التاريخ الثوري للفلّاحة التوانسة

بقلم هيثم صميدة-قاسمي، باحث في السياسات الزراعية



“وأهل البدو … قائمون بالمدافعة عن أنفسهم لا يكلونها إلى سواهم ولا يثقون فيها بغيرهم فهم دائما يحملون السّلاح ويتلفّتون عن كلّ جانب في الطّرق و يتجافون عن الهجوع إلّا غرارا … ويتوجّسون للنّبئات والهيعات ويتفرّدون في القفر والبيداء مدلين بيأسهم واثقين بأنفسهم قد صار لهم البأس خلقا والشّجاعة سجيّة”. عبد الرحمان بن خلدون، المقدمة.

إن الثورات، مثل الحروب، يكتب تاريخها المنتصرون. ولئن تفرّق هؤلاء المنتصرون، فإن المنتصر الأخير يحظى بكل التقدير والعرفان فيما يبقى السبّاقون للنفير الحربي أو الثوري في سراديب التاريخ.

هكذا هي الحال مع الحراك الثوري الذي قام في البلاد التونسية بين 2010 و2011، فقد تميزت التحاليل بالتركيز على بعده الحضري/المديني سواء كان ذلك على النطاق الجغرافي لمجالات التحرك أو على المستوى الديمغرافي للقوى المشاركة في الحراك.

كان من السهل ملاحظة أن المدن الكبرى قد زادت في زخم الحراك الثوري الذي انطلق من الجهات الداخلية فكانت اللحظات الحاسمة التي أدت إلى هروب الرئيس متمركزة في مناطق مثل صفاقس والأحياء الشعبية المتاخمة للعاصمة.

من جهة أخرى، لعبت الفئات المدينية من طلبة ومعطّلين عن العمل ونقابيين وأساتذة ومحامين وغيرهم من الموظفين دورا هاما في إيصال الحركة الشعبية إلى أعتاب السلطة ورموزها وعلى رأسها وزارة الداخلية.

كتب القليلون، مثل حبيب العايب1 ومحمد اللومي2 عن الجذور الفلّاحية للحراك الثوري في تونس سنتيْ 2010-2011 فبيّنوا تأثيرات المنوال التنموي الذي يفضّل المدينة على الريف ويشجّع على النزوح ويفقّر صغار الفلّاحة من خلال امتصاص فائض القيمة الزراعي من اﻷرياف لتغذية سكان المدن. ولعلّ أبسط تعبير عن ذلك يكمن في تلك النسبة المرتفعة من الطلبة والبطّالة من الذين شاركوا في الحراك والذين ينحدرون من المناطق الداخلية للبلاد التونسية التي يطغى عليها الطابع الريفي وإن تمدّنت حديثا فإن نسبة كبيرة من آباء وأمهات هؤلاء الشباب الثائر فلّاحة (نعتبر صيغة الجمع هذه التي تشمل الفلّاحين والفلّاحات ونعني بها صغار المنتجين/ات الفلاحيين/ات).

بدا الحال وكأنّ الدولة الوطنية قد خانت طبقة الفلّاحة الصغار حين أقنعت أبناءهم بترك النشاط الفلاحي والأراضي مقابل توظيف موعود يعتمد على شهائدهم العليا. وبعد سنين من الدراسة، كانت الدولة قد تخلّت عن دورها في تشغيل خرّيجي جامعاتها كما أنها قد ضيّقت الخناق عن صغار الفلّاحة بسياسات منحازة إلى كبار مُلّاك الأراضي.

لا تبدو الجذور الفلّاحية للحراك الثوري الذي اندلع سنة 2010 واضحة. لكنّها تسطع جاهرة في التاريخ الثوري للبلاد التونسية. فقد كان الفلّاحة بمثابة المحرار حين يكونون سبّاقين في التقاط مساوئ الحكم ونتائجه عليهم كما أنهم كانوا دائما مسارعين إلى الثورة عليه.

يحاول هذا المقال، في مرحلة أولى، تتبع أسباب غياب الاعتراف بالدور السبّاق للفلّاحة في التمرد والانتفاض. ثم يسرد، في مرحلة لاحقة، تعامل الفلّاحة مع البايات في القرن 19 ومع الاستعمار الفرنسي منذ لحظة دخول عساكره حتى وقت خروجها.

جذور تحقير دور الفلّاحة

لطالما كانت اللغة صاحبة سلطان ونفوذ متغلغل في الأذهان ومعشش في اللاوعي. فالمفردات تحمل معاني وجذورا تشي بفلسفة معينة تجعل المدلول يطابق دالّه من الكلمات.

صلب موضوعنا هذا، نلاحظ بأن لفظ “الحضارة” في اللسان العربي يعني الإقامة في الحضر والتمدّن3. نفس الحال بالنسبة للمنطوق اللاتيني الذي يربط “civilisation» بالمدينة، أي “civitas». من ناحية أخرى، فإن عكس الحضارة هو البداوة أي كل مجال من الأرض فيه المرعى والماء يسكنه البدو ولا عمارة فيه4.

وعلى سبيل المثال الثقافي، فإن الأعراب أشد كفرا ونفاقا كما أن صفة “الفلّاح” مسبّة في مصر ونعت أهل الأرياف والبادية بـ “العربان” منتشر في تونس كما هو الحال مع وصفهم بـ “الشاوية” في بلاد الشام.

في مراحل متقدمة من التاريخ، عمّقت الثورة البرجوازية الهوّة بين المدينة والريف وسكانهما. طبقا لما يحمله إسمها من معنى، فإن البرجوازية هم سكان “المدن المحصّنة” حسب الأصل اللاتيني “burgus». هذه الطبقة قلبت نمط الإنتاج العالمي من إقطاع إلى رأسمالية. عمّق هذا النظام الاستنزافي التناقض بين المدن التي تمتهن الصناعة والأرياف التي تقتات من الفلاحة فتضخّم امتصاص الفائض الفلاحي – في جانبه الغذائي خاصة – كي يُطعم أفواها أُنهِكت أبدانها بالعمل الصناعي المضني وانتفخت به كروش أخضعت أجساد سكان المدينة وسكان البادية على حد السواء.

حتى النظريات الأكثر ثورية، ونعني هنا الماركسية، فقد حقّرت من دور الفلّاحة في الفعل الثوري وقيادته حيث أن كارل ماركس نفسه قد اعتبر فلّاحة فرنسا إبان كومونة باريس “أكياس بطاطا” مشتتة لا تشترك في مصالح ولا تملك حسا وطنيا أو تنظيما سياسيا يجعل منها طبقة أصلا5.

ورغم اختزاليتها واكتفائها بمعطيات محدودة في الناريخ والجغرافيا، فقد استمرت هذه النظرة الماركسية للفلّاحة خاصة فيما يتعلق بنظريات “المسألة الزراعية”.

لم يولي فريديريك إنجلز أهمية لمشاريع الإصلاح الزراعي التي نادت بها الأحزاب الإشتراكية الديمقراطية الألمانية كما اعتبر كارل كاوتسكي طبقة الفلّاحة ملعونة تاريخيا ويائسة سياسيا باستثناء بعض أولئك الذين يمكنهم توسيع “آفاقهم الفكرية” من خلال الهجرة الخارجية.

ثم بدأ التحول التدريجي مع سياسات فلاديمير لينين حين أعلن “الصراع من أجل الأرض” كخطة استراتيجية في تحالف الفلّاحة الفقراء مع الطبقة العاملة. لكنه لم يسائل أبدا قيادة البروليتاريا للثورة.

تجاهلت هذه النظريات والممارسات البعد الغائب في المجتمعات الأوروبية في ذلك الزمن ألا وهو التحرّر الوطني من الاستعمار. ففي الصين مثلا، صدح ماو تسي تونغ بشعار “السلطة لرابطات الفلاّحة” خلال الحرب الشعبية طويلة المدى معتمدا على أكثر طبقة تواجه التراكم البدائي الرأسمالي. قضى هذا التوجه بتحقيق الاستقلال الوطني وبناء توجه اشتراكي جديد من خلال التحالف الصلب بين الفلّاحة والعمّال.

وفي موجة تحرّر إفريقيا من الاستعمار، برز منظّرون ماركسيون أكثر إيمانا بطبقة الفلّاحة نذكر منهم فرانز فانون وأميلكار كابرال. قدّم هذان المفكّران المناضلان نظريات حول تكوين الفلّاحة لطبقة ثورية بالفعل والفكر. تمثّل هذه الطبقة المعدومة “معذّبي الأرض” حسب تعبير فانون أولئك الذين لا يملكون شيئا يخسرونه وكل شيء ليغنموه. بالفعل، أثبتت هذه الطبقة خلال حروب التحرير الوطني في أمريكا اللاتينية والكاريبي وآسيا وإفريقيا ترفّعها عن أفكارها الرجعية من تطيّر وقبلية وصراعات داخلية من أجل توجيه طاقاتها نحو الثورة الوطنية ضد الاستعمار6.

الفلّاحة التوانسة تحت حكم البايات

ينقل لنا الأثر التأريخي لابن أبي الضياف الروح الثورية للبدو إذ قال عنهم أنهم يستجيبون لكل صيحة متنافرة. هكذا كانت الحال على الأقل خلال القرن التاسع عشر تحت الحكم الحسيني للإيالة التونسية.

يدرس محمد الهادي الشريف الحركات الفلّاحية في البلاد التونسية خلال القرن التاسع عشر7 فيقسّم أنماطها إلى حركات فردية وأخرى جماعية محدودة في الصراع على الأرض والماء وثالثة ترتقي إلى رتبة الانتفاضات المحلية.

أما الحركات الفردية فتتمثل في عصيان الخمّاس لسيّده والشريك الريفي لشريكه الحضري فيبلغ هذا التمرد حد “السرقة”. من جهة أخرى، كانت أعمال قطع الطريق واللصوصية دارجة في صفوف الفلّاحة والتي تتسم بكونها “اجتماعية” أي أنها حركات استرداد للحقوق والممتلكات من عند الناهبين من كبّار المُلّاك. كما أن السياسات الجبائية المجحفة قد رفّعت من مديونية الفلّاحة فرمتهم في غياهب العجز على سداد ديونهم مما يعرّضهم لعقلة ممتلكاتهم وسجن أجسادهم فارتفع بذلك عدد الخارجين عن القانون تمرّدا.

عدى هذه الأعمال الفردية، انتشرت أيضا الصراعات على الأرض والماء. ففي سنة 1857، نشب خلاف كبير بين مجموعة من الفلّاحة وأحد أعيان منطقة الساحل حول استغلال مياه وادٍ يجري هناك. كما استحوذ جمع من الفلّاحة الآخرين بنفس المنطقة على أرض تملكها شخصية مرموقة تدعى “حسن المقرون” ثم انتهى الصراع بسجن 17 فلّاح وطرد البقية من الأرض بالقوة والغصب.

أما النمط الثالث من الصراع الفلّاحي فيتمثل في انتفاضات العروش والقبائل في ربوع مختلفة من البلاد التونسية. تعددت هذه الانتفاضات فاستهلّها “أولاد مساهل” بأرض ماجر من الوسط الغربي والتي اختلف المؤرخون في تاريخها إذ يقول “ابن أبي ضياف” بأنها صارت سنة 1795 بينما يذهب “منشيكور” في رأي قيامها سنة 1812. تلتها انتفاضة “عرب الكاف” سنة 1817 ثم انتفاضة قبائل منطقة صفاقس وصولا إلى الحدود الطرابلسية سنة 1819. انتفضت من بعدهم عروش باجة في الشمال الغربي سنتيْ 1824-1825 قبل أن يأتي الدور على أهالي ماطر سنة 1837. أما سنة 1840، فقد توازت حركة كبيرة في أرض “الهمامّة” بالجنوب التونسي مع تحركات “عمدون” في شماله قُبيْل أن تنتفض قبائل “خمير” أقصى الشمال الغربي سنة 1844.

وبين سنوات 1854 و 1857، رفضت القبائل الجبلية في الشمال الغربي دفع الجباية إلى السلطة المركزية في نفس الوقت الذي ناصرت فيه قبائل الجنوب من بني زيد وجزء من قبائل مطماطة ونفزاوة قضية القائد الطرابلسي “غومة المحمودي” ضد سلطة الباي خلال سنوات 1856 و 1858.

تكثفت هذه الحركات التمرّدية حتى استوت ونضجت في لحظة انتفاضة “علي بن غذاهم” سنة 1864 التي كانت مُحكمة التنظيم دقيقة المطالب واضحة الأعداء.

قبلها بما يناهز ثماني سنوات، استحدثت السلطة المركزية جباية على الذكور البالغين قُدِّرت بـ36 ريالا. استثنت هذه الجباية سكان المدن الكبرى من تونس وسوسة وصفاقس والمنستير والقيروان كما تم إعفاء موظفي الباي ورجال الدين والطلبة والجنود منها. فما بقي من سكان الإيالة ممن كُتِبت عليهم الجباية سوى الفلّاحة وغيرهم من مهمشي الأرياف والبوادي.

وفي سنة 1864، تم تضعيف هذه الجباية حتى بلغت 72 ريالا فثارت ثائرة القبائل الغربية وسط البلاد وجنوبها فاجتمعت وعزمت على الانتفاض. انطلقت هذه الانتفاضة من جبال الظهري وامتدت إلى القيروان والجريد وانتشرت غرب الكاف حتى وصلت إلى مجردة فتسلّح الثوار سريعا بالبنادق والبارود.

التحق سكان المدن بالثورة فالتحمت القوى عند تطويق محلة “سي سليم” في صفاقس كما اغتال الثوّار عامل الكاف “الجنرال فرحات” والعربي بن عمار البكوش عامل ماجر. تقدمت الجحافل فنهبت خزائن قابس وسلبت مدينة المهدية كما استولت على مدينة القيروان. كان الثوار واضحين في توجههم باسترجاع حقوقهم المنهوبة من خزائن الدولة إذ أنهم ركّزوا هجوماتهم على مراكز السلطة وممثليها وممتلكاتهم دون أن يتعرّضوا لعامة الناس.

لم تتحول الانتفاضة إلى ثورة تقلب موازين الحكم وتنزع السلطان عن الباي وحاشيته ولكن مثلت “انتفاضة بن غذاهم” لحظة فارقة في تاريخ الانتفاضات الفلّاحية التي مرّت من طباعها الفردية أو المحلية إلى طابعها “الوطني” إذ أذنت بانبلاج فجر الترفّع على العصبيات القبلية من أجل أفق أرحب من الأرحام يهيّئ الوعي الجمعي لمقاومة الاستعمار الفرنسي الراسي على الموانئ التونسية.

الفلّاحة التوانسة والاستعمار

كان الفلّاحة وسكان البادية سبّاقين في التصدي للاستعمار الفرنسي الذي حل بالبلاد التونسية سنة 1881. تتعدد تفسيرات دواعي هذه المقاومة ولعل أهمها تلك المطامع الفلاحية الفرنسية الظاهرة للعيان والتي سبقت الاحتلال “الرسمي” بسنوات ونذكر منها استحواذ “الشركة المرسيلية للقروض” على هنشير النفيضة الذي يمسح 100 ألف هكتار من الأراضي الخصبة والذي اشترته بثمن بخس من عند خير الدين باشا واكتفت فيه بأنشطة المضاربة والبيع دون استغلال فلاحي ينتج المحاصيل ويشغّل الفلّاحة8.

أما عند الدخول العسكري الرسمي، سارعت السلطات الاستعمارية في شراء الرصيد العقاري الفلاحي من عند شركات المضاربة وباعتها للمعمّرين المستقرين بالبلاد التونسية حتى بلغت مساحة الأراضي تحت أيديهم نسبة 52% من التراب الزراعي التونسي9.

لم يجف حبر معاهدة باردو التي أبرمها المستعمر مع الباي في ماي 1881 حتى تعالت حركات التمرد الفلّاحي خاصة في دواخل البلاد وسط التجمعات القبلية.

يفصّل “محمد الحماص” في كتابه “الاستعمار الفرنسي وقبائل الوسط والجنوب”10 اجتماعات العروش وتحركاتها ضد الاحتلال والتي قررت تجاوز خلافاتها والتحالف من أجل المقاومة.

يذكر المؤرخ أن في بداية شهر رمضان من سنة 1881 (التي توافق نهاية شهر جويلية) اجتمعت عروش الهمامة في زاوية سيدي بوزيد وزمالة القايد “أحمد بن يوسف” لتباحث شأن الإستعمار. مثّل هذا الاجتماع لحظة القطيعة الأولى في التحالف بين الهمامة والباي الحسيني وذلك بسبب خياره الاستكانة للاحتلال الفرنسي.

قاد أحمد بن يوسف العروش في خيار المقاومة إذ قام بتوزيع الدعوات وترؤس الإجتماعات التي حشدت فيها أعداد غفيرة من الناس القادرة على حمل السلاح والمتحمسة لمقارعة الاستعمار.

كانت هذه الاجتماعات تحضيرية لـ “ميعاد سبيطلة” الذي انعقد يوم 19 أوت 1881 وضمّ إليه العديد من القبائل قصد التشاور حول التدخل الفرنسي في البلاد التونسية. تململت الجموع في البداية واختلفت رؤاها إلى أن تقلّد كل من أحمد بن يوسف والحاج الحراث مسؤولية إقناعها بخيار المقاومة.

وكان الأمر كذلك. فبعد أيام قلّة، اندلعت معركة “بير حفيّظ” بين 26 و28 أوت 1881 بقيادة “حسين بن حسين المسعي” كما تزامنت معها معركة “الأربعين” في منطقة الحمامات التي نشبت بين أولاد سعيد والجيش الفرنسي الذي تم إجباره على التقهقر إلى تونس. تلت هاتين المعركتين معركة مساكن التي قادها علي بن عمارة الجلاصي والتي امتدت على يوميْ 7 و8 أكتوبر. ثم كانت معركة “كدية الحلفاء” يوم 25 أكتوبر والتي شارك فيها 4 آلاف مقاتل تونسي وأسفرت على مقتل 20 جنديا فرنسيا في كمين محكم.

وفي السنة الموالية، تبلورت المقاومة فأصبحت أكثر تنظيما وأدقّ أهدافا. ففي يوم 5 مارس 1881، هاجمت زمرة من المقاومين قافلة من المعمِّرين فيما عُرِفَ باسم “معركة السواطير” على مشارف مدينة القيروان من جهة طريق تونس. غنم المقاومون فيها كميات كبيرة من المواد الغذائية كحركة استرجاع ما نهب منهم الاستعمار الذي استحوذ على الأراضي الزراعية وعلى قطعان الماشية فحرمهم من الاسترزاق والكفاف. مثلت هذه الغارة ضربة قوية للسلطات الاستعمارية حملتها على فرض حظر التجوال في مدينة القيروان والقيام بحملات شعواء للبحث عن منفذي هذه الخطوة.

زرعت هذه المقاومة البدوية الكبرى بذور الصراع ضد الاستعمار الفرنسي فأضحى رفض الاحتلال متجذرا شعبيا وناضجا تنظيميا.

ففي سنة 1906، انتفض الفلّاحة في تالة ضد المستعمر في ما يطلق عليه اسم “خطرة الفراشيش”. مثّلت هذه الانتفاضة ردة فعل قوية ومنظمة ضد استحواذ المعمرين المتزايد على الأراضي الخصبة وتحويل السكان إلى خمّاسة وأجراء. كانت هذه الهبة واضحة الأهداف والأعداء حيث أن الهجوم كان موجّها نحو المعمّرين أنفسهم وممتلكاتهم بعينها11.

في الجهة المقابلة من البلاد التونسية، انتفض الجنوب الشرقي سنة 1915 في مجال يمتد بين ذهيبة وتطاوين. قامت “انتفاضة الودارنة” ضد القبضة العسكرية الفرنسية خلال الحرب العالمية الأولى ودخول إيطاليا إلى طرابلس. سبقت هذه الانتفاضة اجتماعات سرية تحضيرية بين عروش الجهة قبل أن تنطلق المواجهات في شهر سبتمبر. كان الهجوم داميا وموجعا للاستعمار الفرنسي لدرجة دفعه على استعمال سلاح الطيران بكثافة وإحداث “اللواء الصحراوي لتونس”. تم إخماد هذه الثورة بالنار والحديد والإعدامات والتعذيب ولكنّها أنجبت مقاتلين أشداء واصلوا معارك حرب العصابات مثل محمد الدغباجي والبشير بن سديرة.

أثرت الحربان العالميتان وخاصة الثانية منهما على مسار المقاومة التونسية للاستعمار. ففي سنة 1943، انتفض المرازيق القاطنون بنفزاوة (قبلي حاليا) ضد الجيش الفرنسي الذي حاول تجنيد الأهالي قسريا من أجل المشاركة في الحرب العالمية ضمن صفوفه. كانت “ثورة المرازيق” درسا تاريخيا في اللعب على التناقضات فقد رفض المقاومون مساعدة فرنسا في حربها ضد ألمانيا كما أنهم استغلوا ضعفها وتشتت قواها حين دخلوا في معارك شتى كبدت العساكر الفرنسية خسائر جمّة. نذكر من هذه المعارك، معركة دوز ضد ثكنة توزر بقيادة علي الصيد ومعركة غابة تامزرط التي شارك فيها عدد مهم من النساء وغنم منها المنتفضون كميات معتبرة من المؤونة والأسلحة12.

على أعقاب الحرب العالمية الثانية، انطلقت شرارة انتفاضة فلّاحية أخرى في منطقة الساحل أشعل فتيلها “فلاقة زرمدين” سنة 1948 من خلال تحركات وهجمات في قرى وأرياف زرمدين مستغلين في ذلك التضاريس الوعرة التي لا يقدر عليها الجيش الفرنسي سوى مشيا إذ يصعب على الشاحنات العسكرية الخوض فيها. كانت المواجهة واضحة البوصلة ضد رموز السلطة المحليين المتخابرين مع فرنسا ولعل أهمهم “علية البريقي” قايد المنطقة الذي تمت مهاجمة منزله وإتلاف ممتلكاته. شاركت هذه المجموعة أيضا في معركة الفايض بمنطقة بني حسان التي تكبد فيها الجيش الفرنسي خسائر بشرية كبيرة كما أسفرت هذه المعركة عن استشهاد شيخ كان يخفي الفلاقة في أرضه الفلاحية.

يرى المؤرخ “الهادي التيمومي” هذه الانتفاضات كتطور منطقي لحركة المقاومة13. فقد أصبحت التحركات ذات طابع وطني ضد رموز الاستعمار وأيضا ذات طابع طبقي ضد الأعيان المحليين المتعاونين مع السلطة الاستعمارية. يفسّر كذلك هذا التطور بصلابة العامل الديني في صفوف الفلّاحة مما عزز لحمتهم وتنامي الحس الوطني لديهم وذلك بقيامهم بتحركات خارج مجالهم القبلي. لقد شهدت هذه المقاومة إذن تحوّلا من الثورة ضد الأحوال الاجتماعية المتردية ضد السلطات المحلية إلى الثورة السياسية ضد الاستعمار المنادية بالاستقلال.

التقت العديد من العوامل التاريخية الموضوعية كي تساهم في نضج المقاومة الفلّاحية ضد الاستعمار. مثلت هزيمة فرنسا في الحرب العالمية شرخا في جيشها المنهك والمشتت على العديد من الجبهات كما أن المقاومين قد تمرسوا على السلاح وحرب العصابات التي ابتدعوها وأتقنوها خلال مشاركتهم في المقاومة الطرابلسية ضد الاستعمار الإيطالي وحين هبوا لمعاضدة إخوانهم في فلسطين في الحرب العربية/الصهيونية سنة 1948.

هكذا، انتشر في الخمسينات وعي وطني عظيم في الأرياف والبوادي فتم تجاوز الأطر القبلية وتحوّلت المقاومة إلى كتائب عسكرية منظمة. اضطر أيضا الحزب الحر الدستوري الجديد إلى التعامل مع هؤلاء البدو فتكوّن تحالف بين المقاومة السياسية المدينية والمقاومة العسكرية الريفية. أنتج هذا التحالف حركة الكفاح المسلح التي امتدت بين جانفي 1952 ونوفمبر 1954.

ختاما

باعتبارهم الحلقة الأضعف داخل سلسلة القيمة وفائضها، كان صغار الفلّاحة ومازالوا أكثر الطبقات تعرّضا للحيف السياسي والعنف الاقتصادي والاجتماعي. لهذا السبب ولغيره، مثّلوا محدّدا في استشعار سوء الأحوال.

نحلل في المقال القادم مفهوم “المسألة الزراعية” كي نحاول فهم تأثير التوجهات السياسية على صغار الفلّاحة وعلى الإنتاج الفلاحي والمجال الريفي.


1. Habib Ayeb, Social and political geography of the Tunisian revolution: the alfa grass revolution, Review of African Political Economy, Volume 38, 2011 - Issue 129, pp 467-479, 26 August 2011, URL: https://www.tandfonline.com/doi/full/10.1080/03056244.2011.604250?scroll=top&needAccess=true

2. Mohamed Elloumi, Trois ans après : retour sur les origines rurales de la révolution tunisienne, Confluences Méditerranée 2013/4 (N° 87), pp 193 - 203, URL: https://www.cairn.info/revue-confluences-mediterranee-2013-4-page-193.htm

3. https://www.almaany.com/ar/dict/ar-ar/حضارة/

4. https://www.almaany.com/ar/dict/ar-ar/بداوة/

5. Karl Marx, The Eighteenth Brumaire of Louis Napoleon, 1852, URL: https://www.marxists.org/archive/marx/works/1852/18th-brumaire/

6. Sam Moyo, Praveen Jha and Paris Yeros, The Classical Agrarian Question: Myth, Reality and Relevance Today, Agrarian South: Journal of Political Economy 2(1) 93–119, 2013, URL: https://journals.sagepub.com/doi/10.1177/2277976013477224

7. Mohamed-Hédi Chérif, Les mouvements paysans dans la Tunisie du XIXe siècle, Revue des mondes musulmans et de la Méditerranée, pp. 21-55, 1980. URL: https://www.persee.fr/doc/remmm_0035-1474_1980_num_30_1_1888

8. Mohamed Elloumi, « Les terres domaniales en Tunisie », Études rurales [En ligne], 192 | 2013, mis en ligne le 24 février 2016, consulté le 30 Mars 2022. URL : http://journals.openedition.org/etudesrurales/9888;DOI:https://doi.org/10.4000/etudesrurales.9888.

9. حافظ ستهم، الأرض والفلاح والسوق والمجتمع في المغرب العربي (تونس والجزائر والمغرب الأقصى)، مركز النشر الجامعي، 2004.

10. محمد الحماص، الاستعمار الفرنسي وقبائل الوسط والجنوب بالبلاد التونسي 1881 - 1950، مركز النشر الجامعي، الطبعة الثالثة 2014.

11. الهادي التيمومي، انتفاضة تالة القصرين 1906، دار محمد علي للنشر، الطبعة الثانية، 2011,

12. محمد المرزوقي وعلي المرزوقي، ثورة المرازيق 1943، دار بوسلامة للطباعة والنشر والتوزيع، 1979.

13. الهادي التيمومي، تاريخ تونس الاجتماعي 1881 - 1956، دار محمد علي الحامي، طبعة منقحة ومعدلة 2021.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !