدة “الحماية”، مرتكزا على احتكار الشركات الفرنسية الخاصة للأراضي الخصبة في البلاد التونسية. سُمّيت هذه الظاهرة بـ “الاستعمار المُضاربي الخاص”. استحوذت بذلك 4 شركات استعمارية فقط على ما يناهز 156 ألف هكتار من الأراضي الفلاحية، أي ما يناهز 20% منها7. يمثّل “هنشير النفيضة”، الذي يمسح 100 ألف هكتار وابتاعته “الشركة المرسيلية للقروض” من خير الدين باشا، أحد أهم الأمثلة على تغلغل هذه الظاهرة. تمثلت أهمية هذا الهنشير بالنسبة للشركة في قيمته السوقية فقط، إذ طرحته للمضاربة والبيع بأسعار متصاعدة دون الاهتمام بقدرته على الإنتاج الفلاحي8.

وإثر دخول الاستعمار إلى البلاد التونسية بصفة عسكرية وسياسية رسمية، اشترت السلطات الاستعمارية الرصيد العقاري من الشركات الخاصة لتبيعه إلى “المعمّرين” بأسعارٍ بخسة. وذلك تشجيعا لهم على الاستقرار بالمستعمَرة والمشاركة في السياسات الاقتصادية الفرنسية.

أغدقت سلطة الاستعمار “المُعمّرين” بتمويلات وتسهيلات بنكية من أجل الاستثمار في القطاع الفلاحي. كما وفّرت لهم أحدث الآلات والمُدخَلات الزراعية التي تُطوّر المنتوج. وكانت الغاية الأساسية من هذا النشاط الاقتصادي تحويل الإنتاج الفلاحي إلى قطاع تجاري تصديري إلى أبعد الحدود.

بالفعل، فمثلا خلال أزمة 1929 كانت السوق العالمية غارقة في فرط إنتاج الحبوب ممّا جعل قيمتها السوقية منخفضة. هنا قرّرت السلطات الاستعمارية المراهنة على الإكثار من إنتاج القوارص في البلاد التونسية. عزّزت الظروف الجيوسياسية داخل السوق العالمية للقوارص هذا التمشي. فقد كانت إسبانيا غارقة في أوحال الحرب الأهلية ممّا قوّض إنتاجها، كما كانت إيطاليا تخضع لعقوبات اقتصادية تُعطّل صادراتها عقابا على غزوها لأثيوبيا9.

من ناحية أخرى، وعلى نفس قاعدة الإنتاج التجاري الموجَّه للتصدير، أصبحت زراعة الكروم الموجّهة إلى عصر الخمر ذات أهمية كبرى إثر الآفة التي أصابت الكروم الفرنسية بسبب حشرة الفليلوكسيرا. فأصبحت المساحات المزروعة تناهز 50 ألف هكتار تُصَدَّر محاصيلها بنسبة 90% إلى الأسواق الفرنسية والأوروبية10.

كحصيلة لهذه الفلاحة التجارية، ورثت البلاد التونسية سنة 1957 قطاعا فلاحيا يتم توجيه 60% من إنتاجه للتصدير11. هكذا كان التحول التدريجي والقسري للفلاحة التونسية إلى نمط إنتاج يقوم على الملكية الخاصة للأراضي الزراعية، ويرتكز على الهدف التجاري المرتبط بالسوق العالمية بنسبة كبيرة، ويحقِّق ذلك بالتقنيات الصناعية الضخمة المستنزِفة للموارد والملوِّثة لها.

2. المسألة الزراعية تحت الدولة الوطنية الناشئة: التعاضد

مثّل الاستقلال من الاستعمار الفرنسي فرصة للتعامل مع المسألة الزراعية الوطنية بأكثر ارتباط بالواقع والحاجيات المحلية. فكانت تجربة التعاضد التي تم اعتمادها في “برنامج التنمية العشري 1962-1971” محاولة لتحقيق الإصلاح الزراعي من أجل بناء اقتصاد وطني.

ورثت البلاد التونسية عن الاستعمار 800 ألف هكتار من الأراضي الفلاحية الخصبة موَزَّعة على كبار المُلّاك (أكثر من 50 هكتار) الذين يمثلون 4% من الفلّاحة، والذين يستحوذون على 40% من الرصيد العقاري، وعلى صغار الفلّاحة (أقل من 10 هكتارات) المكَوَّنين بنسبة 63% من الفلّاحة التوانسة، بينما يملكون 16% فقط من الأراضي12.

كانت الخطوة الأولى من الإصلاح الزراعي التعاضدي مرتكِزة على تجميع الأراضي الزراعية وتمكين الفلّاحة من العمل فيها والإنتاج منها. إلّا أنّ هذه العملية انطلقت معكوسة، إذ ارتأت الدولة التونسية الشروع في تجميع أراضي صغار الفلّاحة والتغاضي عن كبار المُلّاك.

من جهة أخرى، لم تحتكم هذه السياسة إلى دراسات معمَّقة وكافية للواقع الفلّاحي في البلاد التونسية إلى درجة أنّ مهندس المشروع التعاضدي، أحمد بن صالح، كان قد اختلف بعمق مع تمشّي الرئيس الحبيب بورقيبة بإسقاط التجربة من فوق على الفلّاحة13.

كانت التجربة التعاضدية التونسية، التي سنتناولها بإسهاب في المقال القادم، عبارة عن عملية سُلطوية لتحويل الفائض الزراعي من الريف إلى المدينة قصد تلبية الحاجيات الاستهلاكية بأسعار مقبولة. وذلك عبر الضغط على الطلب الداخلي من خلال فرض أسعار متدنيّة عند الإنتاج. بلغة أخرى، فإنّ انخفاض أسعار شراء المنتجات المتوفرة للمستهلكين متأتٍّ من تخفيض أسعار بيعها من قِبل الفلّاحة.

أذِن فشل التجربة التعاضدية في تونس بتبني الليبرالية الاقتصادية بقيادة الهادي نويرة الذي تولى مقاليد الوزارة الأولى إثر تنحية أحمد بن صالح ومحاكمته.

3. المسألة الزراعية والسياسات الليبرالية: التبعية

منذ بداية تفكيك التجربة التعاضدية وقع بيع الأراضي الفلاحية وكرائها لمستثمرين خواصّ متغيّبين عن الأرض بصفة عامة. ترتّب عن ذلك مباشرة نزوح 380 ألف شخص من الأرياف إلى المدن خلال الفترة الممتدة من 1969 إلى 1975 14.

قرّرت الدولة إذن تبنّي سياسات ليبرالية في علاقة بالإنتاج الفلاحي وذلك بالاندماج التدريجي في الأسواق العالمية. تُرجِم ذلك من خلال التعويل على الفلاحة التصديرية المرتكزة على فلسفة “الإمتيازات المقارَنة” داخل السوق العالمية. تعزّز إنتاج التمور والقوارص واللوز وزيت الزيتون والخضر الموجّهة للتصدير، وفي مقابل ذلك تمّ تهميش نشاطات زراعة الحبوب والمواد العلفية وتربية الماشية وإنتاج اللحوم والحليب وتعويضها بالاستيراد بدل الاستثمار.

أدّى هذا التمشّي إلى تبنّي برنامج الإصلاحات الهيكلية المفروض بقروض من قبل صندوق النقد الدولي سنة 1986. يحثّ هذا البرنامج على رفع يد الدولة عن القطاع الفلاحي والتحرير التدريجي للسوق وتسريع نسق الانفتاح على الأسواق العالمية. تمت ترجمة هذه الشروط عبر إجراءات من نوع تخفيض دعم القطاع الفلاحي وإعادة هيكلة القروض وخوصصة شبكات التوزيع والبيع، ومن أهمّها ديوان الحبوب.

تواصلت سياسات التبعية هذه من خلال الانخراط في اتفاقيات إقليمية وعالمية نذكر منها “الاتفاقية العامة للتعريفة الجمركية والتجارة (GATT)” سنة 1990، والتي اشترطت مزيدا من رفع الدعم وفك القيود الجمركية عن المنتَجات الفلاحية في العالم. كما لا ننسى أيضا “اتفاقية الشراكة مع الإتحاد الأوروبي” سنة 1995 والتي أمْلت تحرير التبادل بين تونس والاتحاد الأوروبي وإجراءات الإعفاء من المعاليم الديوانية للمنتوجات الفلاحية بين الأطراف الموقّعة.

ختاما

حاول هذا المقال تِبْيان مفهوم “المسألة الزراعية” وتعداد تجارب تطبيقها في العالم وفي تونس قصد الوقوف على فكرة شمولية النظام الرأسمالي العالمي وتأثيره المباشر على السياسات المحلية والوطنية للدول.

لقد ارتأينا من خلال الخوض في هذه المسألة أن نُبيِّن مختلف السياسات الفلاحية التي تم اعتمادها عبر التاريخ قصد محاولة تجاوز النظرة الحتمية التي ترى بانعدام البدائل. من جهة أخرى، تُمثّل التجارب التاريخية نقطة إلهام للتعامل مع القطاع الفلاحي المعاصر وخلق سياسات أكثر عدلا.


1. Karl Kautsky, La question agraire: Étude sur les tendances de l’agriculture moderne, Paris 1900.

2. V. I. Lenin, The Agrarian Programme of Social-Democracy in the Russian Revolution, Lenin Collected Works, Progress Publishers, 1973, Moscow, Volume 15, pp 158-181.

3. Sam Moyo, Praveen Jha and Paris Yeros, The Classical Agrarian Question: Myth, Reality and Relevance Today, Agrarian South: Journal of Political Economy 2(1) 93–119, 2013.

—, The Agrarian Question in the 21st century, Economic and Political Weekly, September 2015.

4. Eugene Preobrazhensky, The New Economics, Oxford University Press, 1965, pp 77-146.

5. علي القادري، تفكيك الاشتراكية العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، 2020.

6. Mustapha Jouili. AJUSTEMENT STRUCTUREL, MONDIALISATION ET AGRICULTURE FAMILIALE EN TUNISIE. Économie et finance quantitative [q-fin]. Université Montpellier 1, 2008.

7. عبد الله بن سعد، كيف السبيل لإعادة هيكلة الأراضي الدولية خدمة لجماهير الكادحين في الريف التونسي؟ الحوار المتمدن، 12/11/2015. الرابط: https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=492315

8. Mohamed Elloumi, « Les terres domaniales en Tunisie », Études rurales [En ligne], 192 | 2013, mis en ligne le 24 février 2016, consulté le 30 Mars 2022. URL : http://journals.openedition.org/etudesrurales/9888;DOI:https://doi.org/10.4000/etudesrurales.9888.

9. حافظ ستهم، الأرض والفلاح والسوق والمجتمع في المغرب العربي (تونس والجزائر والمغرب الأقصى)، مركز النشر الجامعي، 2004.

10. نفس المصدر.

11. نفس المصدر.

12. نفس المصدر.

13. ياسين النابلي، أحمد بن صالح وتجربة التعاضد: السّير الأعرج وراء مزمار بورقيبة، المفكرة القانونية تونس، 17/11/2202، الرابط: https://legal-agenda.com/أحمد-بن-صالح-وتجربة-التعاضد-السّير-الأ/

14. الهادي التيمومي، تونس 1956-1987، دار محمد علي الحامي، الطبعة الثانية 2008.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !