رأي | التطبيع الأكاديمي: الجريمة ومحاولات إخفاء معالم الجريمة (الأستاذ القزدغلي بين خطيئة 2009 وخطيئة 2023 )

بقلم عبد الجبار الرقيقي

ناشط نقابي وحقوقي

اندفع لفيف من أصدقاء الأستاذ القزدغلي وطلبته ونفر ممّن تذكّروا واجب الدفاع عن الحريات الأكاديمية للذود عنه وتبرئة ذمّته والدعوة لإنصافه من “الحيف” الذي لحق به جراء البيانات التي  أصدرتها نقابات التعليم العالي وجامعة منوبة. وهاهي جهود هؤلاء تُتوّج بعريضة يحشدون لها الإمضاءات، وقد اجتهد المدافعون عن الأستاذ القزدغلي في تحويل مركز الجدل القائم من جريمة التطبيع إلى مجموعة من الهوامش المفتعَلة، وهو الأسلوب نفسه الذي دأب الأستاذ القزدغلي على انتهاجه في كل المناسبات التي انكشفت فيها ممارساته التطبيعية. ونحن في هذا النص نهدف بالأساس إلى إعادة النقاش والصراع إلى الجوهر وإلى البواعث الأصلية في حين يقاتل القزدغلي ومن ينصره من أجل إثارة الغبار حول الأصل و التعمية عليه بالتوغل المستمر في حقل الهوامش غير ذات العلاقة بالأصل وهو جريمة التطبيع. وسيكون منهجنا قائما على إزاحة الغبار والحفْر في الأصل بتفكيك الحجج التي ارتكزت عليها ردود الأستاذ القزدغلي وأنصاره.

1 ) يُشهر أنصار القزدغلي سيوفهم دفاعا عنه وكأنه ضحية مؤامرة شيطانية وهو الملاك الطاهر العفيف، وكأنّ هذه هي المرّة الأولى التي يرتكب فيها خطيئة التطبيع. والحقيقة أنّ الأستاذ القزدغلي قد دأب على هذه الممارسات منذ سنوات طويلة وكان دوما يبرع في التكتم عليها ولا يثار الجدل حولها الا حين يتمّ الكشف عنها. وقد سبق لي شخصيا أن كشفت تورطه سنة 2009 وأرسلت مقالا إلى جريدة الطريق الجديد تام التوثيق، غير أن الطريق الجديد اعتذرت عن نشر المقال بعد استشارة الأستاذ القزدغلي، فاضطررت لنشره بجريدة الموقف على مساحة صفحة كاملة وعنوانه : ” ما سكت عنه الأستاذ القزدغلي “، وخلاصة المقال الكشف عمّا تستّر عليه حين تحدّث عن مشاركته في الأعمال البحثية التاريخية التي كلّفه بها المؤرخ الأمريكي روبار ساتلوف في إطار ترشيح التونسي خالد عبد الوهاب لنيل جائزة “الصالح بين الأمم”. وهذا المواطن التونسي قد كان أنقذ 24 تونسيا يهوديا وأخفاهم في ضيعته بالمهدية حماية لهم من حملات الجيش الألماني سنة 1942، ونحن طبعا فخورون ببطولة هذا المواطن التونسي الذي أنقذ إخوته رغم اختلافهم عنه في الديانة.

ولكن الخبث وسوء النيّة وقصدية الخطيئة تتمثل في أنّ الأستاذ القزدغلي كعادته أخفى عنّا طبيعة هذه الجائزة، التي ساهم في التحضير للترشيح لها بعمله البحثي التاريخي، لأنه يدرك جيدا الحرج الذي يمكن أن يلحقه لو كشف حقيقتها.

فهذه الجائزة ( الصالح بين الأمم ) هي أعلى توسيم أو تشريف تمنحه دولة الكيان الصهيوني لشخص مدني إلى حدّ الآن، وقد أُحدثت بموجب قانون أصدره ” الكنيست “، البرلمان الصهيوني، يوم 19 أوت 1953 ودخلت حيز التنفيذ سنة 1963  وتسندها لجنة يترأسها قاض من المحكمة العليا الإسرائيلية وتسلّم باسم دولة “اسرائيل” . ويُمنَح الحائز على الجائزة ديبلوما شرفيا وميدالية تحمل اسمًا اسرائيليًا في رمزها الرسمي وقد خُصّصت ممرّات لمن يحوزون هذه الجائزة في حديقة المتحف التذكاري لضحايا المحرقة ( ياد فاشيم ) في القدس وتُثبّت رخامة يحفر فيها اسم الحائز على الجائزة وتسلّم في موكب رسمي يحضره قادة الكيان الصهيوني في موكب مهيب، الّا أنّ التونسي خالد عبد الوهاب لم يفز بالجائزة رغم ترشيحه.

وحين صدر المقال الذي كشفنا فيه هذه الحقائق الصادمة، التي اجتهد القزدغلي في إخفائها، طلب حق الردّ وصرّح في ردّه أن التطبيع ليس من شأن الأفراد بل ينحصر في الشأن السياسي والعلاقات بين الدول.

2 ) السؤال الذي يمكن أن يطرحه  قارئ هذا النص هو : وما علاقة 2009 بـ 2023 ولماذا العودة إلى جائزة  “الصالح بين الأمم” والأعمال البحثية التي أنجزها لفائدتها القزدغلي مفتخرا ؟

لقد عدنا إلى 2009 للقواسم المشتركة بين الممارستين : وهي أن التطبيع يتمّ تحت ستار البحث التاريخي الأكاديمي، اختصاص القزدغلي، وأنّ الجائزة الأولى إسرائيلية قلبا وقالبا والجمعية الفرنسية التي سيشارك القزدغلي في ندوتها 2023 تنتهي غايتها إلى احتفال سنويّ تقيمه هذه الجمعية لتكريم الضحايا اليهود التونسيين الذين اعتقلتهم القوات النازية سنة 1942 في تونس وقادتهم إلى المحتشدات يكون بحضور رسمي من الكيان الصهيوني والمنظمات اليهودية المتصهينة. أو بعبارة أخرى يقع تثبيت العقيدة الصهيونية الأساسية بأنّ يهود العالم قبل تأسيس الكيان الصهيوني وبعده لهم انتماء واحد هو “اسرائيل”، ومن خلال المقارنة بين ما ارتكبه القزدغلي مع جائزة “الصالح بين الأمم” وما ارتكبه بالشراكة مع الجمعية الفرنسية سنة 2023 نستنتج أنّه يسعى إلى غاية واحدة تخدم إحدى الأسس الجوهرية التي يقوم عليها الكيان الصهيوني ودعايته بأذرعها المختلفة، ومنها الذراع “الأكاديمي”، ولذلك نلاحظ وجوب الحضور الرسمي للكيان الصهيوني في هذه المناسبات.

3 ) إنّ الأستاذ القزدغلي، على عكس ما يروّج له هو والمدافعون عنه، ليس مجرد باحث أكاديمي يجد نفسه ذات ملتقى أو ندوة علمية بمحض الصدفة في حرج الحضور مع آخرين وافدين من الكيان الصهيوني، إنما القزدغلي تعرفه هذه الدوائر والشبكات جيدا ويعرفها وتقصده ويقصدها. ولذلك تجده حاضرا ويقدّم خدمته في أغلب هذه المناسبات، ولا أدلّ على ذلك من حضوره الفاعل في الندوات التي تُنَظَّم على هامش الحج اليهودي للغريبة : هذه المناسبة التي ترتفع فيها الأصوات سنويا للتنديد باستقدام مئات الزوار مباشرة من الكيان الصهيوني باعتراف الجهات الرسمية الصهيونية  ووسائل الإعلام العالمية ومنظّمي الرحلات.

فالحريات الأكاديمية المقدسة في نظرنا لا علاقة لها بالجدل الدائر حول خطيئة التطبيع، لأنّ البحث الأكاديمي الذي ينجزه الأستاذ القزدغلي في مثل هذه المناسبات يخدم كما بيّنا ذلك سواء في 2009 أو في 2023 غاية تسعى إليها بخبث وسوء نيّة الجهات المنظمة : هي الحضور الرسمي لقادة الكيان الصهيوني و ممثليه الرسميين لترسيخ عقيدة ثابتة أن اليهود في العالم أجمعين وطنهم الأوحد هو إسرائيل وانتماؤهم الحصري للصهيونية.

4 ) يروّج المدافعون عن الأستاذ القزدغلي أن إدانته بالتطبيع ليست سوى مؤامرة محبوكة النسج يشترك فيها طيف واسع من المتزمتين دينيا والمتعصبين قوميا من أنصار الاستبداد السياسي ومن أعداء الحريات عموما والحريات الأكاديمية خصوصا.  لكن، ولو افترضنا أن كل ذلك صحيح، لماذا إذن أصدر المكتب السياسي لحزب المسار في سنة 2018 قرارا صريحا بتجميد عضوية الأستاذ القزدغلي مؤكدا في البيان الذي تضمّن هذا القرار تأكيدا على تمسكه بحقوق الشعب الفلسطيني ورفضه التام لكافة أشكال التطبيع وتنبيها لمنتسبيه من هذه الممارسات؟!

الجواب واضح تمام الوضوح وهو أن حزب المسار قد وجد نفسه محرجا من الممارسات التطبيعية المتكررة للقزدغلي، ولا يوجد عاقل يرى في حزب المسار شبهة التزمت الديني والتعصب القومي ومعاداة الحريات الأكاديمية. غير أن الأستاذ القزدغلي قد تجاوز كل الحدود ووضع الحزب الذي انتمى إليه في حرج لا يحتمله فاضطر لتجميد عضويته.

5 ) هذا هو إذن جوهر القضية التي أثارت جدلا واسعا في أوساط النخب السياسية والأكاديمية على الأقل، إنها التطبيع مع الكيان الصهيوني بشكل إرادي مقصود واع. ولا ينكر القزدغلي هذه الممارسة ولا ينكر الجهات التي يتعامل معها، بما أنه لا يرى في ذلك حرجا لأنه ببساطة يؤمن بقوة بأن التطبيع لا يشمل الأفراد ولا المجال السياسي بل هو محصور حسب رأيه في العلاقات السياسية بين الدول لا غير. و بناء على هذا الرأي فإن القزدغلي سيكرر نفس الممارسات داخل تونس و خارجها بتعلة الحرية الأكاديمية و سيجد من ينبري للدفاع عنه.

6 ) يستشهد الأستاذ القزدغلي وأنصاره بالمنظمات الأممية والنقابية الدولية التي يكون فيها ممثلو الكيان الصهيوني أعضاء بصفتهم ينتمون إلى “دولة” معترف بها دوليا، ويضعون مشاركة القزدغلي في نفس المستوى. والحقيقة أنّ مشاركة القزدغلي في 2009 أو في 2023 لم تكن في منظمة أممية أو دولية، بل في عمل بحثي في إطار الترشيح لجائزة محدثة بموجب قانون الكنيست الصهيوني تسندها المحكمة العليا الإسرائيلية وتمنح باسم دولة الكيان الصهيوني بحضور أعلى مسوليه الرسميين وكذلك في ندوة تنظمها جمعية فرنسية متخصصة في تاريخ اليهود التونسيين والمغاربيين تقيم احتفالا سنويا يحضره ممثلو الكيان الصهيوني. وبالتالي فإن قبول المشاركة في هذه الندوة بمشاركة جامعات من الكيان الصهيوني لم تكن اضطرارا فرضته عضوية ممثلي الكيان لاعتبارهم ممثلي دولة عضو وإنما هو اختيار واع وإرادي ومُدرِكٌ تمام الإدراك لمحاذير هذه المشاركة وأنّ ما شارك فيه بعمله الأكاديمي سيُتوّج في نهاية المطاف بحضور رسمي لقادة الكيان الصهيوني وديبلوماسييه وهو خادم للعقيدة الصهيونية بشكل مباشر أو غير مباشر.

7 ) إننا إذ ندين خطيئة التطبيع الواعية والمقصودة المتسلحة بمجهود للإخفاء والتستّر وبمساع للتبرير و التعمية وبمحاولات لقذف المندّدين بها بشتى أنواع الترذيل والتحقير، فإننا نؤكد بقوة اعتزازنا بمواطنينا التونسيين من ذوي الديانة اليهودية وبحقوقهم الكاملة في وطنهم تونس لا وطن غيره، و بمساهماتهم المتميّزة التاريخية في الحركة الوطنية والفكرية والاجتماعية والفنية، ولا نقبل بالإساءة إليهم بأي شكل من الأشكال أو الحدّ من حرياتهم وحقوقهم المشروعة في وطنهم تونس. كما نؤكد إيماننا بالحريات الأكاديمية إيمانا مطلقا ودفاعنا عنها، ولكننا لن نعترف بالأعمال الأكاديمية التي تخدم غايات الكيان الصهيوني داخل تونس أو خارجها تمهيدا للتطبيع الشامل.


إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي إنحياز وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !