جذور سياسات التبعية: في تاريخية امتصاص الفائض الزراعي

تُعتبر المسألة الزراعية1 واحدة من أهم المباحث السياسية حول القطاع الفلاحي منذ ظهور علاقات الإنتاج الرأسمالية. يتمثل تعريفها البسيط في دراسة إمكانية وكيفية مرور النشاط الفلاحي من أنماط الإنتاج ما قبل الرأسمالية إلى نمط الإنتاج الرأسمالي وتدخل هذا النمط الأخير في تحديد مقومات هذا القطاع (كاوتسكي، 1900).

تحققت المسألة الزراعية في مجتمعات دول المركز الرأسمالي عبر آليات داخلية من خلال تحول نمط الإنتاج من الإقطاع إلى الرأسمالية الذي تعزز بآليات خارجية تمثلت في الحملات الاستعمارية في أمريكا اللاتينية وآسيا وإفريقيا التي وفرت الفائض الزراعي الذي تم تحويله إلى القطاع الصناعي أساسا في المراكز (باتنايك، 2011).

لم يتحوّل نمط الإنتاج الفلاحي في البلاد التونسية بالاعتماد على آليات داخلية، بل فرض الاستعمار الفرنسي، بتواطؤ محلي، مرور الفلاحة التونسية إلى نمط إنتاج تراكمي استنزافي متواصل على امتداد ما يناهز القرنين من الزمن. إذ تواصل الاعتماد على هذا النمط بعد الاستقلال بدافع الانبهار بـ “التقدم” الغربي في مرحلة أولى وبسبب تدخل السوق العالمية في السياسات الداخلية في مرحلة تالية.

من أجل فهم الحالة التي نحن عليها، وجب النبش في التاريخ من أجل تبيان الخيارات السياسية التي تبنتها السلط المتعاقبة على البلاد التونسية انطلاقا من المنعرج التاريخي الأخير الذي أصبحت الرأسمالية بمقتضاه نظاما عالميا.

في البدء كانت الامبريالية

في تجاوز للمفهوم اللينيني الذي يعتبر الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية، يرى الاقتصادي سمير أمين أن من شروط التراكم الأوّلي لرأس المال التوسع مما يحقق التطور اللامتكافئ بين الدول والمناطق. تلتقي هذه النظرية مع مقولة الجغرافي دايفيد هارفي “التراكم عبر الاستحواذ”2 فتطرحان معا فكرة انقسام العالم إلى مراكز لرأس المال وأطرافا تابعة توفر الموارد الطبيعية الأولية والأراضي الخصبة واليد العاملة الرخيصة.

بالطبع، أثرت هذه الحالة العالمية العامة على القطاع الفلاحي بشكل مباشر إذ خلقت نزعة3 شمولية بين المراكز والأطراف. وحسب أبحاث راي بوش وجوليانو مارتينيلو (2017)، تنقسم أنظمة الغذاء العالمية تحت النظام الرأسمالي المعولم إلى ثلاث مراحل أساسية:

–  من 1870 إلى 1914: عندما أحكمت دول المركز الرأسمالي قبضتها الاستعمارية في أطراف العالم وبالأخص القارتين الإفريقية والآسيوية، وفرت أوروبا حاجياتها الفلاحية التي لا يمكن لجغرافيتها و ديمغرافيتها إنتاجها عبر فرض نمط الإنتاج الرأسمالي على القطاع الفلاحي من خلال تكثيف الزراعة الأحادية4 المتخصصة في محاصيل معينة مثل الحبوب والأرز والقطن وغيرها. فأصبحت الأرض مصنعا والفلاّحة عمّالا.

–  من 1940 إلى 1973: بعد نهاية الحروب العالمية وإثر استقلال المستعمرات القديمة، تعاملت قيادات العديد من دول الجنوب مع المسألة الزراعية بالاعتماد على الإنتاج الفلاحي الصناعي المكثف وفائض العمل من أجل “اللحاق” بالدول المتقدمة. تميزت هذه المرحلة بالتحولات الزراعية المتعثرة (تجربة التعاضد في تونس مثالا) فانتهجت بذلك هذه الدول طريق الفلاحة الموجهة إلى التصدير من أجل العملة الصعبة التي تقتني بها حاجياتها من آلات ومدخلات كيميائية وبذور محسّنة حتى سقطت في فخ التداين الدائم.

–  منذ 1973: إثر “صدمة النفط الأولى” سنة 1973 وما لحق بلدان الأطراف من ارتدادات سياسات بلدان المركز (حمائية اقتصادية، ترفيع في نسب الفائدة، ارتفاع أسعار المنتجات الصناعية التي تصدّرها بلدان المركز مقابل انخفاض أسعار المواد الأولية التي تصدّرها بلدان الأطراف…) وخاصّة تفاقم المديونية، انطلق العمل ببرامج الإصلاح الهيكلي المفروضة من قبل المؤسسات المالية العالمية والتي أدخلت الدول التابعة في دوامة سياسات التقشف وخوصصة المنشآت العمومية ورفع الدعم عن القطاع الفلاحي مقابل ديون تسدد العجز التجاري والمالي لهذه الدول.

لم تكن تونس في معزل عن هذا النسق العالمي حيث مرت بجميع هذه المراحل قُبيْل الاستعمار الفرنسي وأثناءه وبعده.

فمنذ بداية القرن الثامن عشر بدأت هيمنة القوى الإمبريالية الأوروبية على بلدان جنوب المتوسّط وكانت نقطة التحول سنة 1816 عبر بعثة إكسماوث5 وهجوم بحريته على مدينة الجزائر ليجبرها على وقف القرصنة التي كانت تمثل جزءا هاما من مداخيل إيالات شمال إفريقيا، ليمرّ بعد ذلك لتهديد تونس وطرابلس ليفرض عليها نفس الاتفاقيات. كما أن نظام التنازلات العثماني فرض شيئا فشيئا تسلّط القناصلة الأوروبيين في هاته الإيالات ومنها سيطرتهم على التجارة مع بلدان أوروبا بمعاليم ضريبية زهيدة. يذكر قانياج في هذا السياق أن نظام التنازلات “فرض على البايات ألاّ تتجاوز الضرائب الجمركية نسبة 3% على البضائع المستوردة (…) لذا التجأت الدولة إلى فرض مراسيم جمركية تتراوح بين 8% و25% على السلع الموجهة للتصدير”.  كذلك، مكّنت الثورة الصناعية والحروب النابوليونية بلدان أوروبا من التطور العسكري السريع الذي مكّنها من التفوق نهائيا على إيالات شمال إفريقيا انطلاقا من سنة 1816…كلّ هاته الظروف مهّدت لدخول السلع الأوروبية المصنّعة إثر الثورة الصناعية والتي افتكّت المجال إلى درجة مزاحمة الصناعات التونسية من النسيج وحتى الشاشية. وانطلاقا من تلك الفترة، تحوّلت صبغة الفلاحة في تونس من تغذية المتساكنين إلى ضرورة تعديل الميزان التجاري.

يذكر خليفة الشاطر أن نسبة مداخيل القرصنة قد انخفضت من معدل 14% من جملة مداخيل الإيالة في بداية القرن إلى 1% سنة 1818 وتمّ تعويض هاته المداخيل بترفيع الضرائب على الأرياف من ناحية ومن ناحية أخرى بمداخيل التجارة البحرية (من 8% سنة 1815 إلى 17% سنة 1818). وكانت مداخيل التجارة البحرية تتشكل أساسا من المداخيل الجمركية المتأتية من التصدير ومن هنا بدأ ارتهان المداخيل التونسية لتصدير المنتجات الفلاحية. وقد كان زيت الزيتون ومشتقاته، أبرز مكوّن لها، حيث مثل زيت الزيتون معدّل 62% من قيمة الصادرات التونسية بين 1832 و1835. يذكر خليفة الشاطر أنه منذ تلك الفترة كانت “حاجيات مصانع الصابون في مارسيليا هي التي تحدّد الكميات اللازمة للتصدير، لا المحاصيل”. ما نلاحظه أن في تلك الفترة لا أثر يذكر لتصدير التمور أو القوارص والتي تمثل اليوم جزءا هاما لا فقط من صادراتنا، بل أيضا من النشاط الفلاحي ككل. نلاحظ إذن أنّ تطويع البنى الاقتصادية الداخلية للدولة التونسية للاستجابة إلى متطلبات اقتصادات ما سيسمّى من بعد بـ “بلدان الشمال” قد بدأ منذ النصف الأول من القرن الثامن عشر.

ثم كان الاستعمار

لم يكن الاستعمار الفرنسي للبلاد التونسية حدثا نقطيا في التاريخ ولم تكن أسبابه حمائية أو حضارية كما تدّعي القراءات المثالية. انطلق التحرش الغاليّ بإفريقية وفقا لأطماع رأسمالية بالأساس فقد استفحلت ظاهرة “الاستعمار الخاص المضاربي” على أراضي البلاد التونسية الخصبة من قبل الشركات الفرنسية. لعل أبرز مثال شراء الشركة المرسيلية للقروض هنشير النفيضة من لدن خير الدين باشا والذي يمسح 100 ألف هكتار. استغلت هذه الشركة الهنشير لقيمته السوقية من خلال المضاربة والبيع بأسعار أكثر ارتفاعا دون عناء الاستغلال الإنتاجي (اللومي، 2013). بلغ استحواذ 4 شركات استعمارية فقط على 156 ألف هكتار أي 20% من جملة الأراضي الاستعمارية (ستهم، 2004).

لم يلبث هذا الاستعمار الخاص المضاربي كثيرا حتى أذن الاستعمار “الرسمي” بقيامه فسارعت السلطات الفرنسية في شراء الرصيد العقاري من هذه الشركات وبيعه إلى المعمرين المستقرين بالبلاد التونسية بأسعار بخسة كي تشجعهم على الاستغلال المباشر لها. بلغت مساحة هذه الأراضي نسبة 52% من جملة أراضي الاستعمار.

ما أن دارت عجلة الاستغلال الاستعماري للأراضي الفلاحية التونسية حتى ترسخت لبنات الفلاحة الرأسمالية التي تميزت بقوة الاستثمار المالي عبر تحفيزات الحكومة الاستعمارية والمؤسسات المالية والبنكية ومن خلال تعويض علاقة الإنتاج المخامسية بالعمل المأجور واعتماد طرق زراعية عصرية تكثيفية موجهة إلى التصدير من أجل تلبية حاجيات السوق الفرنسية والأوروبية.

يفسر الجغرافي التونسي “حافظ ستهم” ديناميكية الإنتاج الفلاحي في البلاد التونسية من خلال كتابه ” الأرض والفلاح والسوق والمجتمع في المغرب العربي” حيث انطلق مسار استغلال الأرض واستنزافها عبر الشروع في تعزيز الزراعات التجارية التي تعتمد طلب السوق كبوصلة لاختياراتها. ففي سنة 1932، تعززت زراعات الكروم في البلاد التونسية من أجل خمرها حتى أصبحت مساحتها تناهز 50 ألف هكتار يتم تصدير 90% منها إلى السوق الفرنسية وذلك إثر الآفة التي أصابت الكروم الفرنسية بسبب حشرة الفليلوكسيرا. كما دفعت أزمة 1929 بإكثار إنتاج القوارص الذي تبين أنه زراعة تجارية مربحة تعوّض أزمة الإفراط في إنتاج الحبوب في العالم مما تسبب فيما يطلق عليه بـ “الثورة القوارصية” التي تعززت بنقص الإنتاج الإسباني بسبب الحرب الأهلية وتعطيل الصادرات الإيطالية كعقوبة لغزوها لأثيوبيا.

من جهة أخرى وعلى مستوى إنتاج الحبوب، لم يعرف الفلاّحة التونسيين سوى زراعة القمح الصلب والشعير إلى أن أدخلت السلطات الاستعمارية الفرنسية القمح اللين في الإنتاج الزراعي المتعلق بالحبوب والذي كان موجها بالأساس للتصدير إلى بلاد “الباڤات”.

هكذا ورثت حكومة الاستقلال اقتصادا زراعيا مرتبطا ارتباطا وثيقا بالاقتصاد الفرنسي خاصة والأوروبي عامة يتميز بطغيان المزروعات التجارية التصديرية. ففي سنة 1957 مثلت الصادرات الزراعية للبلاد التونسية نسبة 60% من إجمالي الصادرات والتي تتكون أساسا من خمور وحبوب وزيت زيتون وباكورات خضراوات وقوارص.

علاوة على ذلك، فقد تم استنزاف الأراضي عبر استعمال تقنيات التعاقب الثنائي بين زراعة القمح سنة وحرث الأرض البور في السنة الموالية مما قضى على الغطاء العشبي وعلى طبقة الدبال وعلى الغبار الذي يتركه الغنم حين يرعى. تسبب هذا الإنهاك للأرض في الانجراف المائي والريحي للتراب الخصب مما انجر عنه تراجع مردودية الإنتاج.

كذلك كان للاستحواذ العقاري والمكننة المكثفة وقع اجتماعي كبير من خلال الرفع من نسب البطالة لدى أبناء الريف مما دفعهم إلى النزوح إلى المدن.

أما على مستوى الثقافة الفلاحية فإن الاعتماد على تقنية الزراعات الأحادية قد أصبح سائدا بين طبقات الفلّاحين الكبار والمتوسطين. ولملاحظ أن يقف على مخاطر هذه التقنية والتي تمتد من إنهاك الأرض والقضاء على خصوبتها إلى سهولة انتشار الأمراض بين المزروعات وصولا إلى القضاء على التنوع الحيوي في المنطقة التي تم اجتياحها بالزيتون أو البرتقال أو ورود الزينة.

قطعت هذه التقنية الرأسمالية المستوحاة من القطاع الصناعي والتيلرة6 مع إرث إنساني عالمي ذي خصوصيات محلية يعتمد على تنويع الأنشطة الفلاحية النباتية منها والحيوانية حسب الموارد الطبيعية والمعطيات المناخية الخاصة بكل وسط جغرافي.

ودقّت ساعة الاستقلال

ورثت الدولة التونسية الفتية غداة الاستقلال رصيدا عقاريا ضخما يصل إلى حدود 800 ألف هكتار من الأراضي الخصبة والمنتجة. لكن مسار استرجاع هذه الأراضي لم يرتق إلى مرتبة الاستقلال السياسي الفعلي إذ تكمن التبعية في التفاصيل.

مرت عملية استرجاع أراضي المعمّرين الفرنسيين بمراحل أربعة ما بين إعلان الاستقلال الداخلي وصولا إلى الجلاء الزراعي (عبد الله بن سعد، 2015).

في مرحلة أولى، تم التوقيع على بروتوكول تونسي-فرنسي ينص على بيع المعمّرين الفرنسيين أراضيهم للبلاد التونسية أو للخواص بصفة طوعية. بمقتضى هذا البروتوكول الموقع يوم 8 ماي 1957 تم بيع 127 ألف هكتار للدولة و40 ألف هكتار للخواص.

في مرحلة ثانية، أقرت الدولة التونسية إثر الاستقلال التام قانون 7 ماي 1959 والذي يقتضي افتكاك أراضي المعمّرين المهملة أو ناقصة الاستغلال والتي بلغت مساحتها وقتها 75 ألف هكتار فقط حيث أن السلطات الفرنسية قد استماتت في الدفاع عن مواطنيها المعمّرين وذلك بفرض دفع تعويضات لهم من قبل الدولة التونسية.

هكذا وفي مرحلة ثالثة، أجبرت السلطات الفرنسية الدولة التونسية على إمضاء بروتوكوليْن بتاريخيْ 13 أكتوبر 1960 و2 مارس 1963 تحت مسمّى “نقل ملكية الأراضي الفلاحية للفرنسيين إلى الدولة التونسية”. يشترط هذان البروتوكولان شراء الدولة التونسية لمساحة 150 ألف هكتار من قبل المعمّرين كتعويض لهم من أجل تسهيل عودتهم إلى فرنسا وإعادة اندماجهم في اقتصادها. هذا الأدهى. أما الأمرّ، فإن مبالغ الشراء التعويضية قد تم اقتراضها من الدولة الفرنسية7.

وفي مرحلة أخيرة، جاء القانون عدد 5 المؤرخ في 12 ماي 1964 والمتعلق بـ “الجلاء الزراعي” كي يسترد 300 ألف هكتار من أراضي المعمّرين وذلك بمقابل تعويضي أيضا.

هذه الحصيلة العقارية التي ورثتها دولة الاستقلال من الاستعمار الفرنسي الذي دام أكثر من 70 سنة. أما على مستوى الملكيات الزراعية، فقد كان التفاوت كبيرا جدا حيث أن كبار الفلّاحين ممّن يملكون أكثر من 50 هكتارا كانوا يستحوذون على 40% من الأراضي الفلاحية بينما أنهم لا يمثلون سوى 4% من الفلاحين التونسيين. في المقابل، مثل صغار الفلاّحين الذين يملكون أقل من 10 هكتارات نسبة 63% من جملة الفلّاحين بينما وقعت أيديهم على 16% فقط من جمليّ الأراضي.

في مثل هذه الظروف المادية، قررت الدولة التونسية اعتماد “برنامج التنمية العشري 1962-1971” أو ما يُعرف بـ “تجربة التعاضد”.

سنشد عضدكم بالدولة كي نجعل لها سلطانا

كان استقلال البلاد التونسية من الاستعمار الفرنسي المباشر لحظة إعلان عن انتصار الشق البورڤيبي في الصراع داخل حزب الدستور. لم يخف هذا الشق انبهاره بالفكر الغربي وقد تمت ترجمة ذلك عبر الفلسفة العامة التي تم اعتمادها في بناء دولة الاستقلال. مثّل النموذج الرأسمالي الليبرالي مسارا اتخذته الحكومة التونسية غداة الاستقلال دون تحليل لواقع المجتمع الذي خرج من استعمار دام 70 سنة قطع طريق تطورّه الداخلي وحل تناقضاته.

فشلت هذه التجربة الليبرالية وقد عبّر الرئيس الحبيب بورقيبة عن امتعاضه من البرجوازية التونسية الناشئة من عدم انخراطها في بناء الاقتصاد الوطني ثم أعلن عن ميله إلى الطريق الاشتراكية حين سوّى خلافه التاريخي مع النقابي أحمد بن صالح ومكّنه من وزارات التخطيط والمالية والاقتصاد سنة 1961 وذلك قصد تطبيق تجربة “التعاضد”.

تعود فكرة التعاضد إلى سنة 1956 لما كانت مدرجة في مخرجات البرنامج الاقتصادي والاجتماعي للاتحاد العام التونسي للشغل والتي لاقت معارضة شديدة من الحبيب بورقيبة وحزب الدستور حينها. تم إدراج التعاضد في برنامج الحكومة “الآفاق العشرية للتنمية 1962-1971” كما تم إقرار قانون عدد 19 المؤرخ في 25 ماي 1963 المتعلق بإحداث الوحدات التعاضدية.

لا يمكن غض النظر هنا عن الظروف المسترابة التي دفعت بالحزب الحاكم إلى تبني “الاشتراكية الدستورية” إذ يعتبر الهادي التيمومي هذا التحول بمثابة صفقة بين الحبيب بورقيبة وأحمد بن صالح مقابل وقوف الاتحاد العام التونسي للشغل ضد الشق اليوسفي المعارض داخل الحزب. من جهة أخرى، فقد فقدت الدولة الفتية سرديتها الكبرى التي تتمثل في أمجاد الاستقلال وإعلان الجمهورية فكانت في حاجة ماسة إلى تبني أفكار عظمى تقدمها للشعب كي يلتف حولها وبالتالي حول الدولة. ولأن الاقتصاد عماد أساسي من أعمدة الحكم، فقد انتهجت الدولة من خلاله طريق التحكم والسيطرة.

انطلقت تجربة التعاضد معكوسة حين بدأت بتجميع أراضي صغار الفلاحين مع التغافل شبه الكلي عن أراضي كبار المُلّاك (بن سعد، 2015. عايب وبوش، 2019). تمت بذلك هيكلة 1592 وحدة تعاضدية للإنتاج الفلاحي على مساحة تناهز 3.8 مليون هكتار تراوحت بين مساهمات الأراضي الفلاحية الدولية (بنسبة 379 ألف هكتار) ومساهمات صغار الفلّاحين ومتوسطيهم وتضم 295414 متعاضدا (العبيدي، 2021).

كان تركيز التعاضديات غير محتكم إلى دراسات كافية ومسبقة للواقع الفلاحي التونسي إذ أنه لم يتم مثلا اتخاذ قوانين لتحديد الملكية الزراعية (ستهم، 2004) كما أن أحمد بن صالح نفسه قد عبّر عن حنقه من التعميم العنيف والإسقاط السلطوي الذي اعتمدته الدولة لغايات دعائية وسياسية (النابلي، 2020).

أما مصادر تمويل التجربة التعاضدية فقد تأتت من الضرائب التي تكبدتها الشرائح الوسطى والدنيا بنسبة 72% من مجموع الضرائب الجملية في حين ساهمت الشرائح الميسورة في 27% فقط. من جهة أخرى، موّل الضغط على الطلب الداخلي هذه التجربة وذلك من خلال سياسات فرض الأسعار المتدنية للمواد الفلاحية الأساسية عند مستوى الإنتاج أي بمعنى آخر تحويل الفائض من القطاع الفلاحي إلى قطاعات أخرى مثل الصناعة وغيرها والتي تترجم مقاصد الفلسفة التنموية للدولة. أما المصدر الثالث لتمويل استثمارات الآفاق العشرية للتنمية فقد كان القروض الأجنبية التي وفدت أساسا من الولايات المتحدة الأمريكية والبنك الدولي للإنشاء والتعمير والتي بلغت نسبة 40% من مجموع الاستثمارات (التيمومي، 2006).

لقد مثلت ممارسة هذه التجربة عملية تحويل وجهة جاهرة باهرة لمفاهيم التعاضد والتعاون والاشتراك حيث أنها أهملت دور المنتجين الفعليين وبالأخص صغار الفلّاحين منهم في صنع القرار أو حتى المشاركة فيه إذ أن تسيير الوحدات التعاضدية للانتاج الفلاحي كان تحت الإشراف المباشر لأعوان الدولة في وزارة الفلاحة ووزارة الداخلية عبر الولّاة والمعتمدين الذين تمعشوا من المرابيح والامتيازات التي كانت توفرها هذه الوحدات. خلق هذا التسيير السلطوي نواة أولى من الإداريين المستكرشين مشابهة لتلك التي يطلق عليها علي القادري تسمية “برجوازية الدولة” في الأنظمة الاشتراكية العربية.

ولعل أبلغ توصيف للتجربة التعاضدية في تونس كان قد أتى به سمير أمين حين تحدث عنها في كتاب “المغرب الحديث” سنة 1970 قائلا:

“كان بن صالح كبش فداء. لأنه لم يكن هناك أي تناقض بين خلق برجوازية الدولة في المجال الحضري والبرجوازية الريفية للمُلّاك الكبار (استعمل عبارة “كولاك” بالفرنسية). بل بالعكس، هذا هو التحالف الطبقي الأكثر شيوعا في العالم الثالث: ذلك التعاضد المنادى به من قبل الايديولوجيين بمثابة “خطوة نحو الاشتراكية” قد ضار في الوضعية التونسية شكلا من الانتقال… إلى الرأسمالية.”

سبعينات سمان تنذر بسنوات عجاف

طورد أحمد بن صالح وحوسب وحوكم من قبل النظام إثر “وقفة التأمل” التي قام بها الحبيب بورقيبة لتقييم تجربة التعاضد والتخلي عنها. وتقلد الهادي نويرة رئاسة الحكومة التونسية فحانت له الفرصة التاريخية التي انتظرها منذ انخراطه في الحزب الحر الدستوري الجديد كي يمارس أفكاره الليبرالية.

كانت الخطوات الأولى من تفكيك التجربة التعاضدية متمثلة في بيع الأراضي الفلاحية أو كرائها إلى خواص من المستثمرين الفلاحيين الحضر المتغيبين. نتج عن هذا التمشي نزوح 380 ألف شخص خلال السنوات بين 1969 و1975 حيث أنه ولأول مرة في تاريخ تونس، لم تعد الأرض هي الشكل الأساسي للثروة والمصدر الرئيسي للدخل (التيمومي، 2006).

كما بدأت الدولة تدريجيا في انتهاج سياسات رفع يدها عن القطاع الفلاحي وتحرير السوق الداخلية والاندماج التدريجي في الأسواق الرأسمالية العالمية. تجلّى ذلك من خلال تقوية الفلاحة التصديرية المعتمدة على مذهب الامتيازات المقارنة فتم تشجيع إنتاج التمور والقوارص واللوز وزيت الزيتون وباكورات الخضر الموجّهة للسوق العالمية وتهميش إنتاج الحبوب والحليب واللحوم والمواد العلفية. كان مبرر هذا الاختيار مرتكزا على الأسواق العالمية الفائضة بإنتاج الحبوب الأمريكية والأوروبية مما انجر عنها تدني الأسعار العالمية فالتعويل إذن على الاستيراد عوض الاستثمار (ستهم، 2004).

لكن “المتغطي بالأسواق العالمية عريان”، فبعد أزمة البترول سنة 1973، ارتفعت الأسعار العالمية للحبوب بنسبة 300% بين أعوام 1972 و1982. هنا، وبعد تبديل الاستثمار بالاستيراد، اشتاقت الدولة التونسية لكليْهما فكان منتصف السبعينات مؤذنا ببداية ترسيخ ظاهرة العجز الغذائي في تونس.

أصبح استيراد الشعير منتظما منذ سنة 1973 مثلما هو الحال للقمح الصلب منذ سنة 1975 فبلغ توريد الحبوب سنة 1975 كمية تناهز 3.2 مليون طن (التيمومي، 2006). كما أدّى تهميش إنتاج المحاصيل العلفية واستيراد مكونات العلف المركز إلى مرور كميات التوريد من 2280 طن سنة 1970 إلى 134484 طن سنة 1978 (ستهم، 2004). من الجدير التأكيد هنا في علاقة بالمنتجات العلفية المستوردة (صوجا وذرة وغيرها) إذ أن علف الدجاج يتكون من 100% من مواد مستوردة بينما يحتوي علف الماشية على 40% من هذه المواد (عايب وبوش، 2019).

بينما تحتل الحبوب المرتبة الأولى من قيمة الواردات الغذائية (قفزت من 22%سنة 1974 إلى 52% سنة 1982)، حازت الزيوت النباتية (وخاصة زيت الصوجا) على المقعد الثاني إذ بلغت 120 ألف طن سنة 1988. ثم جاء الحليب المسحوق ثالثا بنسبة 11.5% من جملة الواردات الغذائية سنة 1988 أيضا (ستهم، 2004).

لقد رافقت هذه السياسات تغيرا إيديولوجيا عميقا تمت ترجمته عبر المصطلحات المستعملة من قبل السلطة الحاكمة. عند النبش في المخططات الحكومية للتنمية، يظهر التحوّل من اعتماد مفهوم “الاكتفاء الذاتي” إلى التصريح بمفهوم “الأمن الغذائي”.

فنجد في المخطط الخامس (1977-1981) حديثا عن “تحقيق الاكتفاء عبر الموازنة التجارية في البضائع الغذائية”. ثم يأتي المخطط السادس (1982-1987) مشددا على “أهمية قطاع الحبوب في الأمن الغذائي والموازنة التجارية للبلاد” (عايب وبوش، 2019).

هذا التحول كان تمهيدا لتبني برنامج الإصلاحات الهيكلية سنة 1986 والذي صادقت عليه الدولة التونسية مع صندوق النقد الدولي والذي كانت من أهدافه حث الفاعلين الاقتصاديين على “عقلنة” استعمال الموارد وزيادة توجيه الإنتاج إلى التصدير. داخل هذا البرنامج، تم تخصيص برنامج إصلاحات هيكلية تهم القطاع الفلاحي والذي اتخذته الجهات الرسمية من أجل أهداف محددة منها: زيادة الإنتاج الفلاحي والتخفيض في العجز المالي والرفع من نسب التشغيل الفلاحي وتخفيض التفاوت في الدخل بين القطاعات. أما الإطار العام الذي تم فيه تطبيق هذا البرنامج فقد تمثل في انسحاب الدولة والتحرير التدريجي للسوق مع تسريع نسق الانفتاح على الخارج. هكذا انطلق مسار إعادة تأهيل المبادرة الخاصة في النشاط الفلاحي والاعتماد على السوق في التعديل الاقتصادي. أما إجرائيا فقد تم تخفيض الدعم للقطاع الفلاحي وإعادة هيكلة القروض الفلاحية وخوصصة شبكات تجميع وتوزيع وبيع المنتجات الغذائية. (الجويلي، 2008).

من جهة أخرى، شاركت الدولة التونسية بين سنة 1987 و1990 في مفاوضات الاتفاقية العامة للتعريفة الجمركية والتجارة (GATT). كانت هذه الدورة الأخيرة من المحادثات قبل أن تنبثق منظمة التجارة العالمية من هذه الاتفاقية والتي أدرجت لأول مرة (طيلة ثمانية جولات منذ 1947) القطاع الزراعي داخل قواعد التحرر التجاري على الصعيد العالمي وذلك من خلال رفع الدعم عن الإنتاج الفلاحي وفك القيود الجمركية عن السلع الغذائية (موقع المنظمة العالمية للتجارة). وفي جويلية 1990، تحصلت تونس على عضوية كاملة الحقوق في الاتفاقية وبذلك التزمت بـ77 بندا جمركيا يتعلق بالمواد الفلاحية (موقع وزارة التجارة وتنمية الصادرات).

وفي سنة 1995، وقعت البلاد التونسية اتفاقية شراكة مع الإتحاد الأوروبي والتي ينص بندها رقم 16 من المحور الثاني على التحرير المتدرج في تبادل المنتجات الفلاحية ومنتجات الصيد البحري وذلك عبر إعفائها من المعاليم الديوانية على مدى 12 سنة أي في الفترة بين 1995 و2008.

لقد أخذ هذا المسار القميء المخضب بالتبعية والاستكانة مأخذه في تونس من القطاع الفلاحي بشكل عام ومن المسألة الغذائية على وجه خاص. ولعل بإمكان الأرقام المدرجة بالجدول التالي تلخيص تأثير خمس عقود من السياسات الليبرالية على القطاع الفلاحي من حيث مساهمته في الناتج الداخلي الخام وفي التشغيل:

  1975 1980 1990 2000 2010 2019
التشغيل 37% 33% 21% 19% 17% 15%
الناتج الداخلي الخام 18% 14% 15% 10% 6% 9%

أرقام البنك الدولي

ختاما

تسقط جميع فرضيات العجز الحتمي عن إنتاج الحبوب في البلاد التونسية أمام واقع مخضب بالتبعية ناتج عن ترسبات تاريخية لسياسات لم تلق بالا للمسألة الزراعية ولم تنتج فلسفتها السيادية التي من أجلها يتم إنتاج الغذاء بالأساس. رغم الاختلال المناخي العالمي فإن العديد من الأنواع من الحبوب تمتلك مرونة عالية في التأقلم مع المناخ المحلي. كما لا يمكن التعلّل بانحسار الموارد الطبيعية وعلى رأسها الماء إذ أن كميات كبيرة منه يتم توجيهها إلى غسل الفسفاط أو إنتاج البرتقال. مثلما لا يستقيم الادّعاء بنقص اليد العاملة أمام جحافل البطّالين النازحين.

إنّ تسيّد مفهوم “الأمن الغذائي” ليس إلا تمثّلا لسلطوية إيديولوجية تفرض تصورا ميتافيزيقيا لإنتاج الغذاء من خلال تصنيم قوانين السوق وفرضها على الإنسان. في المقابل، لم يهدأ بال المقاومة البشرية لهذه التصورات إذ تبلور بديل “السيادة الغذائية” كردة فعل على الطغيان الذي رسّخته الاتفاقيات التجارية العالمية.

في المقال القادم، نتناول بالبحث والتحليل مواطن خلل إيديولوجيا “الأمن الغذائي” قبل أن نطرح “السيادة الغذائية” بديلا فكريا وسياسيا واقتصاديا.

“قمحي لا ينقسم”، ملف من إعداد: محمد سليم بن يوسف، هيثم ص. ڤاسمي، وليد بسباس.
مراجعة: إيمان اللواتي
.


المراجع

حافظ ستهم، الأرض والفلاح والسوق والمجتمع في المغرب العربي (تونس والجزائر والمغرب الأقصى)، مركز النشر الجامعي، 2004.

الهادي التيمومي، تونس 1956-1987، دار محمد علي الحامي، الطبعة الثانية 2008.

عبد الله بن سعد، كيف السبيل لإعادة هيكلة الأراضي الدولية خدمة لجماهير الكادحين في الريف التونسي؟ الحوار المتمدن، 12/11/2015. الرابط: https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=492315

وسيم العبيدي، الأراضي الفلاحية الدولية: قاطرة تنمية معطوبة لصالح ديناميات النهب والاستلاب، المفكرة القانونية تونس، العدد 24 ديسمبر 2021.

ياسين النابلي، أحمد بن صالح وتجربة التعاضد: السّير الأعرج وراء مزمار بورقيبة، المفكرة القانونية تونس، 17/11/2202، الرابط: https://legalagenda.com/أحمدبنصالحوتجربةالتعاضدالسّيرالأ/

Karl Kautsky, La question agraire : Étude sur les tendances de l’agriculture moderne, Paris 1900.

Utsa Patnaik and Sam Moyo with Issa G. Shivji, The Agrarian Question in the Neoliberal Era: Primitive Accumulation and the Peasantry, Pambazuka Press, 2011.

Khalifa Chater, Dépendance et mutations précoloniales : la Régence de Tunis de 1815 à 1857, Tunis, Faculté des sciences humaines et sociales de Tunis, 1984.

Mohamed Elloumi, « Les terres domaniales en Tunisie », Études rurales [En ligne], 192 | 2013, mis en ligne le 24 février 2016, consulté le 30 Mars 2022. URL : http://journals.openedition.org/etudesrurales/9888;DOI:https://doi.org/10.4000/etudesrurales.9888.

Habib Ayeb and Ray Bush, Food Insecurity and Revolution in the Middle East and North Africa, Anthem Press, 2019.

Ray Bush and Giuliano Martiniello, Food riots and protest: Agrarian modernizations and structural crises, World Development, 2017, vol. 91, issue C, 193-207.

Samir Amin, Le Maghreb Moderne, Les Editions de Minuit, 1970.

Mustapha Jouili. AJUSTEMENT STRUCTUREL, MONDIALISATION ET AGRICULTURE FAMILIALE EN TUNISIE. Économie et finance quantitative [q-fin]. Université Montpellier 1, 2008.


1. The Agrarian Question

2. Accumulation by dispossession

3. Trend

4. Monoculture

5. Exmouth

6. Taylorism

7. La cession à la Tunisie des terres des agriculteurs français - protocoles franco-tunisiens des 13 octobre 1960 et 2 mars 1963, Thierry Hubert, Annuaire français de droit international, 1963.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !

One Comment on “جذور سياسات التبعية: في تاريخية امتصاص الفائض الزراعي”

Comments are closed.