حول تمويل موقع انحياز : بعض نقاط على الحروف

انكشف أمرنا! للأسف عثر بعض النبهاء على سرّنا الدفين : مراسلة خفيّة من جمعية الورشة إلى رئاسة الحكومة نخبرها فيها بأنّنا تلقينا تمويلا قيمته 139 ألف و500 دينار (قضم منها البنك ما قضم) من منظمة أمريكية مشبوهة تُدعى “ألف تيّار” Thousand Currents . وبغضّ النظر عن كوننا نراسل رئاسة الحكومة التي اختارها رئيس الدولة الذي يدعمونه “بقلب وربّ”، فإنّنا – يا للمفارقة – لم نفعل سوى احترام القانون الذين ينادون صباح مساء بتطبيقه… بل – ويا لخيبتنا – تجرّأنا كذلك على نشر المراسلة على صفحاتنا (رغم أنّنا لم نكن مُجبرين على ذلك) من باب الشفافية واحترام قرّائنا ورفاقنا وأصدقائنا. ما أغبانا عملاء.. سلّمنا بأيدينا جوقة الوطنيين الفيسبوكيين الأحرار الدليل الذي كانوا يبحثون عنه للإيقاع بنا!

بعد الاعتذار عن هذه المقدّمة الهزلية التي تليق بهزالة بعضهم، يهمّنا الآن أن نتقدم بهذا النصّ التوضيحي لرفاقنا وأصدقائنا. وقبلهم إلى قرّائنا ومتابعينا الأوفياء، خاصة أولئك الذين تشرّفنا خلال الخمس سنوات ونصف الماضية بلقائهم في مختلف جهات البلاد وأحيائها الشعبية المُفقّرة وساهمنا في تغطية نضالاتهم وايصال أصواتهم المكتومة أو المشوّهة من اعلام الدولة والبرجوازية. فالانحياز إلى هؤلاء كان وسيظلّ بوصلتنا.

في الواقع لن ندّعي أنّنا نمتلك إجابة مقنعة للجميع بخصوص مسألة شائكة ومتعدّدة الوجوه: التمويل الأجنبي للمجتمع المدني. فأغلبنا كان معارضًا تماما قبل سنوات للحصول على أدنى تمويل أجنبي، لأنّنا نعرف جيّدًا خطورة هذا التمويل ودوره في افساد العديد من المناضلين. وتكفي قراءة كتاب “استعمرونا من فضلكم” للكاتب والمناضل اليساري التونسي محمد صالح التومي، وقبله كتاب “من الذي دفع للزمّار؟” للصحفية البريطانية فرانسيس ستونور ساندرز (حول دور المخابرات الأمريكية في تمويل المؤسسات الثقافية خلال الحرب الباردة)، فضلا عن كتابات عديدة حول الموضوع من أبرزها ما كتبته المثقفة الماركسية الهندية أروندتي روي عن “أنجزة المقاومة” .

وقد سبق لنا في موقع انحياز أن نشرنا العديد من المقالات التي تتطرّق إلى هذا الموضوع (يكفي وضع كلمات البحث “المنظمات غير الحكومية” أو “المجتمع المدني” للعثور عليها). بل وقد نشرنا قبل بضع سنوات افتتاحية – أغضبت في حينها البعض – تعرّضنا فيها بالنقد والتحليل لظاهرة الاختراق الامبريالي والصهيوني من خلال تمويل “المجتمع المدني”…

وهنا لسائل أن يسأل: لماذا إذًا رغم وعيكم بخطورة الموضوع وسابقيّة نقدكم له وتنبيهكم منه اخترتم في نهاية المطاف أن تقبلوا بالتمويل الأجنبي؟

لماذا قبلنا التمويل الأجنبي؟

انطلقت تجربة موقع انحياز في سبتمبر 2017. وقد كان الهدف منها – وما يزال – المساهمة في بناء إعلام مهنيّ “منحاز لمن هم تحت”، خارج عن سيطرة الدولة الطبقية التابعة ومناهض للرأسمالية وللامبريالية. وكان المشهد الماثل أمامنا مُفزعًا: تدفّق المليارات على جمعيّات ووسائل اعلام الليبراليين والاسلامويين، وما انجرّ عن ذلك من تعزيز لهيمنتهم الثقافية والايديولوجية (خاصة في مجال الاقتصاد السياسي) على المجتمع، مقابل عجز اليسار (خاصة الجذري منه) عن بناء ولو مجرّد لبنات لاعلامه الخاصّ به. وكانت اجابتنا على سؤال “ما العمل؟” تتمثّل في المرواحة بين الحصول على تمويلات غير مشبوهة والعمل تدريجيا على تطوير مواردنا الذاتية وضمان استقلاليتنا المالية.

وأوضحنا منذئذ في تقديمنا لخطّنا التحريري موقفنا الناقد جذريًا للتمويلات الخارجية المشبوهة لجزء من “المجتمع المدني” ووسائل الاعلام البديل، وشرحنا أنّ اعتمادنا على التمويل الأجنبي سيكون مؤقتا وجزئيًا طالما كان غير مشروط. وقد نجحنا في الالتزام بذلك حتى الساعة، إذ لم نلجأ خلال الخمس سنوات ونصف التي أعقبت انطلاق الموقع إلى التمويل سوى فترة سنة ونصف، فيما أمضينا أربع سنوات كاملة نحاول أن نستمرّ دون تمويلات، معتمدين في ذلك على مواردنا الذاتية ومساعدات الأصدقاء. لكنّنا بالمقابل، أخفقنا في ما أعلنّاه عن أنّ هذا الاعتماد على التمويل سيقتصر على فترة الانطلاق فقط.

نعم أخفقنا في ذلك للأسف. ويعلم رفاق الموقع وأصدقاؤه أنّنا لم نُعدم وسيلة من أجل ضمان استقلاليتنا بعيدا عن التمويل. إذ تصرّفنا منذ البداية باقتصاد شديد في التمويل الصغير الأول الذي سمح لنا بالانطلاق والاستمرار طيلة سنة ونصف، ثمّ عرفنا كيف نقتصد في التمويل الثاني الذي حصلنا عليه من خلال مشروع مشترك حول السيادة الغذائية، مع الأصدقاء في مجموعة العمل من أجل السيادة الغذائية، لنستمرّ في النشاط بعد انتهائه طيلة سنتين أُخريَين بالحدّ الأدنى رغم صعوبة ظروف وباء كورونا.

وقبل ذلك كنّا قد أطلقنا حملة جمع تبرّعات ونظّمنا في فضاء الريو يوم 26 جانفي 2020 يومًا لدعم موقع انحياز (بفضل كرم الرفيق الحبيب بلهادي صاحب الفضاء وتقديم رفيقنا الفنان ياسر جرادي عرضًا مجانيا وبيع بعض المنتجات الفنية من رفيقتنا مريم بريبري…)، لكنّنا لم نجمع يومها أكثر من 1000 د (أتى نصفها من تبرّع واحد لأحد الرفاق)، ولم نجمع من حملة التبرعات سوى 230 د (لم نحصل عليها حتى الآن من موقع “شقّاقة”). وواصلنا رغم ذلك طيلة سنتين ونصف أخريين معوّلين على مواردنا الذاتية وعلى تبرعات صغيرة من حين لآخر من بعض الأصدقاء (بما في ذلك بعض تبرّعات عينية: مثل آلة عرض أفلام أهدتها لنا رفيقة عزيزة تعيش بالمهجر).

لم ننتظر التمويلات أو التبرّعات لنقوم بواجبنا الإعلامي، إذ كنّا ندفع من جيوبنا طيلة سنتين لتوفير أجرة رفيقنا الصحفي الوحيد المتفرّغ (500 د شهريا) ومثلها لكراء مقرّ نعمل فيه. ونحن لا نعتبر ذلك أمرًا بطوليًا يستحق الإشادة، بل نقدّم هذه الوقائع فقط لتوضيح السياق الذي اضطرّنا للعودة مجدّدًا الى خيار التمويل.

كان بودّنا لو استطعنا الاستغناء عن أيّ تمويل من خلال حصولنا على تمويل عمومي (وهو أمر يخضع لشروط تعجيزية) أو على دعم الرفاق (خاصة أولئك الذين يهاجموننا اليوم)، أو لو حصلنا مثلا على دعم غير مشروط من “منظمّة حشاد” (وهو ما تفعله النقابات العمالية حول العالم حيث تدعم الجمعيات ووسائل الاعلام المناهضة للرأسمالية) أو غيرها من الجمعيات الصديقة. لكنّ المدَد لم يأت وشحّت مواردنا الذاتية، فاضطررنا مجدّدا للاعتماد مؤقتا وجزئيا على التمويل. لكن ونحن نمضي في هذا الخيار وضَعنا دائما نصب أعيننا جملة من المحاذير والخطوط الحمراء.

خطوطنا الحمراء في قبول التمويل الأجنبي

في المرّات الثلاث التي قبلنا فيها تمويلا (وهو دائما أجنبي للأسف)، التزمنا – وما نزال – الشروط التالية:

– عدم تلقّي أيّ تمويل قادم مباشرة من أيّة دولة أو مؤسسة حكومية أو سفارة (خاصة الدول الامبريالية) ومن أيّ منظمة غير حكومية معروفة بارتباطها بتلك الدول (فريدم هاوس مثالا على ذلك)؛

– عدم قبول أيّة شروط مسبقة تخصّ مضمون ما ننشره على موقعنا (وعلى وجه التحديد ما ننشره من مقالات ناقدة للتطبيع مع الكيان الصهيوني والسياسات النيوليبرالية والامبريالية)؛

– عدم قبول أيّة شروط أو ممارسات تمسّ بالسيادة الوطنية لشعبنا (مثلا قبول زيارة أو لقاء ممثّلين ديبلوماسيين أو تقديم معلومات تمسّ بسيادة البلاد وأمنها أو التورط في التطبيع).

والحقّ يقال لم تكن فرص الحصول على تمويلات قليلة خلال السنوات الماضية، لكنّها لم تكن غاية نسعى وراءها، بل وسيلة نلتجأ إليها أحيانًا مُكرَهين حَذِرين. وحتى عندما قرّرنا الحصول على تمويل، لم نتردّد في صرف النظر عن أحد العروض لمجرّد وُرود تلميح إلى ما ننشره حول فلسطين أو حول صور لأعلام “شيوعية” في بعض ما نشرناه من مقالات. ورغم أنّه سبق أن نشرنا تحيينات لما حصلنا عليه من تمويلات على موقعنا، إلّا أنّ إعلاننا عن حصولنا على التمويل الأخير من منظمة Thousand Currents أثار بعض الجدل. قد يعود ذلك لقيمة التمويل، الذي رأى فيه البعض مبلغًا ضخما (وهو لا يقارن بما تحصل عليه الجمعيات اليمينيّة) أو للسياق السياسي ما بعد 25 جويلية، الذي انتعشت فيه أكثر خطابات التخوين والتفسيرات التآمرية السطحية.

وقد كان بمقدورنا الاكتفاء بما يطلبه قانون الجمعيات من اعلام لرئاسة الحكومة بورود التمويل، لكنّنا خيّرنا الاعلان عنه على موقعنا وعلى صفحة جمعية الورشة وعلى صفحة موقع انحياز. لأنّنا نؤمن بالشفافية والوضوح تجاه أبناء شعبنا ورفاقنا وأصدقائنا، ولأنّنا “لا نخشى في الحقّ لومة لائم”. وكذلك لأنّنا نسعى منذ سنوات إلى فتح نقاش جدّي وبنّاء حول موضوع تمويل “المجتمع المدني”.

أمّا بالنسبة للتساؤلات حول هذه المنظمة، فما عرفناه من مسؤوليها – الذين تواصلوا معنا واقترحوا علينا المساعدة بعد أن سمعوا عن موقعنا ومضمونه المنحاز للطبقات الشعبية – وما وجدناه في ما ينشرون على موقعهم هو أنّهم لا يتلقّون تمويلات من الحكومة الأمريكية، وأنّهم يعتمدون أساسا على تبرّعات الأفراد و”المتبرّعين الخيريّين الكبار” (ما يُعرف بالـ philantropists )، كما تأكّدنا من أنّه لا علاقة لهم بالكيان الصهيوني. ورغم أنّه لا أوهام لدينا حول حسن نوايا هؤلاء “المحسنين الكبار” (وبعضهم من البرجوازيين)، فإنّنا لا نمانع في الحصول، بشكل غير مباشر، على شيء من الأرباح التي ينهبونها من العمّال ومن ثروات شعوبنا طالما لم يشترطوا علينا شيئا، وطالما سنستعملها للتشهير بالسياسات الرأسمالية والامبريالية ومقاومتها في بلادنا ومنطقتنا.

وقد طمأننا أكثر اعلان هذه المنظمة بوضوح عن دعمها للنضالات القاعدية للحركات الاجتماعية ببلدان الجنوب، وتحديدا دعمها غير المشروط لقضايا لطالما عملنا في ’إنحياز‘ على تغطيتها والتعريف بها، مثل السيادة الغذائية والعدالة الاقتصادية والاجتماعية والعدالة المناخية. كما مثّل حصول حركات اجتماعية جنوبية عريقة ومعروفة بجذريتها (ويقودها ماركسيون وثوريون)، مثل “حركة العمال الزراعيين بلا أرض” البرازيلية، على تمويلات من هذه المنظمة ضمانة نسبيّة اضافية لنا. وقد لمسنا من خلال تعاملنا مع مخاطبينا من هذه المنظمة خلوّ حديثهم ومراسلاتهم من أيّة نبرة فوقيّة أو شروط مسبقة أو محاولة لتوجيه مضموننا الاعلامي أو التأثير على خطنا التحريري.

وفي كلّ الأحوال، اذا ما لاحظنا اخلالًا بالمعايير المذكورة أعلاه، نحن مستعدّون.ات في أيّ لحظة لانهاء علاقتنا بهذه المنظمة أو بغيرها.

هل يعني ذلك أنّنا قد ضمننا استقلالية خطنا التحريري واستدامة عمل موقعنا؟ قطعا لا.

فنحن نعلم جيّدًا أنّ الارتهان للتمويل الأجنبي لا يأتي دفعة واحدة، بل يترسّخ تدريجيا من خلال اعتمادنا عليه حصريًا. وأنّه مع مرور الوقت وتوسّع حجم فريق العمل (وما يعنيه ذلك من مسؤولية تجاههم وعائلاتهم) سيكون من الصعوبة بمكان التحرّر بسهولة من هذا التمويل، وأنّ ذلك قد يدفع بعض متلقّي التمويل إلى نوع من الرقابة الذاتية أو تدوير الزوايا بخصوص خطهم التحريري الجذري حتى لا يُغضبوا المموّلين ويفقدوا دعهم السخيّ. نحن واعون تمام الوعي بهذه الإشكاليّة التي قد تتحوّل إلى فخّ إن لم نُعدّ لها ما يجب اعداده من احتياطات وخطط بديلة. وهذه مسائل دائمة الحضور في نقاشاتنا وتصوّراتنا، وندعو جميع الرفاق والأصدقاء الحريصين على استمرار تجربة انحياز وتطوّرها إلى مساعدتنا فيها.

ماذا سنفعل بهذه التمويلات؟

يوحي بعض من هاجمونا إلى أنّ التمويل الذي حصلنا عليه سيذهب إلى جيوب شخص أو أشخاص بعينهم. الّا أنّ كلّ من يعرف كيف تدار المسائل المالية في الجمعيات (النزيهة طبعا) يعلم أنّ هنالك مصاريف متعدّدة: أجور العاملين في المشروع، كراء المقرّات، فواتير الاتصالات والتنقل والخ، اقتناء تجهيزات للعمل، الأداءات الجبائية لصالح الدولة، أجرة المحاسبين والخ. من جهتنا، وكما سبق أن أعلننا، سنعمل على تعزيز فريقنا بصحفيّيْن اضافيّيْن (وأكثر ان استطعنا)، وعلى تأمين مقابل مادّي يضمن حدًا أدنى من العيش الكريم لمختلف أعضاء الفريق، كما سنعمل على تطوير مضمون الموقع بتنويع فقراته وتعزيز مضمونه التثقيفي النقدي (خاصة في مجال تفكيك الخطاب الاقتصادي السائد) وعلى تحسين شكله البصري، وعلى اقتناء معدّات عمل جديدة والخ. ولا نمانع في نشر ميزانيتنا للعموم حالما نصادق عليها بشكل رسمي خلال جلستنا العامة المقبلة.

من أجل أرضية سيادية للمجتمع المدني في تونس

ومثلما سبق ذكره، يهمّنا الاستفادة ايجابيا من الجدال الذي حصل مؤخّرًا للدفع مجدّدا بالنقاش الذي سبق أن دعونا اليه في الماضي (ويعلم بعض الرفاق المنتسبين إلى المجتمع المدني المنحاز للطبقات الشعبية ذلك). اذ لطالما اتّسم النقاش حول ماهية “المجتمع المدني” في تونس ومجالات تدخله وارتباطاته التمويلية بالتشنّج والتوجّس. ولعلّ الجدال الذي أثاره مقال الصديقة هالة يوسفي في 2015 أبرز مثال على ذلك. وهانحن ندعو من جديد – رغم المؤشرات المتزايدة على تدهور وضع الحريات العامة – كلّ من يهمّه الأمر إلى النقاش العلني حول المسائل المذكورة أعلاه.

بل ونكرّر مقترحنا بضرورة صياغة أرضية، تكون بمثابة “خطّ فرز” بين “المجتمع المدني الليبرالي” وبين “المجتمع المدني الجذري” الذي لا يقبل مثلنا بالتمويلات المشروطة أو التي تمسّ بالسيادة الوطنية أو التي تخدم الأجندات النيوليبرالية التي ما فتئت تفقّر شعبنا وتكرّس تبعيّة دولتنا للمراكز الامبريالية.

أخيرًا، نشكر مجدّدًا كلّ من تفاعل معنا ايجابيًا، عبر التضامن أو عبر المحاورة النقدية المحترمة، ونعبّر لهم عن فخرنا بصداقتهم وحرصهم على تجربة انحياز، وندعوهم إلى تعزيز دعمهم لها بمختلف الأشكال، بما في ذلك عبر المزيد من “الرقابة الشعبية” على استقلاليتنا وعلى سلامة خطّنا التحريري الذي كان وسيظلّ دومًا “منحازًا لمن هم تحت”.

فريق تحرير موقع انحياز







أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !