رأيْ | “كوبانوس” أو رحلة عرب الساقية والوادي الى أكبر جزر الانتيل

محمد الفاروق – كاتب من الصحراء الغربية

في عام 1979، قبل أن يتوجه إلى الأمم المتحدة، سأل مراسل صحفي ، الزعيم الكوبي،  فيدل كاسترو، بعد رواج شائعة، تقول  بأنه دائماً، ما يرتدي سترة واقية، قائلاً “الجميع يقولون أنك ترتدي سترة واقية ضد الرصاص” فضحك كاسترو وخلع قميصه قائلاً “هكذا سأذهب إلى نيويورك، فلدي سترة أخلاقية تحميني دائماً”.[1]

أرسلت كوبا، خلال أزمة كورونا التي اجتاحت العالم مع بداية 2020 ، طواقماً طبية إلى حوالى 21 دولة للمساعدة في التصدي للفيروس، كان آخرها هندوراس. وانتشر فيديو يظهر استقبال سكان قرية كوبية طبيباً عائداً من مهمة في مواجهة فيروس كورونا، بعدما “أدى مهمته مع المعزولين في مكان آخر. تستحق هذا وأكثر يا أخي الصغير، أنت تصنع التاريخ. استرح وأعد تعبئة طاقتك لأن هذه الحرب لم تنته بعد”.[2]

افريقيا في جزيرة الحرية …

بدأ الانخراط الكوبيّ في القضايا الإفريقية مع دعم النضال التحرّري الجزائري ضدّ فرنسا، ثمّ انتقل إلى الكونغو (زائير سابقاً)، وفي 1964م أرسل كاسترو مبعوثه الشخصيّ «تشي غيفارا» في زيارة لثلاثة أشهر لعددٍ من البلدان الإفريقية، حيث كان يعتقد الكوبيون بوجود حالةٍ ثوريةٍ في وسط إفريقيا، وأرادوا المساعدة في ذلك.

بلغ الوجود العسكريّ الكوبيّ 46 ألف جندي وخبير، موزّعين على 14 دولة في إفريقيا، وترّكز معظمهم في كلٍّ من أنجولا غرباً وإثيوبيا شرقاً, ومع نهاية الثمانينيات كان الآلاف من الجنود والضباط الكوبيين حاربوا جنباً إلى جنب مع الجنود الأفارقة من أجل الاستقلال الوطني أو ضدّ العدوان الأجنبي، وفقَدَ الكثير منهم حياتهم في هذه الحروب[3].

واستمرت جزيرة الحرية ،رغم الحصار الظالم المفروض منذ 1962 ،في منح الامثلة على السخاء، ومساعدة الدول والشعوب، الاكثر حاجة، انطلاقا من القناعات والمبادئ المقدسة، بعيدا عن الشروط والقروض ومنطق التبعية والاستقواء ..

لم تكن الصحراء الغربية وشعبها استثناء ..

فمع اعلان الكفاح المسلح في الصحراء الغربية، ضد الوجود الاستعماري الاسباني، في 20 ماي 1973 ، وبداية تشكل حالة ثورية أو ما أطلق عليه  “فلسطين جديدة في أرض الصحراء” [4] .لم تتوانى كوبا، في تبني النضال والحقوق المشروعة للشعب الصحراوي، في مواجهة الاستعمار وأدواته الاقليمية ، وانعكس ذلك الدعم،  في جوانب مختلفة، لعل ابرزها  استقبال البعثات الدراسية السنوية إلى المدارس والمعاهد والجامعات الكوبية منذ 1976، تاريخ وصول أول بعثات الطلبة الصحراويين إلى الجزيرة اللاتينية [5].

الصحراويون وكوبا … شيء من الحنين وكثير من التقدير والاعتزاز…

في 20 يناير 1980 اعترفت كوبا بالجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية،  التي أعلنتها جبهة البوليساريو( الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب ) بعد جلاء الاستعمار الاسباني من الصحراء الغربية .مع إقامة مخيمات اللجوء الصحراوية في صحراء لحمادة جنوب الجزائر ، بعد التهجير الذي تلا الغزو المشترك المغربي الموريتاني لأراضي الصحراء الغربية، إثر توقيع اتفاقية مدريد الثلاثية، ظهرت الحاجة إلى التعاطي العاجل مع ظروف اللجوء والنزوح، وأعتلت ضرورات التكفل بالأطفال المهجرين  سلم أولويات العمل.

تراجيديا اللجوء والمعاناة التي رافقت الشعب الصحراوي مع بداية غزو القوات المغربية والموريتانية للمنطقة  كانت أحد دوافع ترجيح خيار توفير سبل الكرامة “لأطفال اليوم، رجال الغد” كما تؤسس لذلك أدبيات البوليساريو .[6]ورغم الصد الذي استقبلت به الأنظمة العربية الصحراويين، إنسانيا بدرجة أولى ، فإنهم وجدوا في امريكا اللاتينية وقيمها  ما خفف من وقع أسئلة-لا يخفيها أغلبهم- طالما حاصرتهم وأثرت في وجدانهم .أسئلة  من قبيل أين العرب؟  من هؤلاء العرب ؟

حضر موضوع الطلبة الصحراويين في كوبا، في الإعلام العربي، بصورة ضيئلة، لعل أشهرها في برنامج ” عرب في أمريكا اللاتينية” ، الذي كانت تبثه قناة “الجزيرة” القطرية. [7]  احتضن الكوبيون القضية الصحراوية ودافعوا عنها في كل المحافل ، وتحول سفراء البلد الكاريبي إلى ممثلين للشعب الصحراوي . أعجب كاسترو بالنضال الصحراوي، وثمن ثنائية البناء والتحرير، التي ميزت  مسار الكفاح  الصحراوي، وهي ثنائية الاستمرار في التحرير بأبعاده العسكرية والدبلوماسية، وبناء الإنسان والمجتمع، وتعزيز مقومات الصمود في اللجوء، و في تكريس لبنات المشروع الدولاتي الوليد.   .

كوبا الواقعة تحت حصار منذ عقود، قدمت نموذجا إنسانيا لا يطال  .فقد احتضنت جزيرة الحرية ، ٱلاف الأطفال الصحراويين ،وفتحت لهم المدارس الاعدادية والثانوية والجامعات بمختلف التخصصات .وعلى مدار أكثر  من أربعين سنة، زاوج رسل اللجوء إلى بلاد كاسترو ، بين  المبادئ والمواقف السياسية، والتجارب الاجتماعية  الإنسانية. توجد في مخميات اللاجئين الصحراويين بعثة طبية كوبية مقيمة على مدار السنة . وأسست مدرسة “سيمون بوليفار” في مخيم السمارة ، التي يديرها طاقم تدريسي كوبي  مقيم ، وفق المناهج التعليمية الكوبية ، و ينهي طلابها دراستهم في الجامعات الكوبية. كما تحظى مدارس التكوين، على غرار مدرسة تكوين الأطر الصحراوية ، برعاية كوبية ، من خلال مؤطرين مباشرين، يشرفون على التكوين  .

من جزيرة الماء إلى قفار الصحراء …

إلى مجتمع تقليدي مشبع بقيم ثقافية محافظة ، عاد “الكوبانوس” كما يحلو للبعض تسميتهم ، بحمولات ايديولوجية وثقافية متنوعة. أغنت عودة “أبناء الثورتين” التعبيرات الثقافية والاجتماعية .فقد أضاف تواجدهم إلى النسيج الاجتماعي، قبيلة جديدة هي قبيلة “كوبانوس” تحديا للأعراف الاجتماعية المنغلقة ، وهو رفض ذو حمولة حداثية يتجاوز المفهوم التقليدي للقرابة عبر الدم والنسب. مسّ تأثيرهم الثقافي أيضا اللهجة الحسانية، وهو تأثير محسوس في المنطوق ، عبر  تعزيز المفردات الاسبانية في اللهجة المحلية، التي “تعتبر الأغنى بالمفردات العربية”.[8] اعتبرت البوليساريو ذلك،  مصدر ثراء وتنوع ، وانخرط الكوبيون الجدد في الحياة الاجتماعية والسياسية في اللجوء .

استفادت المخيمات الصحراوية، من خدمات أكثر من 600 طبيب صحراوي، من خريجي الجامعات الكوبية، في مختلف التخصصات وانخرط الٱلاف منهم في سلك التعليم وفي المجالات المختلفة .[9]اندمج بعضهم في الجهاز السياسي للبوليساريو، و في السلم الاداري للحكومات الصحراوية المتعاقبة ، وانتظر البعض في أن تسهم يسارية المناهج والمدارس الكوبية، في  التأثير على بعض الخيارات والتوجهات الرسمية ، التي كانت جزءا من التكوين الاكاديمي والسياسي للوافدين الجدد.

وإذا كانت قصة “كوبانوس” مثيرة وذات تأثير بليغ ، فإنها لم تحظى بعد  بالدراسة الاجتماعية الكافية ، فقصص اندماجهم ، وتفاعلات عودتهم ، وانخراطهم في الملحمة الصحراوية، بأبعادها المختلفة، ما تزال تسطرها الذكريات واليوميات والتحديات..قضى أغلبهم أكثر من 15 سنة متواصلة، ومع انعدام وسائل الاتصال بالعائلات، كانت المدارس الكوبية و ثقافة النضال والمقاومة، الحضن الذي أثر فيهم، وساهم في التكوين الشخصي والثقافي لجل من مر من هناك . تزوج بعضهم من كوبيات، واستقر البعض، وعاد غالبيتهم.

للجزيرة البعيدة بآلاف الكيلومترات، عن إقليم الساقية الحمراء ووادي الذهب ،مكانة خاصة في قلوب الصحراويين ، ويحتفظ لها في الذاكرة الجماعية ، بمواقف نبيلة وراسخة لا تمحى ولا تغيب   ، فالسترة الاخلاقية التي ميزت أفعال وسلوكات كوبا من الجزائر إلى  ٱنغولا، مرورا بنامبيا وجنوب افريقيا ، هي ما يراه الشعب الصحراوي  ، بمثابة علم جزيرة كوبا وعنوان تميزها .

فمع “الكوبانوس” انغرست بذرة تواصل ثقافي واجتماعي وإنساني مثيرة للدهشة، تحتاج إلى عناية وسقاية تتحدى الاختلاف الثقافي والديني والإديولوجي السياسي ، فهي قصة اندماج ونجاح عابرة للحدود و للثقافات. إنها إرث إنساني مشترك .


هوامش :

[1] https://www.bbc.com/mundo/noticias-america-latina-36954339

[2] https://www.almayadeen.net/news/misc/1393170/%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B5%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D9%8A%D8%B1%D9%83%D9%8A-%D9%85%D8%B3%D8%AA%D9%85%D8%B1—%D9%88%D8%A3%D8%B7%D8%A8%D8%A7%D8%A1-%D9%83%D9%88%D8%A8%D8%A7-%D9%8A%D8%AC%D9%88%D9%84%D9%88%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85

[3] https://www.theguardian.com/commentisfree/2016/nov/30/africa-fidel-castro-nelson-mandela-cuba

[4] ملف حركة إلى الأمام  المغربية عن الصحراء الغربية:
http://www.30aout.info/%D9%85%D9%86%D8%B8%D9%85%D8%A9-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D8%A7%D9%85-%D9%88-%D9%82%D8%B6%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%AD%D8%B1%D8%A7%D8%A11.html

[5] الفيلم الوثائقي ، باللغة الاسبانية ، كاريبيو الصحراء : https://www.youtube.com/watch?v=8DXyzjLGsNc

[6] البوليساريو الطريق إلى المغرب الكبير:
https://drive.google.com/file/d/1m-UsCQPPRi_-35GKF2LxETCz3HSSU6fR/view

[7] الجزيرة، عرب امركيا اللاتينية :

https://www.aljazeera.net/programs/arabsoflatinamerica/2006/2/16/%D9%83%D9%88%D8%A8%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B9%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%AD%D8%B1%D8%A7%D9%88%D9%8A-%D9%88%D8%B7%D9%84%D8%A8%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B9%D8%AB%D8%A7%D8%AA#L3

[8] د.غالي الزبير ، نظرات في اللهجة الحسانية: https://www.anichsdl.com/2022/01/blog-post_22.html

[9] ريبورتاج لقناة “تيلي سور” اللاتينية عن واقع اندماج الكوبانوس في المجتمع الصحراوي بالمخيمات https://www.youtube.com/watch?v=qD7r08dKr8I

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !