فيديو| برڨو: احتجاج فلّاحي البحيرين على مشروع لتعليب المياه يثير الجدل حول السياسة المائية للدولة

عمل صحفي غسان بن خليفة

تصوير ومونتاج وجدي المسلمي

قرّرت المحكمة الابتدائية بسليانة يوم الخميس 16 مارس الجاري الإفراج عن أربعة فلاحين من متساكني قرية البحيرين (معتمدية برڨو ، ولاية سليانة) في انتظار التصريح بالحكم في قضيتهم بعد 15 يومًا.

وتعود أطوار هذه القضية (التي يمثل فيها 17 متهما) إلى بداية الشهر الحالي، عندما احتجّ عدد من أهالي المنطقة على عملية حفر بئر عميقة لاستكشاف الماء بنيّة تعليبها وبيعها. إذ اعترض هؤلاء الفلاحون على هذا المشروع الذي يرون أنّه سيؤدّي إلى مزيد تفقير الموارد المائية بالمنطقة، التي تعاني أصلًا من شحّ المياه.

وقد أطْلع عدد من سكّان المنطقة صحفيي موقع ’انحياز’، خلال زياتنا يوم 15 مارس، على عدد من العيون الطبيعية والآبار التي جفّت بسبب “استنزاف المائدة المائية من قبل مصنع تعليب المياه التابع لشركة ’مالينا‘”، حسب قولهم. كما حمّلوا مسؤولية هذا الوضع الكارثي إلى الدولة التي وافقت خلال السنوات الماضية على انشاء ما لا يقلّ عن ثلاث مصانع لتعليب المياه في المنطقة (وهي : مالينا، برڨو وفرات). وتحدثوا كذلك عن نشوح عين بوسعديّة، التي صارت قبلة سياحية للزوّار خلال السنوات الأخيرة، منتقدين تواطؤ السلطات مع أصحاب شركات المياه عوض تجسيدها لخطابها الاعلامي عن “ضرورة ترشيد استهلاك المياه”.

وعبّر المحتجّون عن استنكارهم لقرار وزارة الفلاحة التي تسمح لأصحاب رؤوس الأموال بحفر آبار لاستخراج مياه الشرب وبيعها في الوقت الذي رفضت فيه مؤخرا مطالب ترخيص لحفر آبار من أجل الاستعمال الفلاحي.

عين بوسعديّة بين الحاضر والماضي

صاحب مشروع تعليب المياه: “المحتجّون يدافعون عن لوبي يحتكر القطاع”

من جهته، دافع محمد الأخضر العرفاوي، صاحب مشروع تعليب المياه، عن نفسه قائلًا في تصريح هاتفي لـ ’إنحياز‘ : “الأمر يتعلّق بحلم قديم بالنسبة لي. شقيقي حاول القيام بنفس المشروع ولم ينجح فيه.” وأوضح أنّه سبق له أن قدّم مطلبًا في الغرض منذ 2016، لكن وقع رفضه آنذاك، متّهما “لوبي شركات تعليب المياه” بأنّها تحتكر القطاع مستفيده من علاقاتها ونفوذها في الدولة قبل 25 جويلية.

وأكّد العرفاوي أنّه استكمل كلّ الشروط القانونية المطلوبة. وقد أمدّنا عبر البريد الالكتروني بعدد من الوثائق المبيّنة لذلك، من أهمّها قرار لوزير الفلاحة والصيد البحري والموارد المائية عبد المنعم بلعاتي (مؤرخ في 3 فيفري 2023) فيه إسناد لرخصة بحث وتنقيب عن المياه الجوفية في جهة البحيرين. ومن بين شروط هذه الرخصة أن يفوق عمق التنقيب 50 مترًا. وقد استند هذا النصّ إلى قرار لجنة إسناد الرخص المتعلقة بالملك العمومي للمياه التي اجتمعت ونظرت في الطلب بتاريخ 10 ديسمبر 2022.

وبخصوص احتجاجات الأهالي على حفره البئر، أجاب محدّثنا بأنّ اتهاماتهم له باطلة بالنظر إلى أنّ موقع حفر البئر يبعد عن المنطقة السقوية مسافة 2 كيلومتر و350 متر. وأضاف أنّ جفاف العيون لا علاقة له بحفر الآبار بل بشحّ الأمطار، وأوضح كذلك أنّ عملية الحفر يفترض أن تتجاوز عمق 100 متر وذلك لتفادي المسّ بالمائدة المائية السطحية المُستعمَلة، حسب قوله، في ريّ المنطقة السقوية.

من جهته اتّهم رجل الأعمال العرفاوي (وهو تاجر توزيع مواد غذائية وكان شريكا في مصنع للبلاستيك)، مناوئيه بأنّهم يدافعون عن مصالح لوبي يريد احتكار قطاع تعليب المياه. اذ أشار بوضوح إلى أنّ أحد المحالين في القضية المذكورة أعلاه هو في الحقيقة خال مالك إحدى شركات تعليب المياه المنتصبة بالمنطقة.

اتهامات بالمحسوبية لأحد المقرّبين من الرئيس

وقد أشار عبد الوهاب البرڨاوي (رئيس مجمع التنمية الفلاحية بالبحيرين)، أحد المحتجّين على المشروع، إلى وجود شبهة استغلال نفوذ في الموضوع وأنّه وقع الحصول على الرخصة “بطريقة التوائية”، كما وصف. اذ زعم أنّ بعض الشهود رأوا رضا شهاب المكّي (المعروف بكنية “رضا لينين”)، المُقرَّب سياسيا من الرئيس قيس سعيّد إلى جانب محمد الأخضر العرفاوي صاحب المشروع. كما أضاف أنّ الأخير لم ينف، أمام رئيس فرقة الأبحاث والتفتيش بسليانة، بأنّ رضا المكّي “صديقه”. ورجّح البرڨاوي أنّ المكّي قد تدخل لصالح الخضرواي، وكذلك النائبة الجديدة بسمة العرفاوي، لدى والي سليانة.

وقد صرّح رضا شهاب المكّي هاتفيا لموقع ’إنحياز‘ أنّ الاتهام الموجه له “لا علاقة له بالواقع” ورفض أن يؤكد أو ينفي وأن يكون في موضع مساءلة. إذ رأى أنّه من حقّه أن يلتقي ويتحدث مع من يريد من المواطنين، خاصّة وأنّه أصيل المنطقة. وتحدّى المكّي من يتهمونه بإثبات ادعاءاتهم. من جهته أكّد لنا الخضرواي أنّه التقى بالفعل المكّي خلال حضوره في أحد اجتماعات الحملة الانتخابية للنائبة بسمة العرفاوي وحدّثه عن “مطلبه المُعطَّل”. وقال أنّ المكّي قال له “إذا عندك حقّ تو تاخذه” وأنّه ساعده في الحصول على موعد مع وليد العبّاسي، والي سليانة. الّا أنّ الخضرواي شدّد على أنّ الوالي لم يكن له دور في حصوله على رخصة الحفر موضحًا أنّ اللجنة التي قرّرت ذلك ليست تابعة للولاية بل هي لجنة مركزية ترجع بالنظر إلى وزارة الفلاحة.

تساؤلات حول أولويات الدولة في مجال المياه

وقد أثارت هذه القضية تعاطف عددًا من ناشطي المجتمع المدني المساندين للحركات الاجتماعية. إذ تنقل عدد منهم لمساندة الموقوفين والمتّهمين خلال جلسة المحاكمة الأخيرة بسليانة، ومن بينهم ناشطون بجمعية “خضراء” للدفاع عن الموارد الطبيعية، وأعضاء بجمعية المليون ريفية والبدون أرض، إلى جانب المحامين المتطوّعين للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان. كما وقع تبنّي قضيّتهم من قبل المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والمرصد التونسي للمياه وغيرهم.

وفي هذا الإطار اتصلنا بعلاء المرزوڨي، منّسق المرصد التونسي للمياه، وسألناه عن رأي المرصد في الموضوع. وقد أفادنا محدّثنا بأنّهم في المرصد يتساءلون عن كيفية اقدام وزارة الفلاحة على منح هذه الرخصة في منطقة تعيش شحًا مائيًا وفي الوقت الذي لا تكفّ فيه الدولة عن دعوة المواطنين إلى “ترشيد استهلاكهم” للمياه وتذكيرهم بنسب الضعيفة لامتلاء السدود بالمياه بسبب الجفاف، “بل ووصل فيه الأمر بوزارة الفلاحة إلى منع زراعة بعض الخضر السقويّة” من أجل الحفاظ على الموارد المائية.

وأوضح المرزوڨي أنّ “المرصد” دعا منذ فترة طويلة إلى “إعلان حالة طوارئ مائية” في البلاد، مضيفًا أنّه لا يُعقَل أن يتواصل منح هذا النوع من الرخص خاصّة بعد أن شهدنا خلال الصائفة الماضية أعلى درجات حرارة مسجّلة بالبلاد منذ 1952 كما وقع تسجيل أدنى نسبة تهاطل للأمطار تاريخيًا خلال شهر أكتوبر الماضي. وأضاف أنّه توجد في تونس اليوم 29 رخصة رسمية لاستخراج المياه وتعليبه وأنّ تونس تتبوّأ المرتبة الرابعة عالميا لجهة استهلاك المياه المعدنية، وأنّ هذه “الأرقام غير منطقية بالمرّة في بلد يعاني الإجهاد المائي”.

وأكّد المرزوڨي أنّ هذه القرارات تدلّ على تخبّط الدولة وتناقض أولوياتها في مجال المياه، وأوضح أنّ “المرصد” يرى أنّ عدد رخص تعليب المياه فاق المعقول وأنّه يفترض بالدولة أن تؤمّم هذه الموارد عوض التفريط فيها للقطاع الخاصّ، وأنّه حيث توجد شركات تعليب مياه يوجد إلى جانبها العطش والاحتجاجات الاجتماعية والتهميش، ضاربًا كأمثلة على ذلك مناطق سجنان (ولاية بنزرت) والأبيّض (ولاية سيدي بوزيد) وأرياف زغوان وغيرها. وحذّر كذلك بأنّ الوضع الكارثي وأنّنا قد نشهد قريبًا تزايد انقطاعات المياه الصالح للشرب في عديد المناطق، وأنّ الدولة قد تلتجإ إلى اعلان “التقنين في الاستهلاك” على المواطنين. وأضاف أنّ هذا التقنين يبدو قد بدأ بعد بشكل غير مُعلن اثر ما لاحظه عديد المواطنين في بعض المناطق من تخفيض في قوّة تدفق المياه الصالحة للشرب في الحنفيات.

وقد حاول موقع ’انحياز‘ عديد المرات التواصل هاتفيا مع مسؤول من وزارة الفلاحة للحصول على تصريح بخصوص هذا الملفّ، الّا أنّه لم يقع الردّ على اتصالاتنا.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !