نحو السيادة الغذائية: أية حلول آنية و أيّ مكان للسيادة النقديّة؟

ما الذي يمكن أن يبرر أو يفسر أن غذاءنا اليومي رهين حرب تدور رحاها على بعد آلاف الكيلومترات منا ولا ناقة لنا فيها ولا جمل؟ ما الذي يبرر وصولنا إلى هذه الحالة من الارتهان للأسواق الخارجية من أجل غذائنا؟ إن الحديث حول إمكانية النقص في القمح بدأ قبل انطلاق الحرب: إن عدنا بعض الأشهر إلى الوراء، سنتذكر أنه حتى في نهاية 2021 دار الحديث عن إمكانية عدم توفر الخبز بسبب الأزمة التي يعيشها ديوان الحبوب. وقد سمعنا البكاء والعويل على إثر عدم قدرة الديوان على استخلاص ثمن القمح الراسي على بعد كيلومترات من موانئنا… أي أننا صرنا نعتبر أنه من العادي أن يكون رهينة “توازنات مالية” لمؤسسة عمومية تدعى “ديوان الحبوب” ولا يمكن لنا أن نفعل شيئا أمام تلك الحالة! من ناحية أخرى لم نعد نسائل اقتصار هذا الغذاء على موادّ – الخبز الأبيض والعجائن – غايتها الوحيدة هي إسكات الجوع عبر توفير الحريرات اللازمة للجسم البشري، دون حسبان لأضرارها على صحة الإنسان من أمراض كالسكري وارتفاع ضغط الدم وغيرها ودون إعطاء أهمية لنواقص هذا النظام الغذائي: لمَ وصلنا إلى هذه الدرجة من مركزية القمح ومنتجات الحبوب في نظامنا الغذائي؟


وضعت الدولة التونسية لبنة للسياسات الغذائية عبر صندوق التعويض كأداة تمويل وديوان الحبوب كأداة تنفيذ. غير أن التراجع الذي بدأ في بداية السبعينات عبر ترك المجال للسوق ومحاولة توجيهه فقط عبر صندوق التعويض لم يقض تماما على السياسة الغذائية للدولة، إلا أنه فتح المجال أمام تحويل النظام الغذائي عبر صعود منتوجات مثل البيض واللحوم البيضاء ممّا ساهم في الحفاظ على التوازن الغذائي. لكن هجوم صندوق النقد الدولي عبر برنامج الإصلاح الهيكلي تسبب في تراجع تدخل صندوق التعويض وحصره فقط في الحدّ الأدنى الضامن للسلم الاجتماعي: إسكات البطون عبر الدقيق (الفارينة) والخبز الأبيض والموادّ المعجنة. وتمّ المرور من التخطيط إلى ترك السوق تفعل مفعولها والاكتفاء بمراقبة مؤشر “الميزان التجاري الغذائي”1 وهو الفارق بين التوريد والتصدير في المجال الغذائي بحساب العملة: حيث نص المخطط السابع (1987-1991) أن “الحالة المُثلى ستجسد بالتوازن المستدام للميزان التجاري الغذائي”. لكن الميزان التجاري لا يعطي أية فكرة عن الاكتفاء الذاتي، وهو الذي يقاس بمؤشر الموجودات الغذائية (Les disponibilités alimentaires)، أي الفارق بين التصدير من ناحية والتوريد والمنتوج المحلي الموجه للاستهلاك المحلي من ناحية أخرى، والاعتماد في ذلك على وحدة الحريرات2.

هذه السياسة تجسّدت على أرض الواقع عبر قانون الاستثمار الفلاحي الصادر نهاية الثمانينات والذي جاء في سياق سياسات الإصلاح الهيكلي وهاجسه الأساسي هو توفير العملة الصعبة. وحسب نظرية الامتيازات المقارنة التي تعتمدها مؤسسات التمويل الدولية، فإن على كل دولة أن تتخصص في الميادين التي تكون فيها الكلفة أقل من الدول الأخرى لتنتج منها ما يكفي لتحقق اكتفائها وتصدّر منها وتغنم منها العملة الصعبة وفي المقابل تقوم بتوريد ما ينقصها من المواد الأخرى التي لا تنتجها، وهذا ما يسمّى نظرية النمو عبر الصادرات. إذن أشار لنا صندوق النقد والبنك الدولي بداية الثمانينات بمكامن “ميزاتنا المقارنة”، وبالطبع لم تكن لا في إنتاج السيارات ولا في التقنيات الحديثة: مثلنا مثل جميع بلدان الجنوب، ميزاتنا المقارنة تتمثل أولا في اليد العاملة البخسة الثمن والثانية في إنتاجنا الفلاحي الموجه للتصدير والذي يتمثل في القوارص وزيت الزيتون والتمور. وعليه تمّ مزيد تشجيع هذه المنتجات على حساب الأساسيات.

علاوة على أن هاته المنتوجات رهينة التقلبات المناخية وبصفة أشدّ رهينة رحابة صدر الأسواق العالمية وخصوصا الأوروبية منها ورغبتها في فتح أسواقها لنا من عدمه، فإنّها منتجات مستنزِفة للثروة المائية التي تُحوَّل وجهتها من أن تروي عطش البشر إلى ريّ البرتقال الذي لا يصدّر جلّه ويُلقى به بأسعار بخسة في الأسواق الداخلية – تلك التي كثيرا ما تفتقد منها الضروريات أو ترتفع أسعارها من حين لآخر بطريقة تجعل كأس عصير أقل ثمنا من صحن شكشوكة.

منطق الامتيازات المقارنة هو منطق يطبّع مع حالة تمّ بناؤها عبر الزمن: هذه الميزات المقارنة ليست “طبيعية”، بل هي نتاج تحويل تركيبة الإنتاج الفلاحي في تونس أثناء الاستعمار وحتى قبله. علاوة على كل هذا، أتت هذه النظريّة لتعزّز نظريا بنية التبعية القائمة منذ أواسط القرن التاسع عشر. وهي النظريّة التي تقوم عليها جميع “توصيات” مؤسسات التمويل الدولية من صندوق النقد الدولي إلى البنك الإفريقي للتنمية مرورا عبر البنك الدولي ومؤسسات التمويل السيادية الفرنسية والألمانية وغيرها. هي تفرض تنظيما معيّنا للبنى الاقتصادية المحلية لكي تستجيب “لحاجيات السوق العالمية”، وهي عمليا حاجيات دول الشمال في موادّ أولية ومنجمية ويد عاملة بخسة الثمن وغلال تزيّن طاولة الرجل الأبيض بعد الغذاء. لكنها كذلك تفرض سياسة نقديّة انكماشية (عكس تضخمية). حيث فُرِضَ على بلدان الجنوب أن تفرض حالة من الانكماش النقدي لمنع التضخم وتقليص الطلب وفرض نزول شبه دائم للعملة الوطنية وذلك للحفاظ على تلك الميزات المقارنة. هذه السياسة النقدية الانكماشية هي جوهر سياسات الإصلاح الهيكلي التي فُرضت علينا منذ بداية الثمانينات.

ديوان الحبوب وصندوق التعويض: أدوات السياسة الغذائية للدولة 

تمّ إنشاء ديوان الحبوب وصندوق التعويض كأدوات تنفيذ للسياسة الغذائية للدولة. فقد استُحدث ديوان الحبوب سنة 1962 تحت مسمّى “ديوان الحبوب والبقول الغذائية وغيرها من المنتجات الفلاحية”3. وكانت مهامه تتمثل أساسا في تحقيق التعادل بين الموارد والحاجيات وتنظيم ومراقبة إنتاج القطن والحبوب والبقول الغذائية وتنظيم ومراقبة أسواقها والقيام بجميع أعمال البيع والشراء وغيرها من العمليات اللازمة لتوفير الغذاء للجميع. أي أنّ الديوان كان يتدخل في جميع مراحل إنتاج وتسويق الأغذية الأساسية. بدأ هذا الدور في التراجع انطلاقا من السبعينات نحو التركيز فقط على الحبوب ومنها تغيير الاسم والاكتفاء بـ “ديوان الحبوب”. ثمّ شيئا فشيئا التخلي حتى عن بعض حلقات إنتاج وتسويق الحبوب مثل الجمع والتخزين وذلك انطلاقا من سنة 2005 4.

لم تبق من مهام ديوان الحبوب تقريبا سوى شراء الحبوب في السوق العالمية وتسويقها في السوق الداخلية، والإشراف على عملية تجميع الحبوب داخليا وتكوين مخزون احتياطي من الحبوب المعدّة للاستهلاك والشعير المراقب. أي أن غالبية مهام الديوان صارت مهاما تجارية بحتة وفي علاقة مباشرة بتوفير الكميات اللازمة من الحبوب، ويسنده في ذلك صندوق التعويض. حيث أن ديوان الحبوب من ناحية يقتني الحبوب من الأسواق العالمية بالأسعار العالمية ويقوم بضخها في السوق الداخلية بالأسعار المرجعية التي يتمّ تحديدها إداريا ويقوم صندوق التعويض بتعويض الفارق في الأسعار. كما يقوم الديوان من ناحية أخرى بتحديد الأسعار عند الإنتاج في السوق الداخلية لتحديد هامش ربح معلوم مسبقا للفلاحين وفيما بعد يقوم صندوق التعويض هنا كذلك بتعويض الفارق عند البيع للمتعاملين في السوق الداخلية من مطاحن ومخابز وغيرها. 

لكن بما أنّ الدولة التونسية لا تنتج عموما سوى ثلث ما تستهلكه من حبوب5، وعلما أنّ معظم الاستهلاك الداخلي من الحبوب هو من القمح اللين الذي يشكل المادة الأساسية في الدقيق والخبز والمقرونة وأنّنا لا ننتج سوى خمس حاجياتنا منه6، فإن أبرز نشاطات ديوان الحبوب صارت تنحصر في توريد الغذاء. فيتعرّض بذلك إلى تقلّبات الأسواق الخارجية من ناحية ومن ناحية أخرى إلى تقلّبات سعر صرف الدينار الذي فقد نصف قيمته على الأقل منذ قانون استقلالية البنك المركزي سنة 2016. ولنزد على ذلك انتهاج سياسة التقشف التي أدّت إلى عدم صرف مستحقات التعويض إلى ديوان الحبوب ممّا دفع به إلى الاقتراض. وقد أدّى هذا الاقتراض إلى عدة نتائج: الأولى تضخّم الأعباء المالية لديوان الحبوب، أي ما يدفعه من خطايا وفوائد للبنوك جرّاء الحسابات المكشوفة (أي ما يعبّر عنه بـ “الروج”) والقروض، وقد بلغت هذه الأعباء مستوى 384 مليون دينار نهاية 2020 7، أي ما يقارب 13% من مجموع إيراداته. ثانيها تفاقم مديونية الديوان تجاه المنظومة البنكية التي وصلت إلى حدود 2,732 مليار دينار نهاية 2020. وأخيرا أدّى ذلك إلى تفاقم المخاطر على البنك الفلاحي وهو البنك الأساسي الذي يستند إليه ديوان الحبوب حيث وصلت التزامات الديوان مستوى 22% من مجموع التزامات حرفاء البنك الفلاحي8. كل هذا مع العلم أن نتائج الاستغلال للديوان إيجابية9، أي بلغة أخرى فإن المشاكل الوحيدة للديوان هي تقاعس الدولة عن الإيفاء بتعهداتها على مستوى التعويض. أو لنقلها بطريقة أوضح: هو تقاعس العقل التقشفي للماسكين بدواليب الدولة عن وضع سلّم أولويات يراعي الإنسان قبل الأموال: فلم نرَ الدولة يوما تخلّ بـ “تعهداتها” نحو “الدائنين”.

نحن إذن أمام معضلتين اثنتين: تخلّي الدولة عن سياسة التدخل في الإنتاج عبر تحرير السوق الفلاحية منذ بداية السبعينات وتراجع دور صندوق التعويض انطلاقا من الثمانينات10 حيث فقدت السيطرة على إنتاج المنتجات الغذائية وصارت هذه السياسة تقتصر على إسكات البطون التي تصرخ جوعا: صار النشاط مرتكزا أساسا على القمح اللين لإنتاج الخبز وأغذية العجائن. والمعضلة الثانية هي اختلال التوازنات المالية لديوان الحبوب وصندوق التعويض جرّاء سياسة التقشف أوّلا وجرّاء استقلالية البنك المركزي ثانيا التي أدّت إلى تدهور قيمة الدينار وارتفاع الأعباء المالية لجميع المتدخلين.

الآن وحالا، ما العمل؟ من أجل تجاوز منطق “الكلفة”

إذن ما العمل الآن؟ هي مهمة صعبة نظرا لعمق تأثير السياسات الاستعمارية في البنى التحتية لاقتصادات بلدان الجنوب عموما وتونس بشكل خاصّ فيما يهمّنا في هذه الأسطر. الهدف الاستراتيجي هو لا محالة استعادة سيادتنا الغذائية، أو بالأحرى بناء سيادتنا الغذائية من جديد. لكن في الأثناء، علينا بإجراءات عاجلة تحقق لنا الحد الأدنى من غذائنا في المدى القصير والمتوسّط. مع العلم أن الإجراءات التقنية لن يكون لها مفعول قبل صيف 2023 نظرا لأن الموسم الفلاحي القادم (فيما يخص الحبوب) لا ينطق إلاّ في الخريف. في المدى القصير جدّا، علينا فقط الحفاظ على قدرة جيّدة للتوريد دون القضاء على التوازنات المالية لديوان الحبوب وصندوق التعويض، ممّا قدّ يؤدّي إلى القضاء عليهما ومزيد تحرير السوق في ميدان الحبوب. المهامّ العاجلة المطروحة كثيرة: الحفاظ على قدرات الديوان في توريد الحبوب، الترفيع في المساحات المخصصة لزراعة الحبوب عبر الترفيع في الأسعار المرجعية، تمكين الفلاحين من الأراضي الدولية التي عاث فيها المستثمرون فسادا وتمويل استثماراتهم الأولية ليتمكّنوا من الانطلاق في النشاط واقتناء المدخلات اللازمة إلخ…

قد نُسأل: من أين لنا الأموال لتحقيق كل هذا؟ إن الجوهر في جميع المسائل المطروحة، بداية من نظرية الامتيازات المقارنة وصولا إلى التوازنات المالية لديوان الحبوب، هو مسألة “الكلفة”. فالحجة الأساسية لنظرية الامتيازات المقارنة هي تخصص كل دولة في المنتوج الذي تكون “كلفة” إنتاجها له أقل من كلفة إنتاجه في البلدان الأخرى. كذلك ذهبنا نحو القمح اللين عوض القمح الصلب رغم مخلفات ذلك على صحة الناس لأن كلفة إنتاج القمح اللين و\أو توريده أقل من كلفة إنتاج القمح الصلب. تتجه اليوم الدولة التونسية نحو إلغاء التعويض نظرا لـ “كلفة الدعم”. لكن ما ينساه هؤلاء أو يتغاضون عنه، هو أنه لا شيء يُفقَد بل كلّ شيء يتحوّل. “الكلفة” التي نربحها حين نورّد سلعا بخسة الثمن من الخارج عوض إنتاجها محليّا هي كلفة ندفع ثمنها عملة صعبة. الكلفة التي نربحها حين نفضّل القمح اللين على القمح الصلب هي كلفة ندفع ثمنها أمراضا مزمنة تتحملها منظومة الصحة العمومية. الكلفة التي نربحها حين سنلغي “الدعم” هي كلفة سيدفع المجتمع ثمنها جوعا وهشاشة وتفكّكا ومزيدا من الأمراض…

ما تقوله لنا دراسة السياسة النقدية هو أن الحديث عن “كلفة” هو أمر وجب تنسيبه وتفكيكه عند الحديث عن مصاريف بالعملة المحلية. يجب أن نتجاوز التمثل الجامد للمالية العمومية والذي يشبهها بميزانية عائلة ذات مداخيل قارة ومصاريف معيّنة لا يجب أن تتجاوز تلك المداخيل11. فالدولة لا يمكن أن تكتفي بتحصيل الضرائب والإيفاء بالتزاماتها المالية، لأنّ الدولة يجب أن تكون جسما متحرّكا يتطوّر بتطوّر المجتمع وحاجيات المجتمع. لذا وجب عليها التوسّع وعليه يجب أن تجهّز الأرضية المالية اللازمة لنموّها، وهذه الأرضية المالية لا يمكن أن تتطوّر إلا عبر الاقتراض – إمّا من المنظومة البنكية في حالتنا اليوم أو من البنك المركزي في ظلّ حكومات أكثر جرأة. وبنموّ الدولة تنمو مداخيلها وتطوّر قدرتها على خلاص الديون السابقة بالعملة المحلية. في كل الحالات، فإن تدخل البنك المركزي لتوفير السيولة اللازمة هو أمر أساسي لتحقيق ذلك. في كلمة، لا يمكن للدولة أن تتوسّع دون توسّع للمساحة النقديّة، وتوسّع الدولة يمكّنها من تغطية ما اقترضته سابقا: هذه هي حركة الدول في جميع أنحاء العالم قبل هجوم النظام الفكري لتوافق واشنطن.

من ناحية أخرى، لا حلّ في ظلّ تمثل العملة الوطنية كجسم جامد ذي قيمة تبادلية محددة مع العملات الأجنبية تحددها سوق الصرف: فأيّ معنى إذن للعملة الوطنية التي تستعمل داخل الحدود الوطنية إن اكتفت علاقتها بالعملات الخارجية بعلاقة تبادلية جامدة؟ هذا التصنيم للعملة وقيمة العملة يجعل القائمين على شؤون الدولة يرون طنّا من القمح الذي نشتريه في الأسواق العالمية بـ 200 دولار هو مساوٍ ولا يختلف في شيء عن طنّ قمح في السوق الداخلية بقيمة 600 دينار. لا يرون ما تخفي هذه المعادلة من مجهود تبذله الدولة في تحصيل تلك العملة الصعبة. لا يرون ما تسبّبه هذه النظرة من تبعيّة. و لا يرون مدى تأثير هذه النظرة على حياة الفلاحـ.ة التونسيـ.ة الذ.تي يتم استبدالهـ.ا بالسوق العالمية وما يسببه هذا الاستبدال من هشاشة وتفكيك للمجتمع. 

كذلك من مخلّفات هذا التصنيم للعملة وقيمة العملة وسعر الصرف هو أن يفرض علينا العجز والشلل أمام تذبذب الأسعار في الأسواق العالمية: في وضعية من استقرار جميع المؤشرات الداخلية، فإنّه يجب علينا أن نتأقلم مع أيّ زيادة أو نقصان في الأسعار العالمية لبضاعة ما، حتى الأساسية منها. إن كان سعر طن من القمح في السوق العالمية 200 دولارا، فإنّه يجب أن يكون 600 دينارا في السوق المحلية. وإن صار 400 دولارا في الأسواق العالمية دون أن يحدث أيّ شيء داخل حدودنا ولم تتغيّر لا حكومة ولا سياسة حكومة ولمّ تتحرّك البنى الاقتصادية الداخلية قيد أنملة، فإنّ سعر طن القمح يجب أن يكون 1200 دينارا في السوق الداخلية. ما الذي يجبرنا داخليا على تعديل سعر القمح انسجاما مع الأسواق العالمية؟ إنّه اعتبار العملة وقيمتها صنما لا يتزحزح. حتى وإن علمنا أنّنا إذا ذهبنا إلى الأسواق العالمية بـ 1200 دينارا، فلا أحد سيمكّننا من ذرّة قمح! إنّهم يريدونه أخضرا دولارا!! الكلفة الوحيدة لطنّ من القمح هي التي سندفعها من مخزون العملة الصعبة، لا غير!!

 هذان التمثلان في صلب السياسة المالية لحكومات ما بعد توافق واشنطن والتي تمّ التخلي عنها لتوضع بين أيادي البنك المركزي “المستقل”: مستقل عن سياسات الدولة ولكنه غير مستقل عن إملاءات مؤسسات التمويل الدولية وهي في جوهرها إملاءات تهم الجانب النقدي12: التقشف والانكماش المالي وسعر الصرف المنخفض الذي يمكّن من ظهور “حقيقة الأسعار”.

السيادة النقدية: بداية الحل

نفهم إذًا أن الحلول التمويلية المباشرة لديوان الحبوب ستتطلّب جميعها الخروج عن توافق واشنطن القائم على سياسات التقشف وتقليص الطلب واستقلالية البنوك المركزية: أي الدخول في مواجهة مع المؤسسات المانحة. إلى أيّ مدى حاكماتنا وحكّامنا مستعدّون لهاته المواجهة؟ لا ندري ذلك، ولذا سنضع أنفسنا في سياق “بين-بين” من المواجهة دون قطيعة مع منظومة التمويل والمنظومة البنكية القائمة في حديثنا عن الحلول الممكنة لديوان الحبوب وصندوق التعويض كي يستعيدا قدرتهما على التدخل بطريقة ناجعة في إطار سياسة غذائية سيادية. هي إذن حلول متاحة لأيّة حكومة لها الحدّ الأدنى من الإرادة السياسية لمواجهة الإملاءات إمّا عبر القطيعة أو على الأقل عبر خلق موازين قوى مواتية مع الإمبريالية تمكن من الحدّ الأدنى من حرية التصرّف في السياسة النقدية الوطنية.

أوّلا، ما يمكن فعله لمعالجة مديونية ديوان الحبوب هو أن يقوم البنك المركزي بشراء سندات دين الديوان ثم تجميدها13. شراء سندات الدين ليس بدعة، فذلك مثلا ما قام به البنك المركزي الأوروبي سنة 2015 لدفع الاقتصاد في المنطقة الأوروبية وهي عملية تسمّى بالتيسير الكمّي (Quantitative Easing). سيقولون أنّ هذه الإجراءات من شأنها الترفيع في الكتلة النقدية التي تدور داخل الاقتصاد ممّا سيزيد في نسب التضخم. سنقول أنّها لن تؤثر هذا بتاتا على الكتلة النقدية، فكلّها “تقنيات كتابة” (Jeux d’écriture) : شراء سندات الدين يعني عمليا أن ما يوجد اليوم من ديون على عاتق ديوان الحبوب تجاه البنوك سيتحوّل إلى ديون تجاه البنك المركزي. لن يتمّ ضخّ أي ملّيم في الاقتصاد، لكن في نفس الوقت سيتمّ التخفيف على جميع المتدخلين: سيخفّ الضغط المالي على ديوان الحبوب من ناحية ليتمّ التركيز فقط على المهام الأساسية للديوان دون هاجس الأعباء المالية المتأتية من المديونية. سيخف الضغط المالي على المنظومة البنكية وخاصة البنك الفلاحي. ونظرا لمؤشرات البنك الفلاحي التي يقال أنّها متدهورة، فإنه سيستعمل تلك المبالغ لتحسين مؤشراته، لا في إسنادها مباشرة في شكل قروض للاقتصاد. وحتى إن اراد ذلك، فإنه بإمكان البنك المركزي القيام بعملية “تعقيم” (stérilisation monétaire): يقترح البنك المركزي على البنك الفلاحي أن يحول تلك الأموال نحو شراء سندات يصدرها البنك المركزي بأسعار فائدة كافية ليضمن الحد الأدنى من الربحية.

ثانيا، في علاقة بارتفاع الأسعار العالمية، ما يمكن فعله بالنسبة للبنك المركزي هو تعويض ديوان الحبوب على أسعار الشراءات الخارجية. بالضبط مثلما يعوّض صندوق التعويض لديوان الحبوب الفارق بين سعر الشراء وسعر التسويق. فلنتساءل سؤالا بسيطا: ما الفرق في السوق الداخلية بأن يكون سعر طن القمح 200 دولارا أو 400 دولارا؟ نحن من الداخل نرى فقط ما نتعامل به بالدينار خصوصا أن هناك متعاملا يقوم بتعديل تلك الأسعار وتنعيمها (lissage) وهو صندوق التعويض. الأثر الوحيد من ارتفاع الأسعار الخارجية لا يكون إلا على مخزون العملة الصعبة، وهذا المخزون لا يؤثر مباشرة على الكتلة النقدية الداخلية14. لماذا نترك تقلّبات السوق الخارجية تؤثر سلبا على اقتصادنا الداخلي؟ لمَ نترك ألعاب المضاربة في أسعار الحبوب في سوق ما في لندن أو نيويورك تؤثر على ماليتنا العمومية ونفقاتنا الأساسية علاوة على ما تثيره من اضطراب على مخزون عملتنا الصعبة؟ على البنك المركزي إذن أن يلعب دور صندوق التعويض مع ديوان الحبوب في معاملاته مع الخارج، خصوصا أن استقلالية البنك المركزي كانت السبب الرئيسي في تدهور سعر صرف الدينار في الفترة الممتدة من 2016 إلى 2018 15. نتوقّع من هنا بكاء وعويل الخبراء: ستكون هذه نهاية سعر الصرف وستفقد عملتنا كل قيمة واقتصادنا كل مصداقية وأسعارنا كلّ حقيقة!! ربّتوا على أكتافهم وطمئنوهم: نحن هنا لا نتحدّث إلاّ عن الأساسيات: لن يتمّ المساس بأسعار سيّاراتكم و “ترتّيناتكم”.

يمكن أن نُسأل هنا: من أين يأتي البنك المركزي بالأموال؟ الإجابة بسيطة: لا خوف على البنك المركزي من الإفلاس، فهو من يخلق العملة! إذ من مهامه العادية أن يقوم بعملية إعادة التمويل للمنظومة البنكية (refinancement) في السوق الما-بين-بنكية: حين يحتاج أحد البنوك إلى التمويل فهو يتجه إمّا نحو البنوك الأخرى وغالبا حين لا تتوفر بين البنوك السيولة اللازمة لذلك، فإنه يتجه نحو البنك المركزي ليقرضه. عملية الإقراض هذه بين البنك المركزي وبين أحد البنوك الموجودة على الساحة تسمّى إعادة تمويل. إعادة التمويل هذه لا تستحق وجودا مسبقا لتلك الأموال في خزينة البنك المركزي، فالبنك المركزي يخلقها حسب الحاجة، والحاجة هنا هي حاجة الاقتصاد عبر القروض التي تُسندها له البنوك الموجودة. نُنهي حجاجنا برقمين إثنين: يبلغ مستوى إعادة التمويل16 بتاريخ كتابة هذه الأسطر (6 أفريل 2022) مستوى 11395 مليون دينار. زمن يوسف الشاهد نهاية 2018 وبداية 2019، كان مجمل إعادة التمويل قد تجاوز 16000 مليون دينار…

ما قيل هنا عن السياسة النقدية وما يمكن أن يقوم به البنك المركزي هو غيض من فيض الممكنات، وهو فقط يقتصر على الحلول الوقتية المباشرة. لكن هذه الحلول الوقتية المباشرة كافية لنفهم أهمية السيادة النقدية في كل سياسة سيادية للدولة. إن أردنا أن نضع كلّ ما قلناه هنا في إطار ما، فهو نظرتنا للعملة وللكلفة17:

– العملة ليست صنما جامدا، بل العملة هي كائن اجتماعي يتمّ خلقه حسب الحاجة. العملة اليوم وفي ظل منظومة استقلالية البنوك المركزية هي مادّة تتحكّم فيها البنوك التجارية وتتحكّم في كميّتها عبر القروض التي تسديها للاقتصاد: من قروض للمؤسسات العمومية والخاصة وصولا إلى القروض الاستهلاكية وقروض السكن. العملة في يد دولة استعادت سيادتها النقدية هي كائن حيّ يتمّ خلقه حسب حاجات المجتمع من صحّة وعيش لائق وخصوصا من أجل سيادته الغذائية.

– أمّا عن معنى “الكلفة”، فنحن نرى أن لا معنى لها إن كانت بالعملة الوطنية وموجها للصالح العام. لا يجب أن نتساءل عن كلفة الغذاء، بل يجب أن نتساءل عن ضرورته. وإن كان هنالك معنى للكلفة، فلن يكون ذلك صحيحا إلاّ حين نتحدّث عنها بالعملة الصعبة: هي الكلفة الوحيدة للمجموعة الوطنية من أجل تحقيق غذائها اليوم. واستعمال هاته العملة الصعبة هو اليوم حكر على أصحاب رخص التوريد والذين يُغرقون الأسواق المحلية ببضائع أساسية جدّا مثل السيارات و “التروتّينات” الكهربائية وأنواع الشكلاطة و “الشيبس” العالمية. بينما نغفل عن إدراك أنّ تلك العملة الأجنبية هي نتاج لعرق عاملات النسيج وعرق الفلاحات والفلاحين في مجالات القوارص والزياتين والتمور وعرق كلّ من هاجر.ت بسبب سياسات التقشف وتحويل أنظمتنا التربوية إلى توابع لسوق الشغل العالمية18.

السؤال الذي يُطرح أمامنا اليوم في علاقة بالأزمة الراهنة هو إذن ليس سؤالا حول كلفة الحبوب، بل هو سؤال حول الخيارات الجماعية للعيش المشترك: هل نريد السيادة الغذائية أم نريد مظاهر الحياة الاستهلاكية؟ والسؤال الذي يُطرح أمام ارتهان غذائنا للأسواق العالمية بصفة دائمة هو ليس سؤال زيادة في الإنتاج لتحصيل العملة الصعبة لنلعب مع الجميع في قاعة ألعاب الامتيازات المقارنة بل هو سؤال الاستعداد لمواجهة الإمبريالية للخروج من لعبة نحن فيها الخاسرون لا محالة. لا خيار لنا سوى السيادة الغذائية. ولا خيار لنا من أجل تحقيقها سوى الخروج من منطق الإملاءات والتقشف والإصلاح الهيكلي عبر استرجاع سيادتنا النقدية.

“قمحي لا ينقسم”، ملف من إعداد: محمد سليم بن يوسف، هيثم ص. ڤاسمي، وليد بسباس.
مراجعة: إيمان اللواتي
.


1. أنظر.ي
Analyse des politiques de la sécurité alimentaire en Tunisie, Khaldi R., Naïli A. in La sécurité alimentaire en méditerranée

2. انظر.ي التقرير أعلاه.

3. أنظر.ي موقع ديوان الحبوب.

4. وقد كانت خوصصة هذه الحلقات سببا أساسيا في إتلاف كمية هامة من محاصيل سنة 2019. أنظر.ي:
"هل تصبح وفرة إنتاج الحبوب لعنة؟"، ندى الطريقي، موقع بر الأمان، جويلية 2019.

5. أنظر.ي "من أين يأتي قمحنا و إلى أين يذهب؟"، موقع حبر، ديسمبر 2018.

6. أنظر.ي "إرتفاع أسعار القمح اللين سيكون له تأثير مباشر على صندوق الدعم"، موقع شمس fm، فيفري 2022.

7. أنظر.ي التقرير حول المنشآت العمومية المرفق لقانون المالية لسنة 2022.

8. أنظر.ي
 Les risques des crédits de l'office des céréales pèsent lourdement sur le secteur bancaire, Tunisie Numérique, Janvier 2022

9. أنظر.ي نفس التقرير المذكور أعلاه حول المنشآت العمومية.

10. أنظر.ي "من التعويض إلى الدعم، سيرورة القضاء على السياسة الغذائية الوطنية"، موقع إنحياز، مارس 2022.

11. أنظر.ي "لا تدار الدولة كما تدار شؤون المنزل: دليل الحاكم للحرص على الأرواح دون أن يخشى التضخم"، موقع إنحياز، سبتمبر 2020.

12. في هذا السياق، يجب دائما التذكير بأن المثال النظري لصندوق النقد الدولي هو مثال نقدي (monétaire) بحت ترافقه بعض الإجراءات لتحرير الأسواق.

13. الإبقاء على دفع الفوائد من عدمه مسألة جزئية تهم عبدة صنم العملة.

14. مثلما حصل في ذلك حين منح صندوق النقد الدولي حقوق سحب استثنائية لجميع البلدان في السنة الماضية (DTS). حقوق السحب هذه تعزز مخزون العملة الصعبة لدولة ما دون أن يتمّ تحويلها إلى العملة المحلية، أي في النهائية دون أي تأثير على الكتلة النقدية المحلية.

15. وهو ما أدّى مثلا إلى صعود حادّ في المديونية العمومية من 52% من الناتج الداخلي الخام إلى ما يقارب 74%، و هو كذلك ما تسبب في ارتفاع الأعباء المالية على الصيدلية المركزية مما أدّى إلى فقدان الأدوية… تعداد مخلفات ذلك القرار يتطلّب الكثير من البحث 

16. أرقام البنك المركزي

17. أنظر.ي في هذا الصدد كتاب:
  La Monnaie: Un enjeu Politique. Manuel Critique d'économie monétaire; Les économistes atterrés, Editions Points (2018)

18. من أجل تفسير مستفيض لمظاهر تطويع البنى المحلية للإستجابة لمتطلبات الأسواق العالمية، أنظر.ي:
"عبودية الديون أو الشكل الآخر للإستخراجية: أّة قيمة لأيّ عمل، وأيّة زيادة في أيّ إنتاج؟"، موقع إنحياز، جانفي 2022.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !