رأي | هل ستغيّر الهجرة تركيبتنا الديموغرافية؟ لن تغيّر، وإن غيّرت فلتغيّر

بقلم منذر سوودي
مدافع عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية

نشرت رئاسة الجمهورية بيانا على صفحتها في موقع فايسبوك بتاريخ 21 فيفري 2023، تحدّثت خلاله عن اجتماع لمجلس الأمن القومي تناول مسألة هجرة أفارقة جنوب الصحراء لتونس وكيفية مقاومتها. معتبرةً أن ذلك يندرج في إطار مؤامرة تهدف إلى “تغييرٍ ديموغرافي” لتركيبة المجتمع.

نَشرُ هذا البيان كان عقب موجة عنصرية مكثّفة شهدتها مواقع وسائل التواصل الاجتماعي في الأسابيع الأخيرة، إلّا أنّ أصول تلك الموجة تعود لعدة أشهر سابقة خاصّةً مع تصاعد فكرة “القومية التونسية” من خلال مجموعات، على رأسها “الحزب القومي التونسي”، والّتي تنشط في الأحياء الشعبية الّتي يسكنها مهاجرين/ـات من إفريقيا جنوب الصحراء على غرار أحياء ولاية أريانة، وتقوم بحملات تدعو المواطنين/ـات لمقاطعة هؤلاء المهاجرين/ـات و تحثّهم على عدم التعامل معهم/ن أو تسويغ المساكن لهم/ن.

إن فكرة التغيير الديموغرافي الّتي استندت عليها رئاسة الجمهورية في تدوينتها، ليست وليدة اليوم، حيث ورد هذا المفهوم لدى الكاتب الفرنسي ذو التوجهات القومية اليمينية رينو كامو في سنة 2010 تحت مسمّى “الإستبدال العظيم” ويعرّفه فيما بعد بأنه “تغيير لشعب ما بشعب آخر أو مجموعة شعوب في وقت قصير لا يتجاوز الجيل أو الجيلين”[1]. لكن في حقيقة الأمر هذا المفهوم ليس وليد القرن 21، فنفس المنطلق الفكري (تغير الشعب بشعب آخر) كان من بين التبريرات المتبنّاة من قبل الأنظمة النازية والفاشية في بدايات القرن 20، إذ تعتبر تلك الأنظمة أن التركيبة الديموغرافية والعرقيّة لشعوبها هي تركيبة “أسمى” و”أنقى” من نظيراتها وأن اختلاطها مع بقية الشعوب سيضّر بتلك النقاوة وذلك السّمو.

التركيبة الديموغرافية لأي مجتمع هي نتاج لمعادلة رياضية مبنية على ثلاثة مؤشّرات؛ الولادات والوفيات والهجرة. تتأثر تلك المؤشرات بعوامل عدّة من بينها الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والصحية والسياسية… وذلك ما ينعكس على مظاهر تركيبة المجتمع من حيث عدد السكان عموما، أو في علاقة بالتفاصيل كالتقسيم العمري والتوزع الجغرافي لكتل السكان وغيرها.

لا “تخف”، لا “تخافي”، فلن تغيّر (على الأقل على المدى القريب والمتوّسط)

في البداية وقبل كل شيء إن المغالطة الأولى الّتي نشهدها هو إستحضار و إسقاط نظرية “التغيير الديموغرافي” على الواقع التونسي بمؤشراته الهجرية التي يعايشها اليوم، فهي كأن تتحدّث عن إعاقة كاملة في الجسد وقصور تام عن الحركة عقب وخزة إبرة.

حسب آخر إحصائيات رسمية وردت بتقرير صادر عن المعهد الوطني للإحصاء بالشراكة مع المرصد الوطني للهجرة خلال شهر جويلية 2021 فإن عدد المهاجرين/ـات النظاميين/ـات وغير النظاميين/ـات من دول إفريقيا جنوب الصحراء المقيمين/ـات في تونس[2] لا يتجاوز ال21.500 مهاجر/ة أي نسبة 0.17% من عدد السكان في تونس. وبالتّالي فإنّ الواقع أبعد ما يكون على أن نتحدث عن “تغيير ديموغرافي” خاصّةً على المدى القريب والمتوسّط.

ثم إن ما يؤكّد النظرة العنصرية لمتبنّيي/ـات هذه النّظرية تجاه أفارقة جنوب الصحراء بالأساس، هو أن المهاجرين/ـات من دول إفريقيا جنوب الصحراء لا يمثّلون/ن الكتلة الأولى من حيث عدد المهاجرين/ـات في تونس، فعلى سبيل المثال تجاوز عدد المهاجرين/ـات المغاربيين/ـات المقيمين/ـات في تونس خلال نفس الفترة 21800 وفقا لنفس التّقرير. إلّا أن الحوار المجتمعي والخطاب الرّسمي التونسي لم يتناولا المسألة أساسا، أو على الأقل بنفس القدر الذي حظي به تواجد أفارقة جنوب الصحراء. طبعًا لرفع كل لبس، أن استحضر هذه المقارنة فذلك فقط لدحض فكرة خطر “الاستيطان الجنوب صحراوي” وليست بهدف إعادة توجيه فوهات بنادق العنصرية من فئة نحو أخرى.

إن غيّرت، فلتغيّر

الهجرة هي حالة طبيعية، ليست فقط للجنس البشري فحسب بل لجلّ الكائنات الحية. وتوجد عديد المقاربات لتحليل ديناميكياتها، وتختلف عديد النظريات في تفسيرها وفهم دوافعها. إلّا أن التّطبيع مع فكرة تغيير مفهومها من حالة طبيعية إلى “إشكالية” أو “تحدّ” هو ما يجعل من تلك المقاربات آليات لمقاومتها.

في حقيقة الأمر إن إعتبار الهجرة “إشكالية” ناتج عن فكرة ربط علاقة عدد السكان في رقعة جغرافية معينة بالموارد المتوفرة فيها. ورغم أن هذه المسألة سبق وأن تناولتها الكتابات والمجلدات منذ قرون خلت، إلّا أنها برزت أساسا مع توماس مالتوس الّذي اعتبر التزايد السكاني عائق أمام النفاذ للموارد مرتكزا على فكرة أنّ تطور عدد السكان لا يسير بنفس السّرعة وبنفس النسق مع تطور الموارد.

هذه الفكرة دحضت من جل التيارات الفكرية في الاقتصاد السياسي ولأسباب متعدّدة من بينها أن تطور عدد السكان وكذلك تطور الموارد ليست بقيم ثابتة في الزمان والمكان نظرا لعدة عوامل، فقد ارتكز كارل ماركس في نقده لمالتوس على أن الإنسان نتاج حتمية تاريخية وبالتالي فتكاثره وتحرّكه مرتبط بسيرورة التاريخ، من جهة أخرى يعتبر آدام سميث أن الحديث عن الإنسان كمستهلك دون الإشارة له كصانع للثروة الّتي سيستهلكها لا يستقيم، بل ويعتبر تطور عدد السكان “محبّذا” للنمو الاقتصادي[3].

ترتبط معاداة الهجرة والعنصرية بفكرة الفردانية، أساسُ المدرسة الاقتصادية الليبرالية، حيث تعتبر تلك المدرسة أن الهجرة ستجعل من الصراع على الموارد أكثر تعقيدا وأن المهاجرين/ـات هم بمثابة المستنزفين/ـات الإضافيين/ـات للثروات. في تونس وإن اعتمدنا، جدلًا، نفس المنطق الليبرالي في علاقة بالسوق ويده الخفية وتسييره لذاته، فيمكن القول أن تواجد أفارقة جنوب الصحراء المقيمين/ـات على الأراضي التونسية مرتبط باحتياجات السّوق، فوفقا لنفس التقرير المذكور أعلاه يشتغل أكثر من 52% من هؤلاء المهاجرين/ـات في ميادين الفلاحة وحضائر البناء والإعانة المنزلية، بالإضافة لـ22.8% منهم يشتغلون بقطاعات خدماتية أخرى على غرار المقاهي والمطاعم والحانات، حيث تمثل تلك الميادين المنفذ الذي أتاحته لهم/نّ حلقات الإنتاج بل وعبّرت عن حاجتها لهم/نّ من خلاله.

أي أن اعتبارهم/نّ عالة تستهلك الموارد، دون الإشارة للجانب الآخر من علاقتهم/نّ بالسوق والمتمثل في مساهمتهم/نّ في صناعة الثروة وتلبية احتياجات المجتمع هو منطق لا يستقيم. وتجدر الإشارة لأن تركّزهم/نّ في تلك المجالات الإقتصادية مرتبط بعدّة عوامل، فغالبا ما  تستقبل هذه النشاطات الفئات الهشّة نظرا لظروف العمل القاسية فيها كضعف الأجر وغياب التغطية الجتماعية والعدد المرتفع لساعات العمل، كما هو الحال بالنسبة للنساء العاملات في القطاع الفلاحي.

من زاوية أخرى، إن هجرة الجنوب إلى الشمال الّتي نعايشها اليوم مرتبطة أساسًا بالتقسيم العالمي بين دول الجنوب ودول الشّمال، والذي حدّدته عدة محطات تاريخية آخرها الإستعمار في نهاية القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين وتواصل فيما بعد عن طريق “الإتفاقيات الدولية”. فذلك التفاوت مرتبط بسياسات نهب ثروات دول الجنوب. إذ لا يمكن تحديد معدل لعدد السكان في أي رقعة جغرافية دون الحديث عن من يحتكر الموارد. بل ويمكن القول أن مسألة عدد السكان وتوزيعها بالنسبة لإفريقيا هي مسألة وهميّة غير مطروحة أساسا فحسب المفكر سمير أمين نسبة الأراضي المستغلة من إجمالي الأراضي القابلة للإستغلال الزراعي بالكاد تصل إلى حدود الـ12% في أواخر القرن العشرين.

لكن التقسيم العالمي للعمل فرض من له الحق في استغلال الموارد. وبالتالي فالهجرة تندرج في إطار مسار من مسارات تحقيق العدالة في نظام مختلّ يسمح بتنقّل السّلع ورأس المال في الوقت الذي يمنع تنقّل الإنسان. وهي نتاج حتمي لحركة جزءٍ من الجنس البشري نهبت ثرواته من قبل الجزء الآخر فسار ليبحث عنها. إذا فمن غير المنطقي أن نضع في أعلى سلّم الأولويات مسألة تحديد عدد من يتقاسمون/ن الموارد والثرّوات في رقعة جغرافية معينة، قبل أن نسائل نظام التقاسم والتوزيع وكيفيته ومدى عدالته، وينسحب ذلك على كل المجالات الجغرافية، من العالم للقارّة للدولة وتقسيماتها الجزئيّة.

تعتبر تونس من الدول الجنوبية ومن الدول الّتي عانت من نهب ثرواتها خلال الاستعمار، ولازالت تعاني ذلك حتى بعد الاستقلال عن طريق الإتفاقيات غير المتكافئة الّتي تبرمها مع دول المركز. أي أنها ليست من الدول الرئيسية في علاقة بتوافد المهاجرين/ـات ذوي/ـات الدوافع الاقتصادية، إلّا أن موقها الجغرافي يجعل منها محطة من محطات مسارات الهجرة، وأرض عبور أساسًا، رغم ما قد تشهده من استقرار لجزء ضعيف جدا من تلك الموجات على الأراضي التونسية.

إن الدّور الّذي إختارت السلطات التونسية لعبه كحرس لحدود الشّمال، سواءً أمنيًّا عن طريق اعتراض قوارب الهجرة في البحر الأبيض المتوسط والتي تضم أفارقة من دول جنوب الصحراء وكذلك أفارقة من شمالها متجهين/ـات إلى أوروبّا، أو عن طريق خلق مناخ طارد للمهاجرين/ـات من جنوب الصحراء على الأراضي التونسية، وهو ما حدث مؤخّرا، يقف عائقا أمام رد فعل طبيعي عن التفاوتات بين شمال وجنوب الكرة الأرضية ويساهم بطريقة غير مباشرة في مزيد تكريسه.

بالإضافة لما سبق ذكره حول أن الهجرة نتاج طبيعي للواقع الإقتصادي العام يمكن الإشارة أيضا إلى أن المخاوف المتعلّقة بتغيير في الجانب الثّقافي والاجتماعي في المجتمع التونسي هي مخاوف وهمية وخارج سيرورة التاريخ. إن الثقافات المجتمعية التونسية، سواءً المشتركة منها أو المتنوعة بين مختلف جهات البلاد والّتي نعيشها اليوم بما تحمله من مقوّمات كالدّين واللّغة واللهجات والعادات والتقاليد وغيرها، هي نتاج حتمي لاختلاط ثقافات مختلفة وصلتنا عن طريق الهجرة بمختلف أصنافها (السلمية منها كالتجارة أو الحربية منها كالغزوات والاستعمار) وعلى مدى قرون متواصلة، فاللّهجات التونسية في جل الجهات، رغم ارتكازها أساسًا على اللغة العربية (ذات الأصول المشرقية)، إلّا أنها تضم عديد المفردات الأمازيغية والتركية والإيطالية والفرنسية والإسبانية وغيرها. كذلك هو الأمر بالنسبة للدين، فرغم الإنتماء الّذي يغلب عليه الطابع الإسلامي المالكي (الّذي نشأ في الجزيرة العربية) إلا أن المجتمع كان قد شهد عديد الأديان والطوائف الأخرى الوافدة من عدة مناطق في العالم والّتي لا تزال موجودة إلى يومنا هذا رغم تغيّر نسب المنتمين/ـات لها بناءًا على تغيير في تركيبة الكتل السكانية. وبالتالي فالثقافة العربية الإسلامية الّتي اعتبرتها تدوينة رئاسة الجمهورية أنها مستهدفة في إطار “المؤامرة” هي في حد ذاتها نتاج للهجرة أساسا.

خلاصة ما أردت قوله من خلال ما سبق أن ما نعيشه اليوم من هجرة من جنوب الصحراء الإفريقية ليس إلّا نتاجا طبيعيّا لعدة عوامل إقتصادية وسياسية وإجتماعية حملها التاريخ في طياته، وأن أرقام المهاجرين والمهاجرات اليوم لا يمكن أن تحمل معها تغييرا ديموغرافيّا شاملا أو ما يسمّى بـ”الإستبدال العظيم” لا على المدى القصير ولا على المدى المتوسّط وذلك لطبيعة تلك العوامل التاريخية التي لا تضع تونس في خانة أرضي الوصول.

وحتى في حال أنّنا سلّمنا بحتمية ذلك التغيير بعد عشرات أو مئات السنين فهو في حد ذاته حلقة صغيرة من سيرورة التاريخ والحالة العادية لتوزّع الجنس البشري على الكوكب، والخوف من تأثيره على الثّقافات المجتمعية في تونس نابع من نظرة عنصرية استعلائية عن باقي الشعوب في أفريقيا جنوب الصحراء لا أكثر، في حين أنّنا نشترك معهم في نفس المصير ونفس الأعداء التوسّعيين الناهبين لثرواتنا، والأجدر بنا أن نسائل الفوارق والتفاوتات بين دول الجنوب ودول الشمال عوض أن نزرع الفرقة بين الضحايا.

المصادر

[1] دومينيك آلبرتان، “الاستبدال العظيم” : الطوطم المتطرف، ليبيراسيون، 13 أكتوبر 2015

[2] حسب نفس التقرير، يعرّف “المهاجر/ة المقيم/ـة” : هو كل مهاجر/ة يـ/تقيم ستّة أشهر فما أكثر على التراب التونسي.

[3] ذكر أدام سميث ذلك في كتابه “بحث في طبيعة وأسباب ثروة الأمم”


إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي إنحياز وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً.




أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !