رأيْ | ناصريّة، نسويّة .. وأنتمي

سارّة براهمي

سألني صديق منذ يومين -في اطار التنسيق لتعاون صحفي ما – : ماهي الصفة السياسيّة التي تعتمدينها؟ تفضّلين “ناشطة حقوقية واجتماعيّة” ، أو “فلانة، عن الحرس القومي العربي”؟ وهذا هو الإطار العام والمنطلق لمقال الرأي هذا.

الجانب الأوّل: الحرس القومي العربي، فكراً وممارسة

يسألني البعضُ عن انتمائي في زمننا القبيح، حيث توازنت القوى بين الظالم والمظلوم وتعادل المجرم بالضحيّة، و استُبدِلت فيه “خُلقَت أكتاف الرجال لحمل البنادق” بالنزعة الفردانيّة وتسطيح الأمور وتعميم الأنانيّة، والجبهات بالشقق الفارهة. لم أملك الّا أن أشير الى مسقط قلبي والقضيّة ولإخوة عاهدونا ولم يبدّلوا تبديلا، يشاركوننا الحلم والأهداف ويديمون معنا الزخم، قابضين على الجمر ومضمّدين الجراح. مجهولون في الأرض و لا أعرفهم، لكني أشعر بوجودهم، غاضبين وحانقين، سعداء وآملين .. مثلي، متشبثين بغصن التعب، و”الرافعين فؤوسهم فوق الرؤوس” كما قال فقيدنا وصديقنا مالك الصغيري.

من حقّنا أن نحلم، من حقّي أن أحلم، بلا اسقاطات ولا اجترار مواعظ فارغة من معناها، من حقّنا أن نجرّب و نخطئ و نصيب وأن نُشكر ونُحاسب ونعمل. كلما زعزعني الشكّ و حاصرتني الأسئلة تشبثت بالهلالين، بدماء الشهداء و بركتهم، بمئتين وخمسين شهيدًا رحلوا عنّا عنوة، وعبثاً تمسّكنا بهم لكن التكفيريين لم يمنحونا الوقت لتوديعهم وداعاً يليق.. بالصدر العاري، بالجرح النازف. ثم تغمرني ضادي فأزداد صلابة، حتى وسط التناقضات والاختلافات والخلافات.

من حقّي أن لا أجترّ أزمة الزعامة عند “أولاد عزيز” و أبناء المدرسة القومية التقدميّة في تونس، أو ضمور أجسام الأحزاب في لبنان وشيخوخة كوادرها وأطروحاتها على حدّ سواء، من حقّي أن أقول ”أنا قوميّة عربيّة” دون أن أُتَّهَم بالوقوف على أطلال عصمت سيف الدولة ونظرية الوحدة العربيّة أو أن أوصّم باللطم على ضريح جمال عبد الناصر أو أن أُصنّف كداعشيّة “غير ربع”، باعتباري لم أدافع يوما عن جمال عبد الناصر أو دولة عبد الناصر، بل تشبثت بناصر التجربة التي تتطور وتتفاعل مع التاريخ، وناصر الذي جعلنا نصدّق أنّ البطولة ليست مستحيلة. من حقي أن أضرب عدوّي في مقتل: عروبتي التي تحيا رغماً عن أنوفهم التي نمرّغها بالتراب يوما بعد يوم، وتحيا بالمقاومة والبقاء، من حقي أن أقول له بكل الطرق المشروعة منها وغير المشروعة (رغم أن لا مشروعية الّا ما شرعته لنفسي) : كلما اجتثثتَ عربيّا من هنا وسفكت دمه، يزهر مكانه عشر.

ماذا يتبقى من بنوك أهدافٍ لـ”إسرائيل”؟ هل ستقتلنا فرداً فرداً؟ فلتفعل… هي تدرك أنّ خلف الزناد زنودٌ تتعطّش لتحقيق النصر. هل ستستغلّ عمليات موضعية هنا وهناك لتحقيق مكاسب إستراتيجية في السياسة و الجغرافيا؟ فلتفعل، هي تدرك جيّدا أننا لسنا مكسر عصا. الدرب طويل وموحش وصعب، نمشي فيه على الشوك طوعًا، نحن آمنا .. ولفظ ” إيمان” عصيّ على التصدّع، نحن نفنى لتحيا عروبتنا جميعاً، نهتفها ونقصدها، أو على الأقل، لا أعتقد أنّ أخاً ما حولي يردّدها ولا يعنيها، ان دقّقت، أو تأملت الاسفلت قليلا ستجد وجهاً لسايكس وصورة لبيكو يدعسها الشعب العربي كل يوم، ما الذي يجعل الناس في غزة وأريانة ومراكش وحلب وعنابة وصنعاء وجدة والخرطوم واسكندرية يهتزون وينفعلون بعد  آخر اعتداء على الأقصى مثلا؟ 

سنوات من كيّ الوعي العربي و الأدلجة ستنتهي عندما نسأل أنفسنا بصدق : لماذا تفشل مبادرات اليسار العربي؟ ما الذي يجعل نخبنا السياسية اليسارية بمختلف مشاربها تفشل في مواجهة أنظمة الاستبداد والفساد والطائفيّة والعمالة فتنحرف عن مسارها الثوري الذي رسمته لنفسها؟ ولماذا لم يحظ  اليسار العربي طوال وجوده لأكثر من مائة سنة بحاضنة شعبية محترمة؟ ولماذا يشوب وحدة الصفوف التشتت والتشرذم والانقسام إلى أزمة زعامات وتضخم أنا ومِلل ونحل ومذاهب متنافرة متصارعة فيما بينها؟ اجابتنا في (ض) بسيطة في تعقيدها: الحلّ هو الثورة على الذات أوّلا والتشبيب ثانيا، كحلّين أوّليين، لا في إطار النكاية والمماحكة  السياسية مع الآخر الفاسد أو الآخر الطائفي أو الآخر العميل، بل رداً على كل من اعتبر أنّ القومية العربية، والفكر الناصري تحديداً مجرّد ظاهرة هلامية في قطيعة مع الممارسة، وتذكيراً لهؤلاء بالأدوار التي لعبها الحرس بمختلف أجهزته وبدرجات  متفاوتة خلال العشر سنوات الأخيرة في الوطن العربي، سنوات الشٌؤم الذي غمرتنا به حركة الإخوان المسلمين بعد توصيات من العدو، وبناءً على ما سبق، نحن ضاد، انتماءً وعقيدة. في الحقيقة رفعنا صور جمال عبد الناصر في تونس و حفظنا خطاباته و نهلنا من تجربته ونشرناها عندما كان التنظم والعمل السياسي تُهمة تقطعُ الرقاب وتسبّب الاختفاء القسري والاعتقال والإعدام بلا مُحاكمات، واعتبرنا التجربة الناصريّة نموذجاً يُقتدى به وممكن التحقيق في تونس، من منطلقات الدولة الاشتراكية وذات السيادة . 

بانتمائنا هذا وباعتقادنا بالحتمية التاريخيّة لانتصارنا ولو بعد حين، قدمنا الشهداء، وكشطنا من عظامنا دسم التجارب و الأخطاء لكي تسير عجلة التاريخ. نحن في (ض) نعتبر أنّ  الفكر الناصري مشروعا إستراتيجيا تسلمته الأجيال اللاحقة ( جيلنا نموذجا) ليكتمل المشروع «الحلم» ويتحول إلى واقع حي يلامسه الشعب العربي، و لمن لا يعلم  انحياز التجربة الناصرية إلى الطبقات الشعبية والمنتجة لم يكن أمرا يسعد العالم الغربي المتربص بالتجربة، والذي حاول أن يقتلعها من جذورها في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 مثلا.

  و عليه، فإنّ محاولة تحقيق تنمية مستقلة، والعداء للاستعمار ومساندة الحركات التحررية الوطنية، ليس في إفريقيا والوطن العربي فحسب بل في العالم بأسره، كلّها أمور تدعو إلى تصعيد درجة التوتر بين هذه التجربة وبين القوى المضادة لتحرير الشعوب، قوى الاستعمار والامبريالية العالمية. ناصريّتنا ليست مطابقة تماما للناصرية من قبل، ولكنها تنتمي إليها وتستمر بها بقدر صمودها ضد الاحتواء، وبقدر تحقيقها للاستقلال، وهذا هو جوهر تجربة ثورة 23 يوليو المشروع الناصري لا ينتمي إلى الماضي، وإنما هو مشروع ينتمي إلى المستقبل، به نقتدي و عليه نبني. 

ختاماً: سواءٌ أن الزمن جعلنا أمةً متردية، أو أننا فعلنا هذا بأنفسنا، لكن الأصل يبقى أصلاً، ويبقى عربي اليوم حفيدَ عربي الأمس، حفيدَ رجال الجزيرة العربية، والمناذرة، وعربايا، واليمن، يبقى حفيدَ عرب ما قبل الإسلام، وحفيد المسلمين ممن عاصروا الراشدين والأمويين والعباسيين والهاشميين. وسواء فعل العدو هذا بنا، أو فعلنا هذا بأنفسنا، لابد للتشرذم والتشتت والتكلّس الفكري من الانتهاء يوماً.  نحن في (ض) أمام تجربة فتيّة فريدة من نوعها، ثارت في مرحلة أولى على كلاسيكية الأحزاب الناصريّة في الوطن العربي، وعلى محيطها من الحلفاء الوهميين والأعداء في مرحلة ثانية، حالة سياسيّة تستحقّ أن نراهن عليها ونراهن من أجلها، ونقدّم لها ما استطعنا دعماً وايماناً، فإن حادت عن البوصلة ذات يوم وسلّمت ذممنا للاسرائيلي فالـ ”الراس يقصه  كان ربّي ” ، أو سعت الى تفتيت المفتت وتجزئة المجزّء فلا هي منّا ولا نحن منها، وان نحن خُننا يوما قسمنا في أن نُبقي  شعلة العروبة متقدة من المحيط الى الخليج، فسيكون سعر رصاصة واحدة تعدمنا أغلى من أجسادنا.

الجانب الثاني: (ض) وتداخل الذاتي بالموضوعي
نقطة اخرى ذاتية بحتة ، عاطفية مطلقا -ومن حقي أن  لا افصل بين الذاتي والموضوعي، فالذاتي هو حجر الأساس -(تذكرت اني قلت مرّة في اجتماع عام في كليّتي الأولى : يا ناس راني كان جيت بنت شكري بلعيد راني وطد موحد، وتصاعدت ضحكات الطلبة) : أنا أفخر وأعتز  بهويتي وأؤمن بعدالة قضيتنا وبطهر دمائنا وسُموّ شهدائنا من المحيط الى الخليج، أنا عاهدت قادة الحرس وأقسمت بالانضباط الصارم كما عاهدوني أن لا خوف ولا تراجع ولا استسلام، وعاهدوني أنّ الشهيد القائد محمد براهمي هو بوصلتهم. محمد براهمي الذي سُفك دمه غدرا فرُفِع ورُفعتُ  به إلى أقدس المنازل، تشريفا لم أكن لأناله لو لم أدفع من أجله صباي وأمني وطمأنينتي، وأنا مازلت صغيرة .. كل الصغر. 

أقف كل يوم أشدّ بالحرس عضدي وألهج باسم محمد براهمي براهمي وأعلى أُعلي راية محمد براهمي.  ما الذي فعله اليسار التونسي للشهيد في نهاية الأمر؟ استشهد هو، وأعلنوا هم عصيانا مدنيا سلميا في حين أنّ أول ما قام به الحرس القومي العربي هو تسمية كتيبة عسكرية بسراياها ومقاتليها وفاءً للشهيد، أعلنوا في تونس اعتصام الرحيل واستمرّ لفترة طويلة نسبيّا وانتهى بالحوار الوطني ومنه جائزة نوبل للسلام، في حين أنه في سورية، لم يعترفوا إلا بالرصاص والحديد والدم والنار، انتقاماً من الإرهابيين وثأراً لمحمد براهمي، رغم أن المقارنات لا تستقيم في ظل غيبا الظروف الموضوعيّة ذاتها، لكني -ابنة، يتيمة ، ذات بشريّة- أسمح لنفسي بأن اقارن و لكني لا اجرّم أحداً.

 الحرس “غضب” مثلي ان صحّ التعبير، وأنا احترم هذا الغضب وأحبّه جدّا.  تقول جدتي -رحمها الله- : خير الناس رُدّه والا عِدّه  ، أي الجميل الذي قُدّم لـك ، اعترف به أو اعمل بمثله لمن قام به، و أنا هنا أعدّه الى أن أردّه، رغم أنني أجزم  أن لا أحد ينتظر “شكرا” ، وأنا نفسي لن أقول شكرا الآن، سأصدح بها يوما ما، عندما أنفض عن وجهي تراب داعش، ورمم التشوه الداخلي الذي صنعوه فيّ، عندما أزور ضريح بابا و أنا ”خالصة معاه”.

 الجانب الثالث: أنا قومية عربية نسوية

من حقي أن أقول ” أنا ناصريّة، ونسوية، مؤمنة بكونية حقوق الإنسان وشموليتها “، لأن شعارات الحرية والتحرر والمساواة والعلمنة إن  لم تكن معطوفة على شعارات الوحدة العربيّة و تحرير كامل الأرض فلا معنى لها. من حقّي أن أعبّر وأساند وأتضامن مع الحقوقيين والحقوقيات مثلي -علناً- عوضا عن حالة الارتباك التي أمرّ بها لأنني ابنة الشهيد القائد، أن اناضل من أجل انتزاع حقوق النساء في المجالات المختلفة، وأن اشتبك من خلال التقاطعات بين  المجالين العام والخاص، وأن أقول أنّ الحركة النسوية حركة سياسية أنتمي لها من حيث اعترافها بعدم التوازن في علاقات القوى والبنى السلطوية على أساس جندري، ومن حقّي أن اقول علناً أنّ ما سبق يتقاطع مع أشكال أخرى يتقاطع مع أشكال اخرى من التمييز والظلم والحيف والقهر.

ومن حقي أن أقول أنّ  هناك حاجة لنسوية عربية جديدة دون أن يتم اعتباري نسوية ليبرالية أو متهافتة على قشور الغرب أو صاحبة ردّة فكريّة، لم أرتد فكريا إن قلت أنّ  اضمحلال آمال الكرامة والحريّة بعد الربيع العربي وسقوطها نحو التقتيل والتناحر بقيادة امبريالية استعمارية ذهب يدا بيد مع تدهور وضع النساء فعليا ورمزيا، وتوازى مع هشاشة القوانين في الدول العربية و تتفيه قضايا النساء في الخطاب السياسي العام، وبشاعة الممارسات بحق النساء ومن تعرّفن أنفسهن كنساء شكّل صدمة للبعض الذي كان يحلّق بعيدا و يدور في فلك الترف الفكري والمطالب البرجوازية التي لا تخدم سوى الـ “هم” بامتيازاتهم.

ومثلما كتبت “خوخة ماكوير”، بشيء من التصرّف من عندي، “الإشكال في الأقاويل التي تُبروَز على أنها نسويّة، هو تعريفها الدائم للمرأة من حيث نِسبتها أو نَسْبها إلى الذكر، أو من حيث وظيفتها المتمحورة، حصرًا، حول الذكر، هي أمّك، صباحك، أختك، رفيقتك، الخ.. حيث كل الطرق تؤدّي إلى تكريس الصور النمطية التي فُرضت على النساء… فتُختزَل في وظيفتها الإنجابية، أو في قرابتها من الذكر أو في وظائف الرعاية والإطعام غير المدفوعة الأجر طبعاً: زوجتك، اختك، حبيبتك الخ، أو تُختزل النساء مثلا في وظيفتهنّ الجماليّة المفترضة. فهي أداة للزينة والفرجة والمتعة والتحلية والترفيه والاستمتاع.”

من حقي أن أرفض ثوابت هذا المجتمع وأنتقدها ، ولا أعمل بها، وأعلن ذلك ان أردت، دون أن انبطح للاجندات الاستعماريّة وانخرط في كيّ الوعي و تغريب مجتمعنا عنّا، أنا سارّة محمد براهمي، امرأة تريد أن تتحرّر، ونعم أسعى الى مزيد من الحرّيات.

لماذا نعتبر العدو قضية نسوية تقاطعية أيضا؟

كما هو الحال في جميع أنظمة القمع لا يفرض الاحتلال الصهيوني شكلا واحدا من التجارب على كل الأفراد والجماعات الواقع عليهم.ن أو المتؤثرين.ات بهن.ن، مما يحتم علينا النظر الى هذه التجارب وتأصيلها نظريّا وتحليلها وفهمها من منظور تقاطعي، تجارب أهلنا في الضفة مثلا ، تختلف عن تلك التي يعيشها أهلنا في غزّة أو في الشتات، وكذلك تختلف تجارب النساء والرجال و اللامعياريين.ات عن بعضها البعض. هذا يفرض علينا أن نستمع و نبحث دون إنكار لأيّ  من هذه التجارب وندرس تنوعها وتقاطعيتها وأن نتضامن معها، حتى لا نمكّن أنظمة القمع من تفتيتنا أيضا.

النسوية التقاطعية تمكّننا من فهم الواقع وتحليل كيفية تعامل  الأنظمة القمعية مع بعضها البعض، وخدمتها لبعضها البعض أيضاً.  نحن بحاجة الى نظرة شمولية أكثر تحررا، ولن يكون التحرر حقيقيا يوما ما إن لم يشمل الجميع.



إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي إنحياز وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !