رأي | ما قتلهم حدّ؟ قتلهم “الاقتصاد”

بقلم وليد بسباس

جرجيس… جبنيانة… القيروان… عائلات غرقت في البحار. أمّ تنتظر على حافة البحر علّه يعيد لها عائلتها. أحياء فرغت من سكّانها وحيطان تحدّث المارّين عن الغائبات والغائبين، “باي باي بقات الحومة خالية”. ملابس وأحذية لفظها الشاطئ. هي مشاهد تمّ التطبيع معها. طبّعنا مع تعداد الموتى والمفقودين من أصدقائنا وصديقاتنا على الفايسبوك. نشاطر ألمهم ونمرّ. نجد بعض التعاطف المتناثر هنا و هناك، لا غير. فالانتباه موجّه نحو أزمة الوقود اليوم. وهذه الأزمة بالنسبة لنا لها أسباب واضحة ومسؤولين واضحين. تذكّر صديقة بالفصل الخامس والعشرين من نصّ قانوني صار دون معنى: تحمي الدولة كرامة الذات البشرية وحرمة الجسد. نتذكّر في الحين أن هاته الدولة لا تحمي كرامة الذات البشرية، بل هي فقط تحمي حدود بلدان الشمال من هاته الذوات البشريّة القادمة إليهم هاربة من حالة اليأس والإحباط وباحثة عن أفق أرحب وحياة أسعد.

لعلّ أحسن تعبير عن الحالة هي صرخة تلك الأمّ: “ولدي ما قتلو حدّ، قتلو المعتمد والحاكم”. لاقت هذه الجملة بعض التهكّم والسخرية لمّا رفعتها مغنّية بعد قتل شكري، لكنني لا أجد اليوم صيغة أحسن منها تعبّر عن الكارثة البشرية المتواصلة على بحارنا. تلك الأمّ تعرف حق المعرفة أن من قتل ابنها ليس “المعتمد” وليس “الحاكم”، لكنّها توجهت مباشرة للمسؤول المباشر عن فقدانها لابنها. هم ممثلو السلطة المباشرين، ممثلو النظام القائم. بينما نقف اليوم أمام المآسي التي تلفظها الأمواج بنوع من الإحباط واليأس الذي يدفعنا إلى حالة من النكران. من يمكن أن نتّهم ومن المسؤول؟ ونكتفي بتوجيه أصابع الاتهام إلى “الدولة”. “دولة الموت”. “دولة القهر”. ويصبح هذا الاتهام بمثابة البناء للمجهول.

هذه الضبابية في تحميل المسؤوليات في ما يخص ضحايا البحار تقابلها تحاليل و نقاشات عميقة معمّقة في أزمات الوقود والزيت والقهوة والسكر. تحاليل يقدّمها خبراء ومسؤولون سامون في الوزارات والمؤسسات العمومية ونقابيون وغيرهم. وكأن ما يحدث في العاصمة والمدن الكبرى شأن اقتصادي يستحق وضع الكراسي حول الطاولات وتُفتح له المنابر. بينما ضحايا البحار لا نخصّهم سوى بدقائق للترحم وذرف دموع من أعين ترى ولا تفهم ما يحدث. وإن تمّ استدعاء البعض للحديث عن هذه القضايا، فنجدهم.ن إمّا من عائلات الضحايا والمفقودين، وإما مختصّين من نوع آخر: مختصّين في علم الإجتماع وأحيانا علم النفس. ولا ينالون “شرف” حضور أي محلل أو خبير اقتصادي. ﻷن الحرقة بطبيعة الحل ليست إشكالا اقتصاديا بما أنّ تكلفة الرحلة على قارب الموت تقارب الراتب السنوي لموظّف عمومي. إي فقط في نظرهم مظهر من مظاهر “الانحراف الاجتماعي” ولا تصحّ مقاربتها إلا بالفن والأعمال الدرامية والدراسات الإثنوغرافية.

طريقة الطرح هذه هي في حدّ ذاتها إقصاء لمن يعيشون ويعشن هاته التجربة في أجسادهم\ن. إقصاء لهم.ن من مجال الاهتمامات لأصحاب الكلمة الجدّيين من الخبراء والمحللين الاقتصاديين. تماما مثل إقصائهم.ن من المجال الرسمي للدولة، وهذا هو جوهر الموضوع. الحراقة لا يشكون الخصاصة بل أشياء أخرى. من الممكن أنهم يشكون انعدام الأفق. من الممكن أنهم يشكون انعدام الأمل في حياة سعيدة. من المرجح أنهم فقط يشكون انعدام السبل إلى حياة “عادية”: وظيفة قارة وسيارة شعبية وحياة عائلية يمكن أن يتخيّلوا من خلالها أنفسهم يعيشون سنوات التقاعد بين أبنائهم وبناتهم وأحفادهم وحفيداتهم. وكأن هنالك حائطا عاليا  يسدّ عنهم هذا الأفق، أي أفق الحياة “العادية”، هو الحائط الفاصل بين المجال الرسمي للدولة والمجال الغير الرسمي. الحائط الفاصل بين المجال الذي لا تزال تغطّيه الدولة من وظيفة عمومية وقطاع خاصّ منظّم ومحميّ والمجال الذي انسحبت منه الدولة وانسحبت معها مستشفياتها ومدارسها ووظائفها القارة ودور الشباب ودور الثقافة وغيرها من أماكن تزيّن جدران بيوتهم وتغطّي سماءهم.

إن كان هناك متهم رئيسي في هذه الكوارث فهو هذا الحائط ومن بنى هذا الحائط. هذا الحائط هو التقشف… هو ثمانية وثلاثون سنة من التقشف، كلّ سنة تزيد مترا في علوّ هذا الحائط. هي ثمانية وثلاثون سنة من الانكماش المالي الذي كبح الاستثمار وبه كبح تطوّر المجال الرسمي للدولة. منذ بداية تطبيق بعض سياسات التقشف سنة 1984، تراجع الاستثمار ولم يعد إلى مستواه ذلك إلاّ سنة 1997. ثلاثة عشر سنة توقّفت فيها الدولة والاقتصاد عن التوسّع بينما لم تتوقف حركة المجتمع. ما ترك قسما واسعا من السكّان خارج تغطية الدولة والاقتصاد الرسمي. وما فتح الباب لما يسمّى الاقتصاد الموازي وباروناته… وما دفع بالعديد إلى الهجرة، الرسمية منها والسرية.

هذا الحائط هو التقشف : التقشف الذي يتمظهر كذلك من خلال الامتناع عن الانتداب، ما جعل اليوم عدد الموظّفين\ات لا يتجاوز الـ5,5 لكل 100 ساكن، أي أقل من أكثر الدول ليبرالية (7 في الولايات المتحدة و8 في بريطانيا الكبرى). ممّا يجعل جهات بأسرها تفتقد للإطار التربوي اللازم لانطلاق السنة الدراسية والأخطر من ذلك تفتقر لأطباء الاختصاص الضروريين لتسيير أبسط مستشفى جهوي ويجعلك عرضة للموت جرّاء أبسط حادث مرور تتعرّض له في أي منطقة تشهد تصحّرا طبّيا وما جعلنا فريسة سهلة لوباء الكورونا. هذا الحائط هو التقشف الذي يجعل من أولويات الدولة خلاص المديونية الخارجية عوض توفير الرعاية اللازمة للمجتمع ونرى في المقابل مستشفيات فرنسية برمّتها تديرها طواقم طبية تونسية.

هذا الحائط هو التقشف الذي لازلنا نعاني ويلاته في المدّة الأخيرة عبر التقليص في مصاريف التعويض\الدعم وهو ما أدّى إلى تعميق الأزمة المالية للمؤسسات العمومية المكلّفة بتوريد الأساسيات (ديوان الحبوب، ديوان التجارة، ديوان الزيت،…) بما خلّف انقطاعا في هاته المواد…

تُرى من بنى هذا الحائط؟ هو الاقتصاد! أو بالأحرى هم دعاة علم الاقتصاد الذين وضعوه كأولوية الأولويات. تلك المعادلات المجرّدة التي تَعلى في عيون الحكّام وآمريهم في المنظمات الدولية على حياة الإنسان بعد أن أعلوا مكانة “علم الاقتصاد” فوق كل الجوانب الاجتماعية والإنسانية لحياة البشر. فلا يجب أن تتجاوز نسب العجز في الميزانية الـ3% لكن لا بأس أن يموت 26 ألف إنسان جرّاء الوباء. ولا يجب أن يتجاوز التضخم الـ5% لكن لا بأس أن تبقى جهات بأكملها دون أطباء اختصاص. ولا يجب أن تتجاوز كتلة الأجور 10% من الناتج الداخلي الخام لكن لا بأس أن يلقى الآلاف حتفهم في البحار…

ما قتلهم حدّ… قتلهم “الاقتصاد”

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !