رأيْ | هل أصبحت الحركة النسوية خادمة للرأسمالية؟

هل أصبحت الحركة النسوية خادمة للرأسمالية؟
قراءة نسويّة متموْقِعة

 

بقلم: صونيا بن يحمد
(ناشطة وباحثة نسوية ومن أجل العدالة الاجتماعية)

في حديث جمعني مؤخّرا بصديق حول الحركات الاجتماعية، قال لي بأنّه “طبعا” مدافع عن الفكر والطرح النسوي لكنه يرى أنه أصبح غير ذي جدوى، اذ أنّه صار شديد الاحتواء من الرأسمالية.  لم أتفاجأ تماما بكلامه إذ أنه تم توجيه الكثير من النقد للحركات النسوية من قبل ناشطين/ات وباحثين/ات وعلى رأسهم/ن نانسي فريزر التي أعلنت أن الحركة النسوية أضحت خادمة للرأسمالية[1]. لم أتفاجأ أيضا لأنني أعيش منذ فترة نصف العام في بلد غربي، الحياة اليومية لمعظم النساء فيه أسهل من نظيرتها في العديد من المناطق الأخرى من العالم[1]، وحقوق النساء والأقليات الجنسية فيه معتمَدة كواجهة وفي أغلب الأحيان لا تمثّل انقلابًا كبيرًا في واقع هذه الفئات. غير أنّ كلام صديقي أزعجني. طبعا لأنه رجل، لكن أيضا وربما خاصة لأنه رجل يعيش في تونس ويعتمد طرحًا أرى أنه مُسقَط على تونس. هذا الإسقاط مبنيٌّ على الأرجح على كون الأمر يناسبه، في علاقة بالامتيازات التي يتمتع بها كونه رجلا، لكنه مبنيٌّ أيضا على الإطلاقيّة التي نربطها ببعض الأفكار والأطروحات دون أخذ السياقات المختلفة بعين الاعتبار، وهو ما نعاتب الفكر اللاهوتي عليه لكننا نعيد إنتاجه في ما بيننا دون حرج ودون أية تَفَكُّرِيَّة.

سألت نفسي: هل من المعقول أن يؤمن صديق مثقف ومناضل تونسي يعيش في تونس ويمكن اعتباره حليفا للنسويات بما قاله لي؟ تذكّرت غيره، ممّن أعتبرهم قطعا أقلّ حَلافة لكن ممّن يحاولون على طريقتهم تفكيك نُظُم الهيمنة، أي من الواعين بوجودها أو بوجود وتأثير بعض منها على تشكيل الواقع. تذكرت التصاق صورة ليلى الطرابلسي بن علي بحقوق النساء في المخيال العام التونسي والمقولات السائدة عن أنّ الرجال مضطهَدين في تونس وأنّ “الحاكم” دائما في صف النساء. تذكرت كل هذا وقلت في نفسي أنّ ذلك معقول. لا بمعنى مقبول، لكن بمعنى مفهوم ولا يأتي من عدم.

هل أصبحت الحركة النسوية خادمة للرأسمالية؟

أظن أنه لا يمكن الإجابة على هذا السؤال بهذه الطريقة، أو على الأقل تجب إضافة بعض الأسئلة الأخرى إليه حتى يصبح سؤالا لا تصريحًا مُبَطًّنًا: عن أي سياق وعن أية نسوية نتحدث؟

من الجهل الحديث عن نسوية مُوَحَّدة اليوم في حين أنّ العديد من الصراعات تشقها وتقوم أحيانا كالحرب بين مختلف تياراتها ونصيراتها. الحركات النسوية كغيرها من الحركات السياسية والفكرية تتقاطع فيها مختلف المسائل الأيدولوجية ومحاور الهيمنة وتشقها رؤى متغيرة وغير جامدة، رؤى قد تفتقد إلى بعض التناسق. بعضها يتبنّى أو يغيّب أهمية جزء من محاور الهيمنة وبعضها يحاول تفكيكها كلها، بعضها يتحدث عن الشمولية والكونية، البعض الاخر عن التموقع والجزئية، بعضها يعتمد الهوية وجزء آخر يحاربها… عدا عن الاختلافات السياسية البحتة إن جازت تسميتها كذلك، في علاقة باليمين واليسار وما بينهما.  

أظن أنه لا خلاف في وجود حركة نسوية خادمة للرأسمالية. هناك من النسويات (رغم وجود فروقات بين قول نسويات وحركات نسوية) من تؤمن بالمشروع الليبرالي وبأنّ تحرر النساء يمكن أن يمرّ عبر تبنّي السوق الحرة وفي التصاق بالدولة كفكرة وبمؤسساتها كترجمة فعلية لتلك الفكرة، نسويات تتموقعنَ صلب أجهزة الدولة القمعية وتدافعن عن مشاريع ليبرالية جعلت كلّ المسائل المتعلقة بالنساء وحقوقهنّ تدور حول مسألة الخيار والحرية، دون التوقف عند ظروف إنتاجهما. وعلى “التحرّر” الفردي، مثالهنّ في ذلك سيّدات الأعمال الناجحات وكلّ من تجدن أنفسهنّ على رأس الهرم (أو قريبا منه). هناك من تدعينّ الكونية في حين أنهنّ تعتمدن الجزئية عند مطالبتهنّ بحقوق للنساء لن تشمل بالضرورة إلا بعض النساء، على حساب العديد من الأخريات المهمشات على أساس الطبقة الاجتماعية واللون والإثنية والدين والميولات الجنسية، إلخ.    

لكن، يا صديقي، هذا ليس حكرا على الحركات النسوية بل يشمل العديد من الحركات الاجتماعية الأخرى التي تتعاطى مع المجموعات والفئات الاجتماعية على أنها منعزلة عن بعضها البعض، سواء كان ذلك بطريقة نفعية واعية أو غير واعية. 

رغم قرب بعض النسويات في تونس وغيرها من حكومات يمينية وتبنيهنّ لطرح يُغيّب الطابع السياسي للمعارك أو حتى يتبنى ليبراليتها، والدفاع عن مشاريع تنسف أية إمكانية لترسيخ العدالة الاجتماعية التي لا حقوق للنساء من دونها، مثل قانون “المصالحة الوطنية” في تونس، ورغم أنه يمكن حتى اعتبار بعض المطالب صلب بعض المنظمات والأحزاب الفاشية في العالم نسوية، إلا أنّ أيّ تعميم هو إما جهل مدقع أو نوع من العمى والتعامي عن الفوارق بين مختلف السياقات وعن مدى حدة الفروقات المبنيّة على أساس النوع الاجتماعي في مناطق معينة من العالم، وعلى أنّ النسوية التونسية وعلاقتها بالدولة والقانون والمعيش اليومي للنساء مختلفتان تماما عن نظيريهما الكندي أو الأمريكي مثلا. تماما كما أنّه من العمى و/أو السذاجة أن نحلّل تبنّي الدولة التونسية لبعض المطالب النسوية واستغلالها اياها كما نُحلّل السياسات الجندرية لنظيرتيها الكندية والأمريكية وغيرهما.

عند طرح السؤال السابق، إضافة إلى ضرورة مصاحبته بأسئلة حول السياق وجعله أكثر دقة، يجب أيضا أن نسأل أنفسنا لِمَ من السهل علينا أن نتحدث عن استغلال بعض القضايا دون سواها. هل أنّ هذه القضايا هي بالفعل محلُّ استغلال وتوظيف أكثر من غيرها أم أنّ هذا هو فقط ما يسمح لنا (تـ)موقعنا برؤيته؟ أليست حقوق العمال والعاملات موضع توظيف بنفس الطريقة تقريبا؟ هل يجعلنا هذا قادرين/ات على اعتبار والتصريح بأنّ الحركة العمالية خادمة للنيوليبرالية؟ وإن كان الأمر يُنَسّب، فلِمَ لا يُنَسّبُ عند الحديث عن الحركات النسوية أيضا؟

في تونس، وفي العديد من دول الجنوب، مازالت الفوارق التي تجعل من المعيش اليومي للنساء صراعا مُنهكًا، أحيانا لمجرّد البقاء، حادّة، بقدر ما لا يزال الإنكار الاجتماعي لهذه الفوارق حادا، بقدر حدّة قدرة الرأسمالية على استيعاب واستغلال مختلف القضايا. 

تلعب الحركة النسوية دورا هاما في تسليط الضوء على هذه الفوارق وإنصاف بعض الضحايا ولكنها لا تتبنّى، كغيرها من الحركات، لا استراتيجيات ولا رؤى موحدة. يتماشى بعضها مع مأسَسَة النضال واقتصاد السوق ويتعارض البعض الاخر معهما بشدة. إلا أنّ نقص الموارد والإنكار المجتمعي (الذي يشمل الساحة النضالية أيضا) لا يساعدان البتة على صنع بديل أكثر راديكالية.

هل يجب إعادة تصور مصطلح النسوية؟

 سؤال يطرح نفسه: هل من الممكن أن يحمل نفس المسمى قضايا وأساليب قد تتناقض بصورة جوهرية فيما بينها؟ أي هل يمكن مثلا أن نتحدث باسم النسوية يمينا ويسارا؟  وإن كانت الإجابة “أجل”، ما معنى هذا الذي نسميه نسوية؟

رغم أنّ الحركة النسوية بُنيت تاريخيا وفي أغلب السياقات صلب وعلى هامش اليسار، أظنّ أنّ اختلاف التيارات والمرجعيات وتفشّي الاحتواء والتوظيف يجعل من الضروري اليوم أن نضع آليًا وصفا أو تيارا فكريا بعينه بعد كلمة نسوية، فكثرة الاحتواء تؤدي إلى كثرة المسمّيات، خاصة في عصر الإسهال اللغوي. لكن، ألم تعد كلمة “نسوية” دون إضافات تعني الكثير؟ سأجيب بـ”أجل”، في بعض المناطق لم تعد تعني الكثير ولكنها ليست الكلمة الوحيدة. عندما تعيش/ين في بلد نسبة البطالة فيه منخفضة والأجر الأدنى يسمح بما يمكن اعتباره عيشا كريما والمهن اليدوية فيه مُثمَّنة اجتماعيا، بلدٌ يدافع فيه جزء غير هيّن من العمّال والعاملات عن الرأسمالية ومجتمع الاستهلاك وعن قطاعية فجّة منظَّمة من قِبل الدولة، ولا يتضامنون/نّ كأفراد وحركة مع العمال والعاملات الذين واللواتي يعيشون ويعشن ظروفا مغايرة، أي أنهم/نّ الأكثر عرضة إلى المرور بتجربة البطالة وتلقي الأجر الأدنى طيلة حياتهم/نّ والترحيل عقب انتهاء عقود شغلهم/نّ، فهل يعني هذا أنه لم يعد من معنى لكلمة الطبقة والشغّيلة دون إضافات؟ هل يجب أن نضيف محاور الهيمنة المحددة الأخرى للمصطلح، في هذه الحالة مسألة اللون والعرق والدين، حتى يكون لها معنى؟ بنفس الطريقة، أظن ذلك. طاقة استيعاب واحتواء الرأسمالية أبرزت لنا أنّ جمود المصطلحات والمفاهيم غير قادر لا على مواجهتها ولا على تبيان وإبراز التضاربات التي تشقّ هاته المصطلحات. تقول أودري لورد: “لا يوجد نضال أُحادي لأننا نعيش حيوات ذات قضايا متعددة”[2]، فإما أن نُقِرّ بذلك أو نقرّ بحدود نضالنا ومنفعيته ونبقى عالقين/ات في مصطلحات تَفقد تدريجيا معناها، يزيد اسقاطها على مختلف السياقات الطين بلّة.

قلتُ سابقا، “في بعض المناطق”، ولا أرى تونس من بينها. أظنّ أنّ كلمة النسوية دون إضافات (كما الطبقة دون إضافات) مازال لها بعض المعنى في تونس نظرا لحدّة هيمنة الجندر كمحور للفروقات الاجتماعية (والطبقة أيضا)، ممّا يجعل الفروقات صلب الحركة النسوية أقل حدة من بعض نظيراتها ويخلق نوعا من التضامن صلب مختلف، أو على الأقل معظم، مكوناتها وركيزة بناء مشتركة ولو جزئيا، ولو إلى حين.

كلّ هذا يجعل من الأجدر بنا قلب السؤال: هل أصبحت الحركة النسوية خادمة للنيوليبرالية؟، والتساؤل حول طاقة استيعاب واحتواء الرأسمالية لمختلف القضايا وكيفية تجاوز ذلك وصنع البديل، إضافة إلى التساؤل باستمرار عن (تـ)موقعنا الشخصي/كفئة اجتماعية وما الذي يسمح لنا بـ(عدم) رؤيته. إلى أيّ مدى يساعد هذا الـ(تـ)موقع على صنع البديل؟ ألا يساهم الإنكار المجتمعي/النضالي لحدّة الفروقات المبنية على أساس النوع الاجتماعي، خاصة في مجتمعات بعينها وفي سياقات بعينها، في لجوء جزء من الحركات النسوية إلى النضال المؤسساتي والقانوني والهروب من فكرة المجتمع إلى فكرة الدولة إن صحّ التعبير، أي في تقليم أظافره واحتوائه من الرأسمالية؟    

يقال أنّه لا يجب الإجابة عن سؤال بسؤال، لكنّي أظنّ أنها الطريقة الأسلم أحيانا، إلى جانب ضرورة قلب بعض الأسئلة رأسا على عقب.


[1] طبعا تبقى هنا مسألة أي من النساء هامة إذ أن تجاربنا اليومية تختلف باختلاف موقعنا الطبقي والعرقي، إلخ 


[1] Fraser, Nancy (2013): “How Feminism became Capitalism’s Handmaiden_and How to Reclaim It,” The Guardian, Monday, 14 October.

[2] ترجمة لـ “There is no thing as a single-issue struggle because we do not live single-issue lives.”، وهي جز من خطاب للورد إسمه “التعلم من الستينيات”، كانت قد ألقته كجزء من الاحتفال بMalcolm X week-end في جامعة هارفارد عام 1982. 

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !