رأي | معالجة المديونية بمزيد من التداين

سمير إبراهيم

عضو مجموعة قاوم من أجل بديل اشتراكي

“الصباح نيوز – استعرضت رئيسة الحكومة التونسية خلال محادثة أجرتها يوم الثلاثاء 14 فيفري 2023 مع المديرة التنفيذية لصندوق النقد الدولي كريستينا جورجييفا مدى تقدم البرنامج الوطني للإصلاحات الذي أقرته تونس، وذلك على هامش أشغال القمة العالمية للحكومات المنعقدة بدبي بالإمارات العربية المتحدة من 13 إلى 15 فيفري 2023 تحت شعار “استشراف حكومات المستقبل”.

وأعربت المديرة التنفيذية لصندوق النقد الدولي خلال اللقاء، عن ارتياحها لتقدم سير الإصلاحات في تونس، مبرزة استعدادها للعمل على تسريع النسق، من أجل التوصل إلى الاتفاق النهائي مع بلادنا.ويهدف هذا البرنامج دعم إصلاحات الحكومة التونسية لاستعادة الاستقرار الاقتصادي الكلي في تونس واسترجاع توازنات المالية العمومية.” أمام ضبابية عقد اتفاقية بين الدولة التونسية وصندوق النقد الدولي بدأ الحديث على الالتجاء إلى نادي باريس. ما هو نادي باريس وما هي مهامه وهل بإمكان السلطة التونسية التوجه إلى هذا النادي ؟

نادي باريس مجموعة غير رسمية تأسست سنة 1956 وتتألف من دائنين عموميين لديهم مطالبات على العديد من البلدان ذات المديونية العالية في جميع أنحاء العالم وتضم حاليا 22 عضوا دائما : الولايات المتحدة – روسيا – إسرائيل – ألمانيا – فرنسا – المملكة المتحدة –  اليابان – كندا – البرازيل – كوريا الجنوبية – إيطاليا – بلجيكا – إسبانيا – سويسرا – هولندا – أستراليا – النمسا – الدنمارك – فنلندا – النرويج – السويد –  إيرلندا.

يجتمع نادي باريس شهريا في باريس لتدارس وضعية عدد من الدول التي لها صعوبات في سداد ديونها الخارجية أو التي تراكم دينها و عجزت عن الالتزام بتسديده في الآجال المحددة وغالبًا ما يتم التوصية بها أو تسجيلها في نادي باريس عن طريق صندوق النقد الدولي بعد أن تكون الحلول البديلة لتسديد ديون تلك الدول قد فشلت.

تقع دعوة الدولة المكبلة بالديون، ممثلة بوفد يترأسه وزير المالية يضم مسؤولين من وزارة المالية ومن البنك المركزي، إلى اجتماع تفاوضي مع دائنيها في نادي باريس بعد إبرام اتفاق مع صندوق النقد الدولي ينص على أن هذه الدولة غير قادرة على الإيفاء بالتزامات ديونها الخارجية، وهي في حاجة إلى اتفاقية جديدة بشأنها. 

يحضر جلسات نادي باريس مراقبون لكن ليس لهم الحق في المشاركة في المفاوضات أو التوقيع على الاتفاقيات المبرمة ويندرجون ضمن 3 فئات :

– الأعضاء الدائمون الذين ليسوا دائنين للدولة المعنية ولكنهم مع ذلك يرغبون في حضور الجلسات.

– ممثلو الدول غير الأعضاء والتي لديها مطالبات على الدولة  المعنية بالتفاوض لكن ليس لهم الحق في توقيع الاتفاقية وحضورهم مرتبط بموافقة الأعضاء الدائمين والبلد المعني.

– ممثلو المؤسسات الدولية : صندوق النقد الدولي – البنك الدولي – منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية – مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية – المفوضية الأوروبية – البنك الإفريقي للتنمية – البنك الآسيوي للتنمية – البنك الأوروبي للإنشاء والتعمير – بنك التنمية للبلدان الأمريكية.

تدل كل المؤشرات على صعوبة توجه الدولة التونسية لنادي باريس لإعادة جدولة ديونها الخارجية وذلك عبر توصية من صندوق النقد الدولي الذي تبيّن له أن الحكومة غير قادرة على تعبئة الموارد الخارجية اللازمة لتمويل ميزانية 2023 وأن تونس، بتدحرجها إلى الرتبة 18 من سلّم 20 درجة حسب تصنيف وكالة موديز، أصبحت قاب قوسين أو أدنى من الإفلاس ولا غرابة في ذلك إذ بلغ حجم الدين العمومي المسجل في نهاية 2022 نحو 35.8 مليار دولار أمريكي، يتوزع على دين داخلي قدره 14.5 مليار دولار، ودين خارجي بنحو 21.1 مليار دولار، وبلغت خدمات الدين 1.13 مليار دولار في 2022.

بالتوازي مع تراكم الديون بدأ احتياطي العملة الصعبة في خزينة البنك المركزي يتآكل وأصبحت الدولة عاجزة عن الجمع بين تسديد الديون الخارجية من جهة والتزود بالمواد الأساسية والأدوية وتوريد الطاقة ومواد التجهيز والمواد الأولية من جهة أخرى.

في ظل هذه الأزمة تلجأ الدولة إلى مزيد من الاقتراض الداخلي لدى البنوك المحلية فجاء المرسـوم الرئاسي عدد 33 لسنة 2022  المتعلق بالموافقة على اتفاقية التمويل المبرمة بين الجمهورية التونسية ومجموعة من البنوك المحلية لتمويل ميزانية الدولة بمبلغي     81,5 مليون أورو و 25 مليون دولار أمريكي مما سيخلف تداعيات منها تراجع الاستثمار وتراجع النمو الاقتصادي وارتفاع نسبة التضخم المالي وغلاء الأسعار وتزايد معدلات البطالة والفقر مما ينذر بانهيار النظام النقدي.

دأبت الحكومات المتتالية في تونس على اللهث دوما وراء القروض المشروطة وقد تميزت حكومة قيس سعيد عن سابقاتها بالرضوخ الكامل لإملاءات الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي والبنك العالمي ولا أدل على ذلك إلا ما تضمنته ميزانية الدولة لسنة 2023 تحت مسمى “الإصلاحات الاقتصادية والجبائية” لا سيما المتعلقة برفع الدعم والتنازل عن حصص الدولة في المؤسسات والمنشآت العمومية وتقليص كتلة الأجور  و”الإصلاح” الجبائي وفتح آفاق جديدة أمام المستثمرين وخاصة الأجانب منهم.

تترقب تونس، هذه السنة، مرحلة فارقة في ملف دعم المواد الأساسية والمحروقات إذ ستشرع الدولة بصفة رسمية في رفع الدعم عن مواد الحليب والسكر والزيت النباتي ورفع الدعم عن المحروقات وتعريفات الكهرباء والغاز وزيادة أسعارها وتعتزم الحكومة مواصلة رفع الدعم في 2024 بترفيع أسعار الخبز  إضافة إلى مشتقات الحبوب إلى حين بلوغ حقيقة الأسعار العالمية في 2026.

كما أن للحكومة مخطط فيما يخص المؤسسات العمومية يرتكز بالأساس على تغيير الصفة القانونية للمؤسسات العمومية وإدراجها ضمن الشركات الخفية الاسم مع منح الحكومة حرية التنازل عن مساهمات الدولة لصالح الشركات الخاصة المحلية والأجنبية مما سيفضي إلى خوصصة المؤسسات العمومية و البنوك التونسية باعادة رسملتها وإعادة  هيكلتها قصد خوصصتها والتفريط فيها للأجانب مثلها مثل الأراضي الفلاحية.

كما تنص ميزانية الدولة لسنة 2023 على النزول بكتلة الأجور إلى مستوى أقل من 15 بالمائة من الناتج الإجمالي الخام للبلاد بينما كان يمثل 16 بالمائة سنة 2022 والتخفيض بنقطتين مائويتين في أفق 2026 وذلك من خلال التقليص في عدد الأعوان في الوظيفة العمومية وعدم تطبيق مقتضيات القانون المتعلق بالانتدابات الاستثنائية في القطاع العمومي وعدم تعويض الشغورات وتحديد نسبة الترقيات العادية لحدود 20 بالمائة وإسناد استراحة تعويضية في حالة القيام بساعات إضافية والتخفيض في عدد خريجي مراكز التكوين…

 لم تشذ الإصلاحات الجبائية الواردة في قانون الماليّة لسنة 2023 عن تعليمات صندوق النقد الدولي إذ أنه يعكس هاجس تعبئة الموارد فستبلغ المداخيل الجبائيّة المباشرة 57.97 بالمائة من إجمالي موارد الدولة وذلك على حساب المقدرة الشرائية للفئات الشعبية، فتعريفة خدمات المهن الحرّة غير التجارية، على غرار المحامين والمهندسين والعدول والمستشارين والخبراء والمترجمين وغيرهم إضافة إلى مجمل الخدمات الإدارية، ستشهد ارتفاعا وسيتحمّل الأجراء والموظّفون النّصيب الأكبر من جهود التعبئة، حيث تمثّل الضريبة على الدخل التي تشمل رواتب الموظّفين والأجراء 68.84% من حجم الأداءات المباشرة في حين لم تبلغ قيمة الأداءات المفروضة على الشركات البترولية وغير البترولية نصف المردود المنتظر من الضريبة على الدخل.

وهو توجه يتجنّب المسّ من مصالح رؤوس الأموال وفرض ضريبة حقيقيّة على الثروة  ويحمّل عجز الموازنة العمومية للطبقات الأكثر هشاشة في المجتمع كما أن قانون الموازنة الجديد يفرض أيضا زيادة كبيرة على مستوى الأداءات غير المباشرة مما سينعكس مباشرة على الأسعار، ومن يتحمل كل ذلك مرة أخرى هو الشعب.إن ظلال “الكومسيون المالي” تخيم على البلاد التونسية.

“الكومسيون المالي” لجنة مالية دولية تشكلت بتونس عام 1869 تحت ضغط بعض الدول الأوروبية في ظرفية اشتدت فيها الأزمة المالية التونسية واستحال على الدولة تسديد ديونها الخارجية التي بلغت آنذاك 125 مليون فرنك. وقد وضعت هذه اللجنة تحت رئاسة الوزير خير الدين باشا، وآلت في فترة لاحقة إلى مصطفى بن إسماعيل كما كانت تضم ممثلي أهم الدول الدائنة، وهي إيطاليا وإنجلترا وفرنسا.

فكان “الكومسيون المالي” أحد مظاهر التدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية للبلاد التونسية من خلال إخضاع ماليتها للرقابة الدولية. وقسمت مداخيل البلاد إلى قسمين خصص أحدهما لنفقات الدولة والآخر لتسديد ديونها، ووقع تقييد الباي فلم يعد بإمكانه أن يمنح أي امتياز أو يعقد أي اتفاقية قرض إلا بموافقة “الكومسيون المالي” الذي اشتغلكوزارة للمالية ولم يقع إلغاؤه إلا سنة 1884 أي بعد انتصاب الحماية الفرنسية بتونس.

إن وقع الأزمة الاقتصادية وتبعاتها الوخيمة لن يتحملها ولن تمسّ إلا الفئات الشعبية وفي المقابل تواصل البورجوازية العميلة تكديس الثروات ولن يكون نصيب الشعب إلا مزيدا من التفقير والبؤس. تروج هذه البورجوازية العميلة الحاكمة، بمعية الأحزاب الإصلاحية والظلامية، أن نهج سياسة التداين “قدرنا” وشر لا بدّ منه والحل يتمثل في ترشيدها أي، وبكل صلافة، معالجة معضلة المديونية بمزيد من التداين ورهن ثروة البلاد في يد القوى الاستعمارية  الجديدة وضرب كل معنى للسيادة الوطنية ولم لا الرضوخ لتعليمات نادي باريس ببدء تطبيع تدريجي مع الكيان الصهيوني العضو القار بهذا النادي؟

إن المنظومة الرأسمالية التابعة والعميلة، بحكم ارتباطها مع القوى الأجنبية الناهبة ودفاعا عن مصالحها الطبقية أعجز من أن تقدم بديلا اقتصاديا ـ سياسيا لصالح عموم الشعب كما أن الأحزاب الإصلاحية، وليدة المنظومة الحاكمة، تكتفي بتقديم بدائل لا تتعدى حدود رمرمة نظام العمالة الحاكم وذلك ببث الأوهام حول إمكانية قلب الأوضاع لصالح الشعب من داخل البرلمان والمؤسسات “الدستورية”.

 لن يكافئ  تحالف المنظومة الحاكمة والقوى الإصلاحية الشعب إلا بفتح الأبواب على مصراعيها أمام السيناريو اللبناني ووحدها القوى الثورية الملتحمة بشعبها قادرة على فتح أبواب الثورة على مصراعيها أمام التحرر الوطني والانعتاق الاجتماعي.


المراجع:

– ميزانية الدولة لسنة 2023

–  الندوة الصحفية لوزيرة المالية – 26 ديسمبر 2022

– منشورات الخبير الاقتصادي مرام بلحاج

– منشورات الخبير الاقتصادي رضا الشكندالي

– نادية الحامي – صحفية                                                      

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !