لا تقلقنا الضريبة… بل يقتلنا التقشف: سبع ملاحظات حول ميزانية 2023

بقلم وليد بسباس، باحث شيوعي

صدر مؤخّرًا مرسوم الميزانية لسنة 2023 وخلّف وراءه الانتقادات اللاذعة. هذه الانتقادات توجّهت أساسا لكونه مرسوما تضمّن الكثير من الأحكام الجبائية، حتّى أنّه وُصف بـ “ميزانية المجبى” وتمّ إحياء العلاّمة ابن خلدون لينطق ضدّه “إذا كثرت الجباية شارفت الدولة على النهاية”. لكن لم نسمع الكثير عمّا احتواه هذا المرسوم من أحكام يمكن اعتبارها عاديّة لكنّها تنبئ حقّا بالمعاناة، خصوصا لمن لا صوت لهم.نّ ولا منظّمات ولا هيئات مهنية تنطق باسمهم.نّ ويسهل عليها اعتلاء المنابر الإعلامية من مستشارين جبائيين ومحامين وغيرهم من المهن الحرّة التي ضرب هذا القانون مصالحها بصفة مباشرة. من ناحية المبدأ، لا يوجد أيّ إشكال في أن يدافع هؤلاء على مصالحهم. الإشكال فقط في ادّعاء الكونية لمشاغلهم وهواجسهم: أيّ إجراء مُضرّ بهم هو حتما مُضرّ بالجميع! وما من دليل أفضل على تهافت الخطاب الناقد لمرسوم المالية إلاّ هذا المشهد الذي يسوّق له البعض كدليل على عبثية هذا النص: إن ذهب فلاح ليشتري بقرة فهو سيُعاقَب بخطيّة مالية كبرى بما أن الفلاح لا يمكن أن يدفع سوى نقدا ثمن البقرة الذي يتجاوز خمسة آلاف دينار… ما لا يراه أصحاب هذا المثال هو أنّ الفلاّحين اليوم لا يشترون أبقارا البتّة بل هم في طور التضحية بقطعانهم بسبب ارتفاع أسعار الأعلاف.

1- حول الضريبة: كلّ يغنّي على مجباه

نحن لا نقول أنّ هذا النصّ لا يحتوي عبثا، بل بالعكس. لكن مواطن العبث ليست في الأحكام الجبائية الخاصّة بالمهن الحرّة او بمراجعة النظام التقديري. كمثال على ذلك، وحسب دراسة أنجزتها جمعية الاقتصاديين التونسيين في 2015 1 فإنّ معدّل التصاريح الجبائية التي يقوم بعض المعنيّين بالضريبة التقديرية من أصحاب المهن الحرة كأصحاب المقاهي والأكشاك والميكانيكيين يمثّل مداخيلًا أقل من الحدّ الأدنى الذي يُعتَبر كلّ من هو تحته فقيرا، اذ تقول الدراسة أنّه “حسب تصاريحهم، يعيش جميع الخاضعين للضريبة التقديرية تحت خطّ الفقر المدقع”. ويدفع بعض المعنيّين بالترفيع في الضريبة على القيمة المضافة من 13% إلى 19% معاليم ضريبية غريبة: فمعدّل الضريبة التي يدفعها مهندس معماري أقلّ من الضريبة التي يدفعها أستاذ تعليم ابتدائي ومعدّل ضريبة المحامي أقل من معدّل ضريبة أستاذ التعليم الثانوي. وحسب نفس الدراسة لا يتجاوز معدّل الضريبة للشخص الواحد من أصحاب المهن الحرّة ثلثي معدّل الضريبة التي يدفعها إطار سام في الوظيفة العمومية. في كلمة: هؤلاء يخوضون معركتهم، لكن لا مبرّر لأن تكون معركة الجميع.

العبث الأكبر في مرسوم المالية لسنة 2023 هو تواصل نهج قوانين المالية السابقة في وضعٍ أثبَت ويُثبت يوما بعد يوم أنها سياسات لا تخلّف سوى الهشاشة للناس؛ وذلك من خلال تفكيكها المُمَنهج لما تبقّى من بُنيان الدولة في وقت تفرض فيه التغيرات المناخية سياسات للتأقلم مع الوضع الجديد، في وقت لا نعرف متى تأتي فيه الجائحة القادمة، في ظلّ أزمة عالمية تحتّم تغيير السياسات المبنيّة على التصدير، في وقت انخرام جميع المرافق العمومية، وأخيرا في وقت يعاني فيه الفلاحون مخلّفات تخلّي الدولة عنهم. فيما يلي، لن نركّز على ميزانية 2023 في حدّ ذاتها ولن نتوسّع أكثر في الجوانب الضريبية منها، بل سنقرأ أرقامها على ضوء أرقام الميزانيات الماضية وسنرى كيف أنّ هاته الميزانية ليست فقط تواصُلٌ لنفس سياسات التقشف بل هي تعميق لها.

2- ميزانية في نسق تطوّر عادي، الأجور في انخفاض2

قدّر مرسوم الميزانية لسنة 2023 أنّ مجمل نفقات الدولة سيصل إلى 69000 مليون دينار. هذا الرقم أثار ضجة كبيرة بما أنّنا اقتربنا من الخطّ الرمزي للـ 70000 مليون دينار، واعتبره “الخبراء” والمعلّقون رقما مبالغا فيه في ظلّ ما يعبّر عنه بحالة الأزمة التي تعيشها البلاد. كما تمّ كذلك الحديث عن كتلة الأجور التي وصلت حدّ 22000 مليون دينار، أي ثلاث مرّات كتلة الأجور لسنة 2010. هذه قراءة أولى، وهي قراءة جدّ سطحية. فليس من العقل أن نقارن أرقام سنة 2023 بأرقام سنة 2010: فقيمة الدينار الواحد لسنة 2023 ليست قيمة نفس الدينار في سنة 2010 بما أنّ التضخّم يُفقد العملة جزءا من قيمتها سنة بعد أخرى، لذا نستعمل الحساب بالدينار القارّ لسنة معيّنة، وهنا سنختار دينار 2010. تقول لنا الأرقام مثلا بأنّ الدينار الذي سيكون بين أيادينا في 2023 يساوي 481 ملّيما من ملّيمات 2010.

وبهذه الطريقة نرى أنّ الفرضية المزعومة لتضخّم الميزانية عندما نقرأها بالدينار الجاري لا تستقيم إن قرأناها بالدينار القارّ. اذ لم تتطوّر الميزانية بالدينار القار سنة 2023 إلاّ بنسبة 3,9% بينما كان معدّل تطوّرها 4,17% بين 2012 و2022، أي أنّه رقم قريب جدّا من معدّل العشرية السابقة. كذلك حينما نقرأ تطوّر الأجور بالدينار القار، فإنّ الأرقام تقول لنا بأنّ كتلة الأجور في انخفاض مطّرد منذ سنة 2020. وإن ارتفعت كتلة الأجور الحقيقية (أي بالدينار القار) في الفترة 2010-2020 وبلغ معدّل التطور السنوي لها نسبة 5,6%، أي أكثر بقليل من العشرية الفاصلة بين سنتي 2000 و2010 التي بلغت 4,8%، وهو ما يمكن تفسيره بسهولة تامّة بالانتدابات التي حصلت سنتي 2012 و2013.

لكن إذا دقّقنا في الأرقام، فإنّنا سنرى أنّه حتى معدّل الرواتب للموظّف الواحد سيتقلّص حسب ميزانية 2023 إلى 1387 دينارا في حين كان 1460 دينارا في 2022، أي انخفاض بنسبة 5%. هذا التقلّص يأتي بعد ارتفاع نسبي من 1270د سنة 2010 إلى 1513د سنة 2020 أي بمعدّل تطوّر سنوي بـ1,76%. رغم البروباغندا المحيطة بمسألة الأجور، فإن هذا التطوّر كان أقل من معدّل التطور السنوي بين 2000 و2010 والذي كان بنسبة 2,8%.

3- الوظيفة العمومية

هذا التقليص في مستوى الأجور يأتي كترجمة لسياسات الضغط على الأجور والامتناع عن زيادات تغطّي الخسارة الحاصلة جرّاء التضخم من ناحية، لكن كذلك وبالأخصّ لسياسات تقييد الانتدابات من ناحية أخرى. فبعد الارتفاع النسبي في عدد الموظفين من 444900 موظف في 2011 إلى 580720 سنة 2013، أي بزيادة 30% خلال سنتين3، لم تلبث وتيرة تزايد عدد الموظفين أن عادت سريعًا إلى أقل ممّا كانت عليه قبل 2010. اذ بلغ المعدّل السنوي لتزايد الموظفين نسبة 1,35% من 2013 إلى 2022 مقابل 2,3% من 1986 إلى 2010 في فترة الإصلاحات الأولى. وكم تبدو بعيدة فترة ما قبل الإصلاح الهيكلي حيث قارب معدّل الزيادة السنوية نسبة 5% بين 1971 و1986. حسب مرسوم الميزانية، ستكون هذه النسبة 0,61% في 2023…

قد يقول البعض أنّ التقليص في الانتدابات أمر عادي نظرا للتطور “الهائل” في حجم الوظيفة العمومية في أوّل العشرية. ما ينقصُ كلام هؤلاء هو المقارنة بأرقام بلدان أخرى. فارتفاع عدد الموظفين في أوّل العشرية لم يكن حتى كفيلا بأن نلحق ببعض البلدان التي تعتبر نفسها نموذجية في الموضوع. فقد انتقلنا من 403 موظف لكل 10000 ساكن في 2011 إلى 514 في 2013، وقد وصلنا نقطة عليا في 2017 بـ 544 موظف لكل 10000 ساكن؛ ومنذ ذلك الحين والعدد في انخفاض ومن المفترض أن يتراجع إلى 527 موظف لكل 10000 ساكن في 2023 4. إلاّ أنّ هذا الرقم بعيد كل البعد عن رقم 684 موظّف لكل 10000 ساكن في الولايات المتحدة و794 في بريطانيا و885 في فرنسا و1588 في النرويج5.

4- الصحة والداخلية: الأولويات لا تزال نفسها لحكومات “الإصلاحات”

إنْ أمعنّا النظر في أرقام الوظيفة العمومية، فإنّنا سنلاحظ أنّ تقييد الانتدابات والضغط على أعداد الموظّفين لا يطال كلّ المرافق بنفس الحدّة، وسنركّز هنا على ميزانية وزارة الصحة. قد يبدو للوهلة الأولى أنّ الحكومة ستعتني بالمرفق الصحي سنة 2023، بما أنّ الميزانية المخصصة له سترتفع بـ 16% من 3153 مليون دينار إلى 3660 م.د. إلاّ أن هذا التطوّر لا يعدو أن يكون مرافقة لتطوّر ميزانية الدولة برمّتها التي تطوّرت بـ 14,84%. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإنّ هذا التطوّر يأتي بعد سنة تقهقرت فيها ميزانية وزارة الصحة بنسبة 18,49%. فارتفاع ميزانية الصحة الظرفي خلال سنتين 2020 (39%) و2021 (35%) كان فقط مرتبطا بالجائحة وزال مع زوال أسبابه الظرفيّة. بالمقابل، فإنّ ميزانية الداخلية دائما في تطوّر، حتى في قلب الجائحة (18,5% سنة 2021). دولة الإصلاحات هي دولة لا تطرح على نفسها حماية المجتمع بل تطرح حماية نفسها وحماية النظام منه.

وما من دليل أوضح على ذلك من عدد الموظفين بوزارة الصحة الذي سيتقلّص للسنة الثانية على التوالي: فبعد أن وصل إلى 86095 سنة 2021، نزل إلى 78213 سنة 2022 ومن المفروض أن يتقلّص هذه السنة كذلك إلى 78020 موظف بالوزارة. لكنّ الرقم المخيف أكثر هو عدد موظفي الصحة لكلّ ساكن. ففي سنة 2023، سيكون هذا الرقم 62 موظفا لكل 10000 ساكن، أي أنّنا سنعود إلى ما كنّا عليه قبل 2013 ولن نتفاجأ إن عدنا سنة 2024 إلى أرقام ما قبل 2012.

5- ماذا عن الاستثمار؟

للوهلة الأولى، نرى أن ميزانية الاستثمار6 ستتطوّر بنسبة 18,39%، من 7725 مليون دينار في 2022 إلى 9146 مليون دينار سنة 2023. كذلك نقرأ في التقرير حول مشروع ميزانية 2023 أنّ “تقديرات ميزانية الدولة لسنة 2023 تتنزّل في إطار (…) حسن إدارة القطاع العامّ عبر ترشيد الإنفاق العمومي والتقليص قدر الإمكان من نفقات التأجير والدعم قصد توفير هامش مالي للاستثمار العمومي”7. في ظلّ تطوّر كتلة الأجور بنسبة 5,66% فقط وتراجع الميزانية المخصصة لصندوق التعويض بـ 26,39% نتوقّع أنّ هذه الميزانية ستكون ميزانية الاستثمار المنشودة منذ سنين! لكن هيهات! فالتطوّر الحاصل هذه السنة يأتي بعد التقليص الحاصل بنسبة 7,88% في سنة 2022 مقارنة بسنة 2021. لكن بالأخصّ، لا تمثّل ميزانية الاستثمار هذه سوى 13% من مجموع نفقات الدولة، وهي ثاني أدنى نسبة ستعرفها الدولة التونسية خلال ستّين سنة، ولم تر تونس نسبة أقلّ مخصّصة للاستثمار إلاّ سنة 2022 حيث كانت 12,69%.

وهذا تذكير آخر بأمر مهمّ: دولة الإصلاحات لا تستثمر. قد تُقدّم الاستثمار كتعلّة للقضاء على الدعم ولتقليص كتلة الأجور. قد تحاول إغراءنا بأنّ “ترشيد الدعم سيمكّننا من بناء 50 مستشفى وشراء 4000 حافلة كهربائية ومدّ ثمانية خطوط حديدية في مختلف المدن التونسي”8. لكن في الواقع لن يذهب أيّ ملّيم يقتصدونه إلى الاستثمار.

6- أيّ توزيع للنفقات؟ ميزانية في صالح المنظومة المالية

إذن أين ستذهب أموال الميزانية في هذه السنة؟ لقد اقتصدنا في الأجور، اقتصدنا في ميزانية صندوق التعويض، اقتصدنا في ميزانية الاستثمار… لم تبق إلاّ خانة واحدة، وهي خلاص الديون: فقد ارتفع مناب الديون من جملة نفقات الدولة من 23,59% سنة 2022 إلى 30,18% سنة 2023. وإن كان هذا يؤشّر إلى شيء ما فهو يؤشر إلى العودة إلى أكثر السنوات تقشفا في ظلّ نظام بن علي. فلم نعرف مثل هذه النسب في خلاص الديون منذ سنة 2004 حيث كان مناب خدمة الديون 34,42% من مجمل نفقات الدولة. منحنيات المديونية لا تُخطئ: نحن نعود بخطى حثيثة نحو سياسات تخصيص جميع الموارد المتاحة لخلاص الديون. وإن انخفض ذلك المناب بعض الشيء في أواخر الألفينيّات، فقد كان ذلك نتيجة عائدات التفريط في ثلث شركة اتصالات تونس. لنا أن نتساءل إذن: كيف سيعيد التاريخ نفسه هذه المرة؟ في أيّ مؤسسة عمومية ذات قيمة عالية سيتمّ التفريط؟ هل سيكون حقّا، كما يروج في الإعلام، بنك الإسكان أم وكالة التبغ والوقيد؟

إن دقّقنا في الأرقام، نرى أنّ ارتفاع خدمة الدين مرتبط أساسا بخدمة الديْن الداخلي. اذ تحافظ خدمة الدين الخارجي تقريبا على نفس المستوى مع بعض الارتفاع منذ 2016، وهي سنة صدور القانون الأساسي للبنك المركزي الذي كرّس “استقلاليته” لكن تسبب في نفس الوقت في النزول المطّرد لقيمة الدينار. ونزول قيمة الدينار أدّت إلى ارتفاع خدمة الديْن الخارجي. لكن وتيرة ارتفاع الدين الخارجي لم تصل إلى وتيرة ارتفاع الدين الداخلي، خصوصا منذ 2020. اذ ارتفعت خدمة الدين الداخلي بـ 89% في 2020 وبـ 36% سنة 2021 وبـ 15% سنة 2022، ويقدّر مرسوم المالية بأنّ خدمة الديْن سترتفع بـ 46% هذه السنة. لهذا الارتفاع تفسير وحيد: جائحة كورونا! فقد التجأت الدولة إلى المنظومة المالية الداخلية لتغطية عجز مواردها الذاتية وهو ما عاد على هذه الأخيرة بالفائدة كما نراه من منحنى خدمة الدين الداخلي:

لكن الربح الأساسي للمنظومة المالية هو في فائدة الديْن. فأصل الديْن هو ما قامت المنظومة البنكية بإقراضه وهو ما سيعود إليها لا محالة، وفي أغلب الأحيان لا تسدّد الدولة أصل الديْن بل تقترض قروضا جديدة لخلاص هذا الديْن وما تدفعه الدولة فعليا هو فقط فائدة الديْن. بالنسبة لسنة 2023، يقدّر مرسوم الميزانية أن خدمة فائدة الديْن الداخلي سترتفع إلى 3034 مليون دينار، وهو ارتفاع بنسبة 87% مقارنة بخدمة فائدة الدين التي دفعتها الدولة في 2019 (1621 مليون دينار). هذا الارتفاع ليس فقط مرتبطا بارتفاع المديونية الداخلية، بل كذلك بارتفاع نسبة الفائدة المديرية الذي لم ينزل تحت نسبة الـ 6,25% طيلة هاته الفترة.

ما نلاحظه في توزيع نفقات هذه السنة بالخصوص هو أنّ خدمة فائدة الدين الداخلي ارتقت إلى أن تكون في حجم ميزانية وزارة من الوزارات الكبرى. فخدمة فائدة الدين لهذه السنة (3034 م.د.) تقارب ميزانيات الصحة (3660 م.د.) والدفاع (3750 م.د.). وفي نفس الوقت هي أعلى من ميزانيات وزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري (2921 م.د.) رغم ما بدأنا نعاينه من آثار التقلبات المناخية وتأثير ذلك على ثرواتنا المائية ورغم ما علّمتنا إياه الحرب الروسية الأوكرانية من ضرورة استرجاع سيادتنا الغذائية. وهي أعلى من ميزانية التعليم العالي والبحث العلمي (2223م.د.) والتجهيز والإسكان (1738 م.د.) والنقل (998 م.د.). وإن كان هناك رقم ملفت في كلّ هذا، فهو أنّ ما سندفعه خدمة لفوائد الديون هو 12 مرّة ضعف ما سنخصصه لوزارة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن…

هذا الوضع هو نتيجة الدُغمائية النقدية التي تميّز القائمين على الشؤون المالية للدولة اليوم. أو كيف نفسّر أن يخصص 12 مرّة للمنظومة المالية والبنكية ما نخصّصه مثلا للطفولة، التي يتمّ استغلالها اليوم في وضح النهار للتسوّل أو ما نخصّصه لبرامج مناهضة العنف ضدّ المرأة. هي نفسها الدُغمائية التي تميّز القائمين على البنك المركزي حين يرفّعون في نسبة الفائدة المديرية لمحاربة التضخم والجميع اليوم يعلم أنّ التضخم سببه ارتفاع الأسعار العالمية وبداية التخلّي عن صندوق التعويض. هي نفسها الدغمائية التي تمنعهم من إقراض الدولة مباشرة أو على الأقل من شراء ديون الدولة تجاه المنظومة البنكية الداخلية. فلنع فقط أنّ ذلك سيوفّر للدولة مبلغ 12155 مليون دينار هذه السنة…

7– التخلي التدريجي عن صندوق التعويض أو التخلي عن أي نوع من السياسات الفلاحية

يشير مرسوم الميزانية إلى أنّ المبلغ المخصّص للدعم يتقلّص من 11999 مليون دينار في 2022 إلى 8832 مليون دينار في 2023. ما سيهمّنا هنا هو المبلغ المخصص لدعم المواد الأساسية الذي سيتقلّص من 3771 مليون دينار -وهو المبلغ المرسّم في قانون الميزانية لسنة 2022 ولم يتغيّر في قانون الميزانية التكميلي- إلى 2523 مليون دينار. ما تجدر الإشارة إليه هو أنّ هذا المبلغ مازال مرشحا للانخفاض على أرض الواقع. فإلى موفّى سبتمبر 2022 ومن جملة 3771 م.د. المخصصة لدعم الموادّ الأساسية في 2022، لم يتمّ استعمال سوى 49% (1876 م.د.) امتثالا لسياسة التقشف وانضباطا لطلبات صندوق النقد الدولي. وهذا ما أدّى إلى الأزمات التي تشهدها المؤسسات العمومية المكلّفة بتوريد الأساسيات مثل ديوان الحبوب وديوان الزيت وديوان التجارة، وهو ما أدّى بدوره إلى الانقطاعات المتكرّرة في بعض المواد الأساسية مثل السكر والقهوة والزيت النباتي وأدّى كذلك إلى الأزمات المتواترة لدى المخابز العصرية التي لم تتلقّ نصيبها من الدعم.

وإن سبق وتمّ إثبات تهافت الخطاب حول “توجيه الدعم إلى مستحقيه” و “تقليص كلفة الدعم على الميزانية”9، إلاّ أنّنا نلاحظ تواصله في المنابر الإعلامية، وما خير دليل على ذلك إلاّ تصريح وزيرة الصناعة والطاقة والمناجم المذكور أعلاه حول بناء المستشفيات والطرقات وشراء الحافلات بالأموال التي سيتمّ توفيرها بترشيد الدعم. لكن السبب الحقيقي لإلغاء الدعم هو واحد وحيد: الذهاب نحو “حقيقة الأسعار”، وهو من أبرز مطالب صندوق النقد الدولي، حقيقة الأسعار هذه التي ستمكّن من الاستثمار في المجالات التي يشرف عليها صندوق التعويض (الحبوب أساسا) وجني الأرباح وهكذا سيحقّق السوق السعادة للجميع10.

تنتظرنا إذن في السنة القادمة انقطاعات أخرى في الموادّ الأساسية وسترتبط وتيرة هذه الانقطاعات بالأسعار العالمية. تنتظرنا كذلك صابة حبوب ضئيلة لا فقط بسبب الأوضاع المناخية، لكن كذلك بسبب عدم تحديد سعر شراء للحبوب حتى الآن، وهي “حيلة” من وزارة الإشراف لانتظار مستوى الأسعار العالمية عند جمع الصابة في آخر الربيع وإجبار الفلاّحة على سعر يمكن ألاّ يغطّي تكاليفهم (تحيا السوق!). هذا التأخير في تحديد سعر الشراء تسبّب هذه السنة كذلك في زرع مساحات لا تفي بالغرض من الحبوب -مليون و200 ألف هكتار، وهي السنة الثامنة على التوالي التي يتمّ خلالها زرع أقل من مليون و300 ألف هكتار من الحبوب-، علاوة على توفير 20% فقط من البذور الممتازة المطلوبة لهذا الموسم11. وعليه سيكون ضربا من الخيال العلمي أن نطالب الدولة بالتدخل لترفيع سعر شراء الحليب من المنتجين لتغطية تكاليفهم من العلف وإنقاذ أبقارهم…

خاتمة

هذه الميزانية ستكون إذن الفاتحة للهجمة النهائية لمنطق الإصلاحات. لا يهمّ أن يواصل مرفق الصحة العمومية تفككه. لا يهم إن تواصلت انقطاعات المواد الأساسية. لا يهمّ إن فرّطتنا نهائيا في ما تبقّى من آليات السياسة الغذائية. لا يهمّ إن وجّهنا 45% من موارد الدولة الذاتية لخلاص الديون. كلّ ذلك لا يهمّ. لا يهمّ إن بقيت الطفولة مشرّدة في الشوارع والنساء التي تتعرضن للعنف دون حلول لوضعياتهن. لا يهمّ إن بقينا مكتوفي الأيدي أمام النقص الفادح في الموارد المائية بمنظومة فلاحية تصديرية تبتلع منها الجزء الكبير. لا! المهمّ هو الحفاظ على أسطورة “التوازنات الكبرى” للمالية العمومية. المهمّ هو الانضباط لإملاءات صندوق النقد الدولي من أجل الحصول على ذلك القرض وفتح الأبواب أمام المموّلين الدوليّين لنحافظ على رصيدنا من العملة الصعبة ونواصل توريد الكماليات وتوريد البترول ليشتغل اقتصادنا في خدمة بلدان الشمال. هذا هو المهم، أمّا حياة الناس وصحّتهم وغذائهم… فهي أمور لا تهُمّ من هم فوق!


1. ASECTU, Ancrage de la justice fiscale et mobilisation des ressources

2. سيستعمل المقال بعض الفرضيات الواردة في التقرير حول مشروع الميزانية لسنة 2023، وهي نسب التضخم لسنة 2022 (8,3%) ولسنة 2023 (10,5%) و نسبة النموّ لسنة 2023 (1,8%) وكذلك سنعتمد فرضية نسبة تزايد سكّاني بـ0,97% لسنتي 2022 و2023 وهي معدّل نسبة التزايد السكاني للخمسة سنوات الأخيرة

3. أرقام عدد الموظفين حتى 2017 من تقارير المعهد الوطني للإحصاء في تقارير "خصائص أعوان الوظيفة العمومية وأجورهم" ومن قوانين الميزانية لسنوات 2021، 2022 و2023.

4. باحتساب فرضية نمو سكاني بنسبة 0,97% في 2022 و2023 وهي معدّل نسبة النمو بين 2016 و2021.

5. Tableau de bord de l’emploi public, Situation de la France et comparaisons internationales, Décembre 2017

6. نتحدّث هنا عن معظم النفقات ذات الصبغة الإستثمارية والتنموية، وهي الاستثمارات المباشرة التي تقوم بها الدولة أو عن طريق إحدى المؤسسات العمومية أو التحويلات ذات الصبغة التنموية. أنظر.ي التقرير حول مشروع ميزانية الدولة لسنة 2023.

7. أنظر.ي مقدّمة التقرير المذكور أعلاه.

8. القنجي: ترشيد الدعم سيمكننا من بناء 50 مستشفى وشراء آلاف الحافلات الكهربائية، راديو IFM.

9. أنظر.ي مثلا:

وليد بسباس، من التعويض إلى الدعم: سيرورة القضاء على السياسة الغذائية الوطنية. موقع إنحياز، مارس 2022.

آمنة المرناقي، إلغاء دعم المواد الأساسية: تقشف الدولة يفقّر المواطنين.ات، موقع إنكفاضة، سبتمبر 2022.

10. وليد بسباس، صندوق النقد وذاكرة الإصلاحات المفقودة (ج2): الأسس النظري للإصلاح الهيكلي. موقع إنحياز، ماي 2021.

11. أحلام الباشا، بنقص في البذور الممتازة والأسمدة: تقدم موسم الزراعات الكبرى بنسبة 60% مع بداية ديسمبر، جريدة المغرب، 6 ديسمبر 2022.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !