رأي | الشعبوية في تونس : العلوّ الشاهق والسقوط المدوّي

بقلم سمير ابراهيم

عضو في مجموعة قاوم من أجل بديل اشتراكي

ظهرت الشعبوية في أواخر القرن التاسع عشر في الامبراطورية الروسية وارتبط ظهورها بحركة النارودنكس “أصدقاء الشعب” (1860-1870) وبرزت في الولايات المتحدة الأمريكية ممثلة في حزب الشعب الذي تأسس سنة 1891.

في بداية القرن العشرين امتدت الشعبوية إلى أوروبا واقترنت في ألمانيا بحركة نازية قادها هتلر بتأسيس الحزب النازي سنة 1920 وفي إيطاليا بحركة فاشية تزعمها موسوليني بتأسيس الحزب الوطني الفاشي سنة 1921 ومن أهم الحركات الشعبوية الحديثة في أوروبا يندرج التجمع الوطني في فرنسا وحركة النجوم الخمسة في إيطاليا وحزب الحرية في النمسا وحزب العدالة والقانون في بولونيا والاتحاد المدني المجري وحزب من أجل الحرية في هولندا. 

كما شهدت أمريكا اللاتينية موجة شعبوية أولى سنوات 1930 ــ 1945 في كل من الأرجنتين بريادة خوان بيرون والبرازيل بزعامة جيتوليو فارجاس والمكسيك بقيادة لازارو كارديناس وكولمبيا بزعامة خورخي إلييثير جايتان وتلتها موجة ثانية سنوات 1960 ــ 1970 تصدرتها حركة العمال عديمي الأراضي بالبرازيل والجبهة الساندينية للتحرير الوطني في نيكارغوا ويعتبر خوان إيفو مورالس أيما في بوليفيا ورافائيل كوريا في الإكواتور وهوغو تشافيز ونيكولاس مادورو في فنيزولا رواد الحركة الشعبوية الحديثة في أمريكا اللاتينية.

شهدت الولايات المتحدة الأمريكية أيضا مدا شعبويا مع رئاسة دونالد ترامب كما صعدت أهم الحركات الشعبوية العربية للسلطة خلال خمسينات وستينات القرن العشرين في كل من مصر بزعامة جمال عبد الناصر وليبيا تحت حكم معمر القذافي.

بدأت الحركة الشعبوية تتشكل في تونس منذ سنة 2011 وتجلت أول تمظهراتها خلال حملة مقاطعة انتخابات المجلس الوطني التأسيسي التي خاضها أستاذ القانون الدستوري قيس سعيد حيث جاء في كلمة  ألقاها في 16 أكتوبر 2011  أن الأحزاب السياسية، بتجاهلها مطالبة الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي تنظيم استفتاء شعبي حول آلية الانتخاب، التفت على الثورة وسطت على الإرادة الشعبية ووضح قيس سعيد الملامح الأولى لمشروعه القائم على البناء القاعدي وذلك بإنشاء مجالس محلية ثم مجالس جهوية وأخيرا البرلمان.

لم يعر الطيف السياسي اهتماما للبديل الشعبوي الناشئ وشغلته حمى الحملة الانتخابية وانغمس طيلة السنوات الثلاث اللاحقة في تجاذبات وصراعات الاستقطاب الثنائي بينما تفرغت الحركة الشعبوية لإنشاء التنسيقيات المحلية والجهوية معتمدة بالأساس على وسائل الاتصال الإلكتروني لتبرز مرة أخرى خلال الانتخابات التشريعية والرئاسية سنة 2014، عبر ممثلها قيس سعيد، متمسكة بنفس الخطاب حول التفاف النخبة السياسية على الثورة وإفلاس الأحزاب وضرورة مراجعة القانون الانتخابي داعية المواطنين إلى مقاطعة الانتخابات والمضي في استكمال المسار الثوري خارج المنظومة السياسية القائمة.

 وإن قاطع قيس سعيد الانتخابات الرئاسية لسنة 2014 فإنه ترشح لرئاسيات 2019 وتبريرا لهذا الترشح يصرح قيس سعيد للصحيفة الإلكترونية الشارع المغاربي في 1 جوان 2019 : “قد يكون مفاجئا وقد لا يكون، ففي سنة 2014 جمعت 17 ألف إمضاء تقريبا لتزكية ترشحي ولكن كنت أعلم جيدا حقيقة التوازنات في تلك المرحلة، علاوة على أن النتائج كانت محسومة في الانتخابات التشريعية خاصة، بناء على طريقة الاقتراع، ولم أعلن ترشحي حينها حتى يعلم الشعب حقيقة هؤلاء.

وفعلا علم التونسيون أن شيئا لم يتغير، وأعتقد أن هناك وعيا آخر بأن الأمور تحتاج إلى تغيير حقيقي، أتحمل مسؤولية ترشحي للرئاسة كاملة ومستعد لتحمل أوزارها وهي كره لي”.

وتوضيحا لبرنامجه الانتخابي يضيف قيس سعيد : “حملتي الانتخابية لن تكون بالشكل التقليدي والمعهود ولن أطلب من الناخبين التصويت لفائدتي، طرحت مشروعا منذ سنة 2011 ثم أعدت طرحه سنة 2013 تحت عنوان” من أجل تأسيس جديد” لأن القضية في التأسيس، يجب أن يكون هناك فكر سياسي جديد يترجمه نص دستوري بالفعل جديد”.

وقد حصل قيس سعيد على مساندة مجموعة ممن ترشحوا للدور الأول للانتخابات الرئاسية كعبدالفتاح مورو وسيف الدين مخلوف والمنصف المرزوقي ولطفي المرايحي ومحمد عبو كما صرح عماد الخميري الناطق الرسمي باسم حركة النهضة :  “النهضة اختارت أن تساند خيار الشعب التونسي، النهضة ستساند قيس سعيّد في الدورة الثانية من الرئاسية”.

فيم تتمثل الشعبوية؟

لا ترتقي الشعبوية لمصاف الإيديولوجيا كمنظومة أفكار متناسقة تقدم إجابات ضافية على الإشكاليات التي يطرحها الواقع والمجتمع وقد صرح قيس سعيد لصحيفة الشارع المغاربي : “الديمقراطية النيابية أفلست ، ونحن اليوم بحاجة إلى مفاهيم جديدة مختلفة عن ثنائية اليسار واليمين، وأيديولوجيا اليوم هي إرادة الشعب”. 

الشعبوية، أكانت اجتماعية أو سياسية، بإمكانها التموقع يمينا أو يسارا والانصهار في المنظومة الليبيرالية أو التلحف زيفا بالاشتراكية، وهي لا تعدو أن تكون إلا شكلا من أشكال العمل السياسي الفج يستند على مواقف تتمركز، قولا، حول الشعب.

وإن لم تشكل الشعبويات منظومة أفكار متكاملة ينبع منها برنامج متناسق فإنها أكدت تاريخيا أن لها قاسم مشترك، رغم بعض الفوارق، يتمركز حول طفو إثر الأزمات وادعاء تمثيل الشعب ومعاداة النخب وترويج خطاب ديماغوجي يتسم بإنكار البعد الزمني و تفسير تآمري للأحداث وزعامة القائد وإرساء نظام حكم دكتاتوري ونشر الكراهية والعنصرية.

الأزمة تمهد لنشأة الشعبوية

ما يميز الحركة الشعبوية عموما بروزها على أرضية أزمة سياسية واقتصادية، ففي تونس تزايد غضب الفئات الشعبية إزاء الأوضاع المتأزمة حيث همشت الرأسمالية المتوحشة العديد من الشرائح الاجتماعية وتركتها فريسة للنهب و البؤس في ظل هيمنة طبقة سياسية لم تستطع إيجاد حلول للمشاكل المطروحة بل فاقمتها كما أن المشهد السياسي اتسم بالتفاهة والرذالة وعكست الحكومات المتعاقبة والمؤسسة البرلمانية صورة مشوهة للعمل السياسي مما دفع بالشعب لازدراء الأحزاب والتوجس من النشاط السياسي ويعد هذا الوضع المتأزم الأرضية المثلى لرواج الخطاب الشعبوي إذ أن الشعب يدخل في دائرة فقدان الأمل في الطبقة السياسية و انعدام الثقة في السلطة وفي الإدارة وفي هياكل الدولة ليجد ضالته في الخطاب الشعبوي، خطاب «يمثله» ويعبر عن حالته النفسية.

وتملأ الشعبوية  أيضا الفراغ الذي يتركه الخطاب الثوري ليطفو الخطاب الشعبوي الذي لن يترك أمام الشعب فرصة حقيقية للاختيار.

ادعاء الشعبوية أنها صوت الشعب

ما يجمع  الشعبويين الادعاء بأنهم صوت وصدى وضمير الشعب، فضلا عن احتكارهم حق تمثيله وكل من لا يدعمهم خائن وكل من يتصدى لهم فاسد.

ويردد الشعبوي مصطلح “الشعب” كمصطلح فضفاض لا يخضع إلى تحديد طبقي بل يحيل إلى “كتلة اجتماعية”، خليط اجتماعي لا توحده إلا معاداة النخب والتعددية ويعد هذا الطرح قفزا على التناقضات الطبقية التي تشق المجتمع وممهدا لسن سياسة التوافق الطبقي مما يولد تناحرات وتعارضات صلب “الكتلة الشعبوية”.

معاداة النخب والأحزاب

وإن اختلف الشعبويون في شيء فإنهم لن يختلفوا حول وهم رفع حاجز التمثيل بين السلطة والشعب فيجاهرون بعدائهم للنخب وخاصة السياسية منها ويوجهونه للأحزاب والنقابات والجمعيات باعتبارها أجساما وسيطة هجينة تنتصب حاجزا أمام الشعب لتمنعه من تكريس إرادته وسيادته فيعملون على عزلها عن ساحة نشاطها وفعلها السياسي والاجتماعي وتحجيم دورها وغلق مصادر تمويلها و سياسة الشعبويين ليست معادية للنخبة فحسب، بل إنها تناهض التعددية أيضا وهذا مقطع للقاء الصحفي الذي أجرته صحيفة الشارع المغاربي مع قيس سعيد :  

– إصلاحاتك السياسية هل ترى أنها قابلة للتنفيذ ؟

نعم قابلة للتنفيذ حتى ترتقي إرادة الأمة إلى مستوى أمانيها، انتهى عهد الأحزاب. الشعب صار يتنظم بطريقة جديدة … الأحزاب مآلها الاندثار،  مرحلة وانتهت في التاريخ.

– دور الأحزاب انتهى وفق تقديراتك، ما هو البديل عنها للتنظم السياسي ؟

هناك إمكانيات أخرى مختلفة تماما… لا يمكن أن أبيع الوهم ، الأحزاب ماذا تعني؟ جاءت في وقت معين من تاريخ البشرية … بلغت أوجها في القرن الـ 19 ثم في القرن 20 ثم صارت بعد الثورة التي وصلت على مستوى وسائل التواصل والتكنولوجيات الحديثة أحزابا على هامش الدنيا في حالة احتضار ربما يطول الاحتضار لكن بالتأكيد بعد سنوات قليلة سينتهي دورها.

– هل سيكون إلغاء الأحزاب من بين إصلاحاتك السياسية ؟

لا لن ألغيها.. التعددية ستبقى قائمة الى أن تندثر وحدها.

– إذن كيف ستتعامل مع الأحزاب الحاكمة إن فزت في الرئاسية ؟

سأتعامل معها بمقتضى القانون ، لو كانت الأحزاب قادرة حقيقة وفاعلة لقادت هي الانفجار الثوري الذي عاشته تونس … لكانت هي التي قادت الحراك الشعبي، نحن دخلنا مرحلة جديدة من التاريخ

– هل سيكون لك موقف من الجمعيات التي تدافع عن الأقليات الجنسية وتطالب بحلها مثلا؟

أنا عندي مشروع لإيقاف دعم كل الجمعيات سواء من الداخل أو من الخارج لأنها مطية للتدخل في شؤوننا.

وقد لجأ قيس سعيد، تحت غطاء مقاومة الفساد والتصدي للتآمر على أمن الدولة، إلى اعتقال السياسيين والنقابيين والإعلاميين والقضاة  والمحامين حرصا منه على فسخ الأحزاب والنقابات وتدجين المؤسسات.

ولا يبلغ الخطاب الشعبوي درجة عالية من نفي وإقصاء معارضيه فحسب بل يتعداها إلى نعتهم بأعداء الشعب والمتآمرين والخونة وفي 4 أكتوبر 2021  نشرت الرئاسة فيديو وصف فيه الرئيس معارضيه “بالحشرات” وقد أفرز الخطاب العدائي والتحريضي ضد النخب عنفا معنويا وماديا استهدف معارضي قيس سعيد في كل من تونس وطبلبة والرقاب وسوسة…

خطاب ديماغوجي  –  خطاب إنكار البعد الزمني والتفسير التآمري للأحداث

أجمعت كل الحركات الشعبوية على قاسم مشترك عماده خطاب ديماغوجي مبهم يعتمد تحريك عواطف الجماهير ووعود تجيش المشاعر وتثير المخاوف، خطاب لا يعتمد التحليل والحجج بل يميل إلى إثارة الحماس وإلهاب المشاعر و يتماهى مع المزاج الشعبي السائد، كما يقدم الشعبويون في خطبهم حلولا بسيطة لمشاكل سياسية واجتماعية شائكة معتمدين على تحاليل سطحية وشعارات رنانة مثل “نحن الشعب” و”السلطة للشعب” و”الشعب يريد”.

ومن سمات الخطاب الشعبوي إنكار البعد الزمني بمعنى جعل الناس يعتقدون أن كل شيء ممكن الآن وعلى الفور، وأن معجزة التغيير قابلة للتحقيق ولا أدل على ذلك من الرسالة التي نشرها قيس سعيد قبيل الاستفتاء على الدستور الجديد حيث دعا المواطنين إلى التصويت بـ”نعم” : “قولوا نعم، حتى لا يصيب الدولة هرم، وحتى تتحقق أهداف الثورة، فلا بؤس ولا تجويع ولا ظلم ولا ألم”.

كما أطنب الرئيس في الحديث عن إمكانية استرجاع اللجنة الوطنية للصلح الجزائي مبلغ 13.5 مليار دينار من الأموال المنهوبة وهو مجرد وهم يسوقه للتغطية على فشله في التصرف في المالية العمومية.

 يتسم الخطاب الشعبوي بالتفسير التآمري للأحداث والواقع إذ يُحيل الشعبوي كل فشل أو تعثر لإدارة حكمه إلى مؤامرات تديرها أيادي خفية كأن يتهم أطرافا لم يسمها باختراق الأقمار الصناعية للتشويش على الاستفتاء أو يرجع أسباب التهاب أسعار المواد الأساسية أو ندرتها في السوق إلى عصابات احتكارية تعمل في الخفاء لإجهاض سياسته “الجديدة” أو يقع التأكيد على تعرضه لعملية تسميم أو نعت كل معارضة بالتآمر مع قوى أجنبية للإطاحة بحكمه.

غياب البرنامج

– يقتصر الخطاب الشعبوي على شعارات خاوية يستحيل تنزيلها في شكل برنامج واضح المعالم على المستوى الاقتصادي والاجتماعي.

في لقاء مع صحيفة الشارع المغاربي يوضح قيس سعيد طبيعة برنامجه : الشعوب أصبحت تتحرك خارج الأطر التقليدية ولم تعد في حاجة إلى برامج بل إلى أدوات تمكنها من التعبير عن إرادتها.

ولما سؤل قيس سعيد عن مشروعه الاقتصادي والاجتماعي أجاب : “مشروعي الاقتصادي والاجتماعي هو كيفية تمكين الشعب من الأدوات… لا أريد أن أكون صاحب التصور… أريد أن تنبع التصورات من الشعب… هذا هو الفرق بيني وبين الآخرين… لن أبيع الأوهام”.

والمتمعن في خطاب قيس سعيد في المجال الاقتصادي يلاحظ من الوهلة الأولى تعففه عن استعمال مصطلحات المعجم الاقتصادي كالتضخم المالي والميزان التجاري والدين العمومي وانخفاض قيمة العملة … فهي تحيل على النخبة الأكاديمية المتآمرة على الشعب ويكتفي بترصيف مصطلحات الفقر والثراء والاحتكار وغلاء المعيشة والفساد دون تحليل موضوعي لأسبابها ودون تقديم بدائل ملموسة  لمكافحتها.

إن غياب البرنامج الاقتصادي لدى الحركة الشعبوية لا يعدو أن يكون إلا إقرارا وإعادة إنتاج

للواقع  الاقتصادي الراهن المتسم بالتعويل على التداين والتفريط في الثروات الوطنية والأمن الغذائي والارتهان للدوائر الأجنبية الناهبة، ولا تندرج مبادرة تأسيس الشركات الأهلية التي نادى بها قيس سعيد إلا ضمن المنوال الاقتصادي القائم ولن تغير ولو بجزء في التبعية الاقتصادية للقوى الامبريالية.

ريادة زعيم صاحب رسالة

كما أن الحركات الشعبوية تلتقي حول ضرورة ريادة “زعيم فذ” يجسد السيادة الشعبية ويمثل الناطق الرسمي والشرعي باسمها ولا يمكن الحديث عن “تكتل شعبي” تستند عليه الشعبوية بدون وجود علاقة مباشرة بین زعیم مناھض للأحزاب ومواطنین یشعرون بالإھمال من طرف الأحزاب السیاسیة المسيطرة وقد وجدت الشعبوية التونسية ضالتها في قيس سعيد الزعيم النقي والمنقذ من ضلال النخب وفساد الديمقراطية التمثيلية، ابن الشعب الذي لم يلوثه العمل الحزبي، القائد المختار الوافد من خارج الطبقة السياسية والذي سيقضي على الفساد والفاسدين.

يتصوّر السياسي الشعبوي العلاقة بين الشعب و”قائده” علاقة مباشرة دون أي وسيط مؤسساتي مما يتطلّب تواصلا مستمرا بين الشعب و”زعيمه” من خلال اللقاءات المباشرة أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي وهذا ما يفسر العداء الذي يكنه الشعبويون تجاه المؤسسات الإعلامية إذ يعتبروها أجسام وسيطة هجينة تديرها نخبة متآمرة دورها منع الشعب من تكريس سيادته.

كما أن القائد قيس سعيد يعتبر أنه صاحب رسالة خالدة وقد أعرب على ذلك خلال اللقاء الصحفي الذي نشرته صحيفة الشارع المغاربي.

– أليس هذه بشعبوية أستاذ سعيد ؟

ما معنى شعبوية ؟

– أن تتكلم كلاما ليس له أي معنى ؟

فيه كل المعاني. هذه الكلمة تستعمل دون العودة إلى أصولها ومعانيها الحقيقية.

– أنت متهم بالشعبوية … ؟

لا لا … يقولون ما يريدون لأنهم لا يعرفون ما يقولون أصلا ، أترشح وأنا مكره على ذلك قال تعالى “كتب عليكم القتال وهو كره لكم”.

– تُشبه الترشح للانتخابات بالقتال ؟

المسؤولية هي كره … حينما تقف على جبهة القتال كالجندي …لا يحب أن يقتل لكن كتب عليه أن يقاتل… العملية بالنسبة لي ليست طموحا شخصيا … طموحي علمي فقط.

يبدو قيس سعيد وكأنه زاهد في السلطة ومدفوعا إليها كرها تلبية لنداء الواجب تجاه شعبه فهو يحمل أوزار رسالة أرقى وأسمى من مجرد رئاسة الجمهورية.

إرساء نظام حكم دكتاتوري

كما أنه لم تشذ جميع الحركات الشعبوية، حال استقرارها في سدة السلطة، عن إرساء حكم دكتاتوري مبني على التسلط الفردي لـ “قائد الشعب”.

عند وصوله للحكم وظف سعيد “الشرعية الشعبية” لتوسيع دائرة صلاحياته ومراكز نفوذه تحت غطاء الحكم باسم الشعب وسرعان ما تحول حلم الحكم الشعبي إلى كابوس حكم استبدادي يعمل على الإجهاز على المؤسسات التمثيلية للنظام السابق والتهميش لدور الأحزاب والنقابات والجمعيات فما دام الشعبويون يمثلون الشعب الحقيقي فإنه لا يمكن وجود معارضة شرعية لهم أو أجسام وسيطة بينهم و بين السلطة كالأحزاب   والمؤسسات الإعلامية  والمؤسسات البرلمانية والقضائية ومنظمات المجتمع المدني والمحاكم الدستورية إذ يرى الشعبويون أن دور تلك المؤسسات يقتصر على تزوير وعرقلة الإرادة الشعبية.

تفرد قيس سعيد بالسلطة التنفيذية ووضع يده على السلطة التشريعية التي أصبحت مجرد وظيفة في خدمة مشروعه، وعلى غرار السلطة التشريعية أصبحت السلطة القضائية أيضا وظيفة يوظفها لضرب كل معارضة لسياسته أو احتجاج ضد الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية كما يعمل قيس سعيد على كسب الموالاة التامة واللامشروطة للمؤسستين الأمنية والعسكرية، لذلك أصبح مشهد الحكم يختزل في شعب خاضع ورئيس يحتكر السلطة وبين الشعب والرئيس دولة  كجهاز إدارة الخضوع.

الكراهية والعنصرية

ارتبطت الشعبوية تاريخيا بتأجيج الكراهية على أساس قومي أو عرقي أو جهوي أو سياسي ولم تشذ شعبوية قيس سعيد عن هذه السمة إذ سنت قانونا انتخابيا يناهض الانتماء الوطني للنائب لصالح انتمائه لمجتمعه المحلي القبائلي والعروشي مما أفرز مشاحنات جهوية وقبلية كما خلف أيضا تأسيس بعض الشركات الأهلية نعرات قبلية وعروشية لخلافات عقارية.

من جهة أخرى، تمايزت الحركة الشعبوية بأوروبا وأمريكا عن نظيرتها التونسية بطبيعتها العنصرية تجاه المهاجرين وبالخصوص الوافدين من القارة الإفريقية إلا أن قيس سعيد لم يفوّت أول فرصة تتاح له  لتأصيل حركته الشعبوية وإلحاقها بركب العنصرية فإثر انعقاد اجتماع لمجلس الأمن القومي يوم الثلاثاء 21 فيفري 2023 خُصّص للإجراءات العاجلة التي يجب اتخاذها لمعالجة ظاهرة توافد أعداد كبيرة من المهاجرين غير النظاميين من إفريقيا جنوب الصحراء إلى تونس أدلى قيس سعيد بتصريح أكد فيه أن “هناك ترتيب إجرامي تمّ إعداده منذ مطلع هذا القرن لتغيير التركيبة الديمغرافية لتونس وأن هناك جهات تلقت أموالا طائلة بعد سنة 2011 من أجل توطين المهاجرين غير النظاميين من إفريقيا جنوب الصحراء في تونس وأن الهدف غير المعلن لهذه الموجات المتعاقبة من الهجرة غير النظامية هو اعتبار تونس دولة إفريقية فقط ولا انتماء لها للأمتين العربية والإسلامية وأن جحافل المهاجرين غير النظاميين من إفريقيا جنوب الصحراء مازالت مستمرة مع ما تؤدي إليه من عنف وجرائم وممارسات غير مقبولة فضلا عن أنها مجرّمة قانونا وشدّد رئيس الجمهورية على ضرورة وضع حد بسرعة لهذه الظاهرة والعمل على كل الأصعدة الدبلوماسية والأمنية والعسكرية والتطبيق الصارم للقانون المتعلق بوضعية الأجانب في تونس و اجتياز الحدود خلسة”.

لاقى هذا الخطاب العنصري تنديد جل المنظمات الحقوقية المحلية والعالمية ولم يحض بالتأييد محليا إلا من طرف الحزب القومي التونسي الشوفيني والعنصري صنيعة الحركة الشعبوية وعالميا إلا من طرف ممثل أقصى اليمين الفرنسي  المتطرف إريك زمور الذي استغل تصريح قيس سعيد ليردد صداه في تغريدة على تويتر جاء فيها : “البلدان المغاربية نفسها بدأت في دق ناقوس الخطر في مواجهة موجة الهجرة.  هنا، تونس هي التي تريد اتخاذ إجراءات عاجلة لحماية شعبها. ما الذي ننتظره لمحاربة الاستبدال العظيم؟”.

العلوّ الشاهق والسقوط المدوي

 لم يكن خيار الشعبوية وبروز قيس سعيد حادثا تاريخيا أو حدثا معزولا أو طارئا عشوائيا بقدر ما كانت طبخة أخرى قدمتها البورجوازية العميلة تحت رعاية الدوائر الأجنبية لامتصاص الغضب الشعبي خوفا من هبّة جماهيرية تعصف بأركانها.

كما أن القراءة السطحية للشعبوية واعتبار أن قيس سعيد يعيش في برجه العاجي وأن سياسته ارتجالية لا تخضع لضوابط أو الاقتصار على التحليل النفسي لتفسير مواقفه السياسية لن يساهم إلا في حجب كنه الشعبوية وتخفيت النضال ضدها.

وإذ تنشأ الشعبوية في رحم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية وتقدم لها حلولا تبسيطية فإنها ستكون بذلك مدخلا لأزمات أعمق وأشد.

الوقائع عنيدة والتجربة التاريخية تحيل إلى النهاية المأساوية لمعظم الحركات الشعبوية فبعد العلوّ الشاهق سقوط مدوّ.


المراجع :

ـــ الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية التونسية.

ـــ الصحيفة الإلكترونية “الشارع المغاربي”          

ـــ قيس سعيد، شعبوية في زمن المشاعر الحزينة : فؤاد غربالي.

ـــ الشعبوية في طورها الدهماوي، قيس سعيد وطبيعة السلطة

   الجديدة في تونس : أحمد نظيف.


إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي إنحياز وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !