رأيْ | بعد خيبات العشرية الأخيرة: متى تخرج المجموعات الثورية من تخبطها ؟

إياد بن مبروك

عاشت تونس بين أواخر العام 2010 ومطلّع 2011، على وقع انتفاضة شعبية عصفت برأس السلطة السياسية في البلاد، بعد تراكم العفن على المستويين الاقتصادي والاجتماعي وعلى مستوى الحريات السياسية أيضًا. ومع لحظة فرار بن علي، ظنّ البعض منا أنّ المهمة الرئيسية قد أَُنجزت، فأقبلنا جحافل على العمل السياسي والثقافي والجمعياتي. في كلمة، فقد أقبلنا على الحياة مرة أخرى.

في المقابل سارع النظام أو ما تبقى منه، إلى التقاط اللحظة ومحاولة الخروج من عنق الزجاجة، فطلّ علينا ثلاثة من رموز النظام السابق، الوزير الأول، ورئيس مجلس المستشارين، وسفاح سابق مشرف على التعذيب بزنزانات وزارة الداخلية. وتولى محمد الغنوشي الرئاسة قبل أنّ يُمررها إلى فؤاد المبزع. ردّ المحتجون ب”القصبة1″ أين حاول الشباب الثائر توحيد الرؤى وبلورة الشعارات ضد ما اعتبروه التفافًا على الإنتفاضة واغتيالاً آخر لشهدائها. في الأثناء، واصل النظام الأخذ بزمام الأمور، بإقالة محمد الغنوشي من منصبه كوزير أول، وتم تعيين باجي قائد السبسي خلفًا له، وأُسندت له مهمة تنظيم انتخابات المجلس التأسيسي الذي كان أحد مطالب المحتجين في القصبة (وهو تكتيك سياسي يطول النقاش حوله). وكان تنظيم انتخابات 23 أكتوبر 2011 وصياغة القانون عدد 6 المتعلق بالتنظيم المؤقت للسلط العمومية المؤرخ في 16 ديسمبر 2011، بداية الهزيمة لمسار ثوري محتمل.

منذ ذاك الحين، لا حديث إلا على ما أسماه النظام “الانتقال الديمقراطي”، ومنذ انطلاق هذا المسار جرّنا النظام جرًا إلى الرؤية بعين واحدة وإلى بتر أحد أرجلنا لنقفز على الأخرى. تارة ونحن لا نراوح مكاننا، وتارة أخرى ونحن نحقق بعض المكتسبات. ظلّ هذا المسار أعرجًا، فحلّ النقاش السياسي في كل مكان، واحتل جزءً هامًا من مشاغلنا اليومية، وغُيّب الحديث عن أي إصلاحات اقتصادية أو اجتماعية عاجلة عساها تُعيد لنا شيئا من كرامتنا المسلوبة، التي دفع من أجلها شباب منزل بوزيان وتالة، وقبلهما الحوض المنجمي وغيرها من بقية مناطق البلاد أرواحهم.

انخرطنا في المعركة الهووية بين أعوام 2011، و2013، مع انتعاشة السلفية الجهادية في كامل الوطن العربي، وبتواطئ حركة النهضة مع عناصرها وقياديها داخل تونس. طالت النقاشات حول دستور 27 جانفي 2014، حصلت بعض التوافقات (الفصل6 على سبيل المثال) الخاضعة لموازين القوى داخل المجلس، وحققنا بعض النقاط بتضافر جهود القوى الديمقراطية (ومن ينكر بعض هذه المكتسبات عليه مقارنة النسخة النهائية بنسخة دستور غرّة جوان 2013). انعدم الاستقرار في تلك الفترة، رغم تشدق النظام بمناخه الديمقراطي، فقدمنا لتونس الشهيدين شكري بلعيد ومحمد براهمي. وأمام انسداد الأفق سياسيًا، وجد النظام الحلّ في مسرحية “الحوار الوطني” بعد تتالي اللقاءات السياسية (وخاصة لقاء راشد الغنوشي بالباجي قائد السبسي بباريس صائفة 2013)، وظلت أبواقه الدعائية “تطبل وتزكر” لجائزة نوبل للسلام.

تتالت المحطات الانتخابية، واختلفت مواقف الشيوعيون والثوريون منها، فقاطعناها (مقاطعة نشيطة في 2014) وشارك رفاقنا في الجبهة الشعبية فيها، وصرح كل منّا بمنظومته الحجاجية. ولكن النتيجة كانت واحدة على كل حال، تتالٍ للخيبات وصولاً إلى انتخابات 2019. والأهم من هذا وذاك، واصل إخطبوط النظام احتواء معارضيه، فغاب الإصلاح الاقتصادي ببعديه الطبقي والوطني، وتواصل تنفذ الكمبرادور والسماسرة والتبعية إلى مراكز النهب الامبريالية.

لم تحمل الانتخابات التشريعية 14 في تاريخ تونس، والثالثة بعد الانتفاضة أي جديد يذكر، باستثناء إعادة تشكل لبعض التعبيرات السياسية الأكثر رجعية مثل حركة النهضة المدعومة ب”ائتلاف الكرامة” وحزب قلب تونس وحزب عبير موسي الخ… ولكن وعلى مستوى الانتخابات الرئاسية، حصلت المفاجئة إنّ صح التعبير، بتواجد قيس سعيد ونبيل القروي في الدور الثاني. لوهلة قد تبدو الأمور واضحة بالنسبة للمعنيين بالتصويت، رجل يحوم حوله الفساد من كل الجهات، يمتلك قناة خاصة “تميح مع الأرياح”، ويمثل خادماً أمينًا ووفيًا لرأس المال، في وجه تقني يفقه القانون الدستوري (ذلك ما يسوق على كل حال)، يظهر إعلاميا مع كل أزمة دستورية للإدلاء بموقفه، و”نظيف”.

استطاع سعيّد أنّ يركز خطابه (رغم رتابته وإستعماله لألفاظ العربية الفصحى) على شعارات مغريّة “الدستور هو ما خطه الشباب على الجدران” … ” الانتفاضة بدأت في 17 ديسمبر ووئدت في 14 جانفي” … “التطبيع خيانة عظمى” الخ … اختلف الموقف بين المجموعات “اليسارية” في الدور الثاني، بين من قاطع هذه المحطة أيضًا، وبين من شارك فيها داعمًا لسعيد و”مشتبكا معه نقديًا” وفق التعبير الرائج في تلك الفترة. وقفز سعيد إلى الرئاسة بأغلبية مريحة. لا أحد ينكر أنّ قيس سعيّد قد أحدث اختراقًا داخل المنظومة، ولكن هذا الاختراق كان من صلبها، بقوانينها، وبانتخاباتها، وبشروطها. ويبدو أنّ هذا الاختراق سيبقى محل تساؤل وبحث لفترة من الزمن، وربما لن يتكرّر بنفس الشكل مرة أخرى. والأهم من هذا الاختراق هو ما حدث بعده.

“الثورات تقوم كما هو مألوف ضد الشرعية، ولكن ما حصل في تونس هو ثورة حقيقية، بأدوات الشرعية ذاتها”، ذلك ما صرح به الرئيس يوم أدائه لليمين في 13 أكتوبر 2019 متحدثا آنذاك عن العلو الشاهق في التاريخ، فبدا منذ اللحظات الأولى تقنيًا لا غير، بعيدًا كل البعد عن دواليب السياسة، خاصة مع تتالي شطحاته الكلامية. إنّ أبرز جاء به الرئيس من يوم 13 أكتوبر 2019 إلى 25 جويلية 2021 لا يتجاوز الخطابة ورفع الشعارات، ولولا المنبر وخلفية القصر لاعتقدنا أننا مازلنا نعيش على وقع حملته الانتخابية. وظل السؤال مطروحا: متى سيدفع سعيد بالتناقض إلى أقصاه مع الشق الآخر من المنظومة والمتمثل أساساً في حركة النهضة ؟ طبعا، وفي هذه الأثناء، اختار البعض توصيفه ب”الشعبوي” وتسليط سهام التحريض عليه (حتى والصمت أحياناً عما تقوم به حركة النهضة من أفعال) واختار الآخرون التموقع خلفه مستبشرين بوطنيته لا غير وظل البعض يبحث عن موقع قيس من كل قضية وطنيّة وطبقيّة.

خلال تلك السنتين، كان من الصعب قراءة الرجل وتوجهاته رغم صياحه المتكرر حول التطبيع، وصياح رفاقه عن البناء القاعدي. أما بالنسبة للقضية الفلسطينية، فكان بإمكان قيس سعيد تقديم مشروع قانون لتجريم التطبيع، إيمانا بما عبر عنه في حملته الانتخابية واحراجًا لمجلس نواب الشعب وأغلبيته، في حال رفضت تمرير هذا المشروع، ولكنه لم يفعل. وأما عن خياراته الاقتصادية، فلم نتقدم قيد أنملة في حل مسألة المديونية مثلا، حيث ظلت تونس عالقة بين براثن الجهات المانحة.

تتالت خطابات سعيد حول “الجهات المشبوهة” خلال فترة زمنية قصيرة، وصار بالإمكان توقع ما قد يحدث على مستوى المشهد السياسي، و”أتت اللحظة” على حد تعبيره في 25 جويلية 2021 حين جمد أعمال البرلمان وفعل العمل بالفصل 80 من دستور 27 جانفي 2014، فاستبشر الجميع تقريبا بهذه اللحظة، بل واعتبروا منذ ذلك الحين تجميد البرلمان حلا له.

وهذا أبرز ما اتسم به الوضع بعد ذلك:

سياسيا: نجاح قيس سعيد في إزاحة حركة النهضة وتوابعها من المشهد السياسي الرسمي، وظفره حتى الآن بولاء مؤسسات القمع الطبقي (الجيش والداخلية)، وجزء مهم من أبواق الدعاية الإعلامية، تعويض دستور 2014 بآخر، والاستحواذ على جميع السلطات والصلاحيات، ولكنه في المقابل أزاح أيضا فكرة التحزب والفعل السياسي المباشر من أذهان الجماهير، وعمق الاختلافات بين رفاق الأمس، فساهم في تفكيك المُفكك وتشتيت المُشتت (وهو ما يبرز أيضا هشاشة البنى التنظيمية لهذه الأحزاب والمجموعات) .

طبقيا: رغم الدعاية الشرسة في ظاهرها على الفساد (دعاية تذكر بحملة يوسف الشاهد) إلا أنه لم يوجه ضرباته تلك إلا إلى الحلقات الأضعف من المحتكرين والفاسدين، وبذلك لم يضرب بتاتا مصالح الكمبرادور العميل لقوى النهب العالمية، والبرجوازية النافذة والمتحكمة في اقتصاد البلاد، بل تعمقت الأزمة الاقتصادية لجل الطبقات المُنهكة سلفاً من السياسات التابعة.

وطنيا: صرح قيس سعيد منذ أيام معدودات، عن رفضه للشروط المملاة من صندوق النقد الدولي، وبالتحديد تلك المتعلقة برفع الدعم من المواد الأساسية,، وهو ما دعا بعض أبواق الدعاية التابعة والمدافعة عن السماسرة والوسطاء للتنديد بقيس سعيد واستنكار تصريحاته. ولكن هذا الرفض يبقى دائما منقوصا، إذا لم يكن مشفوعا ومقترنا بتغيير للسياسات الاقتصادية (حيث انطلقت الدولة فعليا وعبر ميزانيتها في تقليص الدعم في المواد الأساسية منذ سنة ). وبذلك يصح التعبير الشعبي العامي عن قيس سعيد ” مرة في الصوب ومرة في الجدب “.

أين سيقف الشيوعيون والثورين في هذا الوقت العصيب؟

سيكون من العبث التنحي جانبًا، واختيار ما اختاره البعض من رفاقنا (أي الاصطفاف وراء سعيد) والتعويل كليًا على رجل متململ لم يحسم خياراته الكبرى بعد، وهو في كل الأحوال لن يقوم بتنفيذ ” برنامج الشيوعيين” (يكفي أن يسرع ببعض الإصلاحات العاجلة لتقييمه إيجابيا). في المقابل أيضا، لا يجب الاكتفاء بشتم الرجل ووصمه بأبشع النعوت أو بالتحرك عن وعي أو دونه نحو تقديم خدمات مجانية لشق رجعي آخر مثل كابوسا للجماهير طيلة عشر سنوات.

وبما أن التوصيف السليم لحالنا (كيسار أو كثوريين أو كشيوعيين) كوننا بعيدين عن التأثير، فنحن مطالبون على الأقل باستقلالية مواقفنا، والدعاية لها، ومحاولة ممارسة تكتيكات تُطوع لخدمة الاستراتيجية، وعليه أن نضغط على السلطة السياسية من أجل :

1- الحد من التوريد وحصره في الأساسيات (حفاظا على العملة الصعبة )

2- التوجه نحو بقية الدول المشابهة لتونس من ناحية وضعيتها الاقتصادية، وتشكيل جبهة لإسقاط الديون.

3- دعم صغار الفلاحين، وضرب المتحكمين في سوق الأعلاف، وهو ما يساهم في التشجيع على الإنتاج والمضي قدما نحو تحقيق سيادة غذائية حقيقية.

4- المطالبة بسن قانون يجرم التطبيع مع الكيان الصهيوني، كدعم كلي للقضية الفلسطينية، وكتجاوز للحياد السلبي ولمقولات “الشرعية الدولية”.

إن هذه النقاط، يمكن أن تمثل نقاط التقاء دنيا بين مختلف المجموعات والذوات الثورية في المستقبل، دون الوقوف مكان المتفرج أمام الأحداث.


إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي إنحياز وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً.


أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !