الغذاء والسوق: في ضرورة تحرير القمح من الاقتصاد الحر

يوم 24 فيفري 2022، اجتاحت روسيا أوكرانيا، وكان ذلك قادح حرب تدور رحاها إلى يومنا هذا. ولم تمر أيام بعد الحرب حتى فهم الجميع أن نتائجها لن تقتصر على إعادة رسم حدود السيادة وموازين القوى داخل القارة الأوروبية والنظام الجغراسياسي العالمي فحسب. فقد كان من الكافي أن تمر سويعات على هذا الصراع المسلح حتى يطرح جزء هام من البشرية تساؤلات جدية حول ما يكاد يختزل إلى حد بعيد شروط إعادة إنتاجه البيولوجي، أي شروط تواصل وجوده الفعلي.

لنتفق إذن على تشخيص الوضع بمعطيات موضوعية لا يختلف فيها اثنان.

المعطى الأول: القمح هام جداً في الغذاء، كل الغذاء.

المعطى الثاني: روسيا وأوكرانيا تصدّران ما يناهز ثلث القمح العالمي، تشتريه دول في غالبها تابعة غذائياً لا تنتج قمحها.

المعطى الثالث: مع اندلاع الحرب، حدثت اضطرابات كبيرة على حركة تصدير القمح من هذين البلدين، وهو ما يطرح اشكاليات جدية من حيث توفير الكميات الكافية من القمح بالنسبة للدول المستوردة.

المعطى الرابع: ارتفعت أسعار القمح لأسباب كثيرة، تعود إلى اضطرابات توفيره من جهة وإلى ارتفاع أسعار المحروقات من جهة أخرى، وهو ما يرفع من كلفة نقله وبالتالي من سعر كلفته الجملية، دون أن ننسى المضاربة على أسعار القمح في الأسواق العالمية: فالحرب لم تجد بعدُ الوقت لتُؤَثر مباشرة على الكميات المعروضة في السوق، وأغلب التداعيات على أسعار اليوم هي “تكهنات” الأسواق على الكميات المعروضة في السوق غدا.

المعطى الخامس: تونس، مصر، المغرب، الجزائر، الأردن وغيرها من دول الجنوب التابعة غذائياً، هي في الآن ذاته بلدان ذاقت نعيم الإصلاحات الهيكلية وهي دائماً ما تخضع لضغوطات مؤسسات رأس المال العالمي للتحكم في النفقات العمومية، وخاصةً نفقات “الدعم”1.

لنغير الآن سلم الملاحظة ولننظر إلى ما يجري في تونس. منذ عدة اسابيع، بل وأشهر، يذهب المواطن إلى أحد الفضاءات التجارية، فيجد أن مواد المقرونة والدقيق (الفارينة) وغيرها من مشتقات القمح اللين مفقودةً، وكأن شيئاً ما في الدورة الاقتصادية أخذ يلعب الدور الوظيفي لتقنين الاستهلاك. أمام المخابز، تمتد الطوابير لعشرات الأمتار، وهو يشكل امتحانا آخر لصبر المواطنين الضجرين في هذه الطوابير ولمستعملي الطرقات من سائقي السيارات وغيرهم، مسجلين بذهول معطلاً آخر لحركة المرور. يلتفت أحد هؤلاء الساقة لمذياعه ويشغله ليستمع إلى رأي الخبراء في الموضوع، فيقولون له أن “الأمن الغذائي” مهدد، وأن آلاف الهكتارات من الأراضي الفلاحية الدولية لا مالك لها ولا متصرف فيها، بل وربما أن الحل يكمن في رقمنة الإدارة حتى تعرف الدولة ما لها وما عليها من عقارات لتستغلها. بعودته إلى المنزل، يفتح مواطننا صفحة الرئاسة على فايسبوك، فيجد رئيس الجمهورية مسكوناً بالحرب على المحتكرين وعلى مسالك تجويع الشعب التي تتحكم فيها مجموعات من منتهزي الأزمات ومن مستكرشي الحروب. ما الحل إذن؟ مرسوم رئاسي جديد يشدد العقوبات على هؤلاء. حسناً، لكن هذا يفترض أن أساس المشكل هو في “مسالك التجويع” هذه.

نحن، كاتبو هذه الأسطر، لنا شكوك جدية في تشخيصات رئاسة الجمهورية وخبراء الإعلام المهيمن على حد السواء. فكلها لا تطرح اسئلةً نراها جوهريةً إذا ما أردنا أخذ مسألة الغذاء، باعتباره مقوماً مركزياً لا فقط لإعادة الإنتاج المادي البشري الذي قد يصب فقط في خانة إعادة إنتاج قوة العمل لفائدة رأس المال، بل للحياة البشرية الكريمة والصحة الجيدة. سنحاول أن نعود، من خلال هذا النص، وعموما من خلال كامل الملف، إلى المقدمات النظرية التي تجعل من غذائنا تابعاً لتقلبات السوق وحالات السلم والحرب، وهي تصنف في خانة المسلمات الليبرالية اللامُسَاءلة. سنعود إلى السياسات الاقتصادية والنقدية التي تندرج في نظرة متماسكة للعالم، تجعل من السوق غايةً لتقسيم العمل ولا تعير اهتماما لحاجات الناس. سنرى كيف كانت تونس، كغيرها من دول الجنوب، مختبراً لنظرية الامتيازات المقارنة التي أنتجت ما أنتجت من كوارث على صحة الناس وعلى قوتهم، متقصين في ذلك استتباعات هذه النظرية على تقنيات الإنتاج الفلاحي المكرسة لتقسيم مبالغ فيه وغير ناجع للعمل.

القمح، لماذا هو هام؟ الانعكاسات الغذائية والثقافية لانقطاع القمح 

تمسح الأراضي الفلاحية في البلاد التونسية ما يقارب 65% من التراب الجملي أي 10.5 مليون هكتار (المرصد الوطني الفلاحي، 2007). تنقسم هذه المساحة بالنصف بين الأراضي القابلة للزراعة وتلك التي تحمل صفة المراعي أو الغابات. يساهم القطاع الفلاحي في 10.4% من الناتج الداخلي الخام لسنة 2020 ويمثل قدرة تشغيلية تبلغ نسبة 15% سنة  2017 (البنك الدولي) التي تتوجه بالأساس لسكان الريف الذين يمثلون 33% من إجمالي عدد سكان البلاد التونسية.

تُخَصِصُ مطمورة روما حوالي 1,200 مليون هكتار2 لزراعة الحبوب (المعهد التونسي للإحصاء) يجمع منها ديوان الحبوب 800 ألف طن في حين بلغت نسبة استهلاك التونسيين للحبوب (قمح صلب وقمح لين وشعير) ما يقارب 3.5 مليون طن سنة 2021 (ديوان الحبوب) يقدم هذا الجرد السطحي لبعض الأرقام المتعلقة بالقطاع الفلاحي التونسي عموما ومجال زراعة الحبوب خصوصا صورة عن الخلل العبثي الذي يجعل من بلاد الكسكسي والمحمّصة والملثوث وخبز الطابونة والبسيسة تستورد 98% من شعيرها و97% من دقيقها!

فمادة كالقمح أساسية إذن في قوت الناس، إذا ما ندر وجودها جاعت البطون لا محالة. كيف ذلك؟ لنتأمل في هذا الأمر. من البديهي أن الناس لن تأكل الخبز، ولا المعجنات بأنواعها إذا ندرت كميات القمح في المسالك المنبعيّة3 للمخابز ومصانع المقرونة والمرطبات وغيرها. حسنٌ إذن، ليكن ذلك. فهي مواد غنية بالكربوهيدرات والسكر المكرر، وهي فعلاً عامل خطر لأمراض السكري والقلب والشرايين. ليكن إذن! سنوصي الشعب بحمية الكيتو4، رغم كلفتها الباهظة، ناهيك عن أن العادات الغذائية لا تتغير هكذا بجرة قلم. لكن لنفترض جدلاً أن الحكومة الشيوعية التي سيعيّنها قيس سعيد قدمت برنامجاً لـ “دعم” المواد التي نستهلكها في حمية الكيتو، كالبيض والزبدة والخضار وزيت الزيتون والمكسرات من لوز وفول السوداني (كاكاوية) وغيرها. الصداع لم ينته بعد، فالدجاج الذي يبيض هو نفسه “دارة من الأدفاق”، يأكل علفةً من القمح ويشرب الماء، فينتج لنا بيضاً نأكله وننتفع ببروتيناته وفيتاميناته العديدة. دون قمح، لا وجود لدجاج، لا وجود للبيض. أما عن الزبدة، وكافة مشتقات الحليب والحليب نفسه، فهي خاضعة لنفس المنطق. ماذا سنأكل عندئذ؟ البعض من الخضار والبقول والتمور. يمكننا أيضا شرب زيت الزيتون إذا ما احتجنا للمزيد من السعرات الحرارية، خاصةً وأن هذه المواد باهظة الثمن ستكون مدعمةً بالسياسة الجديدة التي ستضعها الحكومة الشيوعية، بطبيعة الحال. لكن لتعلم أن مادة القمح هذه هي منبع جل المواد التي تستهلكها والتي تستمد منها الطاقة اليوم، وذلك دون أن نحكم على مدى مطابقة ما تأكله للحمية الغذائية السليمة التي لا تعجّل بنوبتك القلبية الأولى في سن الأربعين. ستجد حكومتنا الشيوعية إذن نفسها في مأزق، فهي لم تكن تحكم طيلة السنوات التي قررت فيها دولتنا إهداء سيادتها الغذائية للسوق العالمي. ولم يتعود الناس على هذه الحمية الغذائية الجديدة، ناهيك عن أن هذا التغيير المباغت قد يؤثر في التوازنات الهرمونية والفيزيولوجية للبشر ويجعلهم قليلي الصبر.

لكن لا يمكن اختزال القمح والحبوب بصفة عامة في طابعها المادي البحت. فالقمح هو معجزة العصر الحجري الحديث5 ولعنته في الآن ذاته، به ظهرت نزعة الإنسان نحو التحكم في كلأه بعد قرون من الترحال، وبه كذلك ظهرت أكثر الأشكال تجذراً للتسلط والتراتبية الاجتماعية ومراكمة الثروة ومراقبة المجموعات البشرية من قبل مراكز الحكم، كما أشار إلى ذلك عالم الأنثروبولوجيا جيمس سكوت6. لكنه في الآن نفسه شرط إمكان مركزي لطقوس اجتماعية وهويات ثقافية تشكل مراكز الثقل الرمزية للوجود الإنساني باعتباره لا يمكن أن يكون إلا وجوداً جماعياً. فالقمح بالذات لا مناص منه في المبادلات الرمزية البشرية من هبات وهبات مقابلة، وهو الحاضر البديهي في مختلف مناسبات التجمع العائلية والقبلية وبين الأصدقاء والأتراب والندماء. على سبيل المثال فحسب، لكم أن تتخيلوا الفراغ الذي سيتركه كسكسي اللحم والزبيب في الأعراس وكسكسي الفرق رحمةً لمن وافته أو وافتها المنية. لكم أن تتخيّلوا الفراغ الذي سيتركه “صحن الحلو” الذي يتبادله الجيران والأقارب أيّام الأعياد وحتى الأيّام العادية والذي يكون فرصة لتكريس ممارسات طقوس الهبات والهبات المقابلة اللازمة لتواصل الحياة الاجتماعية. ناهيك عن الأكلات الشعبية وغير الشعبية التي تشكل مختلف الثقافات المطبخية، والتي عادةً ما تكون مدخلاً هاماً من مداخل التعرف على الخصوصيات الثقافية داخل القطر الواحد، وبصفة عامة على الآخر وطرق عيشه.

فصل الاقتصادي عن الاجتماعي: خطاب التعمية النيوليبرالي

 لنتفحص الآن المسلمات التي أُخضِع لها تدبير غذائنا، والتي سنرى تطبيقاتها فيما بعد. وحتى نكون أكثر دقة، يمكن اعتبار المسلمات التي سوف نتناولها الآن بمثابة الدوغما التي لا تكاد تُساءَل، محتلةً أعلى درجات البداهة. وهذه المسلمات تتلخص في مبدأ الفصل بين الاقتصادي والاجتماعي، تلك المقولة المركزية في الخطاب النيوليبرالي السائد اليوم. وهو فعلاً مبدأ بالمعنى الحرفي للكلمة، إذ منه تبدأ التصورات السائدة حول السياسات الاقتصادية ككل باعتبارها انقياداً حتمياً لإملاءات السوق العالمية التي تخدم مصالح تموين دول المركز الرأسمالي وتوفر له مخارج لفائض إنتاجه. ونجد تجليات فكرة الفصل بين الاقتصادي والاجتماعي في الخطابات الداعية لـ “مراكمة الثروة قبل توزيعها” وتغليب المردودية الاقتصادية أولاً قبل التفكير في السياسة الاجتماعية ثانياً، بل وتلك التي تُخضِع مسألة التنمية المتكافئة لاقتصاد السوق، وذلك بحصرها في ضرورة جعل المجالات “اللامغرية اقتصاديا” تتمتع بجاذبية تدر عليها الاستثمارات الأجنبية، لتمتلئ ازدهاراً وتنميةً بعد أن مُلِئت تفقيراً وتجويعاً. فالاقتصاد هنا مجال مستقل بذاته، لا غاية من وجوده إلا هو. فإذا أراد أحدهم أن يسأل عباقرة التنجيم الاقتصادي: ماذا يعني الناتج الداخلي الخام؟ عما نبحث حين نقر بضرورة تسريع نسق النمو الاقتصادي؟ ما هي الغاية من التوازنات المالية، من كبح جماح العجز العمومي، من تقليص العجز التجاري، من زيادة احتياطي العملة الصعبة؟ سيجيبون بصوت واحد: “لا بديل عن ذلك للخروج من الأزمة المالية ولتدوير عجلة الاقتصاد”. حسنٌ إذن، إنهم باخعون أنفسهم لـ “الاقتصاد”. وإذا دخل أحدهم في جدال سقراطي مع هؤلاء، سيسألهم بعد ذلك: “حسناً، لكن اعذروا جهلي: كيف تعرّفون الاقتصاد؟” ربما يستدعي أحدهم تعريفات ليونيل روبينس أو دافيد ريكاردو أو قد يفاجؤون محاورهم بالدفاع عن أحد التصورات الكبرى للاقتصاد باعتباره دارةً من الأدفاق المالية والسلعية أو سوقاً تنظم يدها الخفية توازن العرض والطلب. لكنهم سيراعون حتماً تفوقهم الفكري وسيتواضعون قائلين: “الاقتصاد هو علم مراكمة الثروة”. “جميل، أنا فعلاً بصدد التعلم منكم. زيدوني علماً! كيف نقيس هذه الثروة؟” سيجيبون بشيء من التهكم “بالمال طبعاً، أي بالعملة”. “ولماذا نراكم العملة؟”… سيسخطون من هذه الأسئلة المزعجة قائلين “العملة يا هذا هي أهم شيء في عالمنا المعولم، فبها نشتري وبها نبيع، ولنا فيها مآرب أخرى”. شكراً، نأسف على الإزعاج.

مراكمة العملة إذاً هي غاية “الاقتصاد”. لنزد على ذلك اسماً: مراكمة العملة هي غاية الاقتصاد الرأسمالي. لكن الحال أن العملة لا يمكن أن تكون غايةً في حد ذاتها. فتاريخ المجتمعات البشرية كلها، دون استثناء، يرينا كيف أبدعت دائما هذه المجتمعات عملات تساعدها على تبادل الخيرات فيما بينها… وذلك قبل ظهور “الاقتصاد” باعتباره مجالاً قائماً بذاته. وهو ما تشير له عديد أعمال الأنثروبولوجيا وغيرها من العلوم الإنسانية. يشير كارل بولاني على سبيل المثال إلى التأخر النسبي لبروز ظاهرة “الاقتصاد” هذه باعتبارها ظاهرةً قائمةً بذاتها ولها نواميسها الخاصة، إذ كانت ممارسات بشرية كالمبادلات “التجارية” والإنتاج الفلاحي وغيرها مضمنةً7 في باقي المجالات الاجتماعية كالوشائج الأولية والتنظّم القبلي وبنى الحكم، إلخ8. بالتالي، فإن استقلال الاقتصاد بنفسه يُعَدُّ تحولاً كبيراً في التاريخ البشري، اكتمل في مجتمعات المركز الرأسمالي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، أي، يا للغرابة، تزامناً مع ظهور “علم الاقتصاد”. ويمكن مقاربة هذا التحول مع الثورة الرأسمالية في دول المركز الرأسمالي (الناتجة عن المراكمة الأولية الكولونيالية، حتى لا ننسى…)، ومع تطور علاقات الإنتاج الرأسمالية وما صاحب ذلك من “تصنيم للعملة”9، كما كتب ماركس. فالعملة لم تعد “مجرد” واسطة للمبادلات، بل صارت هي غاية نفسها. فعلى عكس ما يشاع أحياناً، تجد “الرأسمالية المموألة”10 قوانينها في علاقات الإنتاج الرأسمالية ذاتها. ورغم أن ظاهرة المضاربة المالية تحتل اليوم أكثر من أي وقت مضى مكانةً هامة في تاريخ النظام الرأسمالي، إلا أنها ليست إلا تجذيراً لتصنيم العملة أمام انهيار القوى السياسية والاجتماعية التي فرضت قيوداً على حرية رأس المال، إلى حد انهيار الإتحاد السوفياتي طيب الله ثراه.

أما الخطاب النيوليبرالي، فهو أداة لمواصلة تدمير البنى الجماعية القادرة على التصدي لمنطق السوق الخالصة. فهو، كما أشار إلى ذلك بيير بورديو في حديثه عن “جوهر النيوليبرالية”11، خطاب ليس كغيره من الخطابات الاقتصادية، إذ يضفي قوةً رمزيةً على موازين قوى في صالحه أصلاً. فهو خطاب يدعي العلمية في سبيل بناء برنامج سياسي موجه للفعل، للصراع الطبقي من وجهة نظر رأس المال ومثقفيه العضويين من منظري ايديولوجيا السوق الحر. ذلك السوق “الحر”، كما يدعون، لم يكن على مر التاريخ وإلى يوم الناس هذا إلا بناءً رأسمالياً واستعمارياً. أفلا يتدبرون أمر “التبادل الحر”، ذلك الذي فرض بقوة السلاح منذ القرن التاسع عشر من قبل القوى الاستعمارية البريطانية والفرنسية، حتى صار ذلك السوق محل تنافس عنيف بينها؟ أفلا ينظرون إلى حرب الأفيون التي كان قادحها الوحيد بحث بريطانيا عن مخارج لفائض انتاجها، والتي بينت لنا كيف تتورط الإمبراطورية التي لا تغيب فيها الشمس في تنظيم مبتذل لتهريب الأفيون داخل الصين؟ أما عن الغذاء الذي هو موضوع الحال، فقد كان محل سياسات أدت إلى تجويع شعوب بأكملها بحرمانها من نصيب كافٍ من البروتين، كما بين ذلك روني دومون في العديد من بحوثه، رابطاً النمو الذي يتمتع به دول الشمال بمجاعات دول الجنوب، خاصةً منها الإفريقية 12. أما عن خطاب التعمية الذي يصاحب هذه السياسات، فهو ذلك الذي يحمل في طياته تصوراً غريباً للإنسان ومغترباً عنه. فهذه الإيديولوجيا المغذاة بيوتوبيا المنافسة الخالصة والكاملة تعمل على بناء ما تدعي أنه طبيعي بقوة السلاح كما قلنا، وهو ما يجعل منها حاملةً لأنثروبولوجيا جديدة تجعل من “الطبيعة البشرية” ذلك المسخ الذي لا شيء يحركه إلا الربح المادي، أي عملية مراكمة العملة، تلك التي ذكرنا أعلاه ظهورها التاريخي المتأخر نسبياً. فإذا أخذنا هذه الخزعبلات على محمل الجد كما يفعل ذلك عباقرة التنجيم الاقتصادي الوطني دون وعي، سنخلص إلى أن الإنسان لم يوجد خارج البنى الرأسمالية. لا ينقصهم إلا أن يردفوا مقولة “ليس هنالك بديل”13 التاتشرية بـ “صدق الله العظيم”.

ولعل النتيجة المباشرة الأولى لهذا الخطاب في عالمنا هذا هي عدم إعارة أي اهتمام بـ “الاجتماعي”، بل وبإخضاعه لمنطق السوق. كيف يترجم هذا في تونس اليوم؟ يترجم بتلك الهجمة التي أخذت تدمر، منذ ثمانينات القرن المنصرم، اللبنات الهشة التي وضعتها دول الجنوب من أجل تنمية ممركزة على ذاتها وحمايتها من التنمية اللامتكافئة14 التي وضعها فيها التقسيم الدولي للعمل. بصفة أدق، يترجم هذا بإخضاع قطاع مثل الفلاحة إلى مقتضيات السوق العالمية، بدلاً عن جعله قطاعاً موجهاً لتغذية سليمة لأولئك الذين يعيشون في هذه الرقعة الجغرافية. فالاقتصاد لا يمكن أن يفصل عن “الاجتماعي”: الاقتصاد هو التدبير الجماعي للحاجيات الجماعية وتحديد السياسات التي تلبي هذه الحاجيات. للاقتصاد غاية، وهو لا يمكن أن يكون غاية نفسه.

فما هي الغاية التي نريدها للاقتصاد؟ هل هو ذلك الفن الذي نلبي به حاجيات الناس، بشكل يقترب فيه البشر من تحقيق جوهره الحقيقي، أم هو تلك المعادلات الرياضية المجردة التي لا ترى حدبتها، ألا وهي مراكمة رأس المال لطبقة رأس المال؟  أما من يخضع الاقتصاد للسوق، فلا بد من مجابهته بالنتائج العملية لتصوره: أنت ترى أن “اقتصاد السوق” هو “الأمر الواقع”؟ إذن أنت ترى أن لا بأس من المجاعة أحياناً، أنت ترى أن لا بأس ألا يجد الناس علاجاً، أنت ترى أن لا بأس إذا ما ازدادت الأمراض ومناسيب الفقر والهشاشة والخصاصة. أنت تؤمن “باقتصاد السوق”؟ تمتع إذاً بعواقب تبعيتك للقمح المستورد، إذ يكفي أن تندلع حرب على بعد آلاف الكيلومترات حتى ينتابك الصداع من المواد الغذائية التي قد تشتاق إليها قريباً.

لنخلص إذن إلى زبدة القول. لا بد من تصويب اتجاه سياساتنا الفلاحية إذا ما أردنا أن نأكل ما يمكننا من أن نتمتع بالحد الأدنى من التغذية السليمة، دون أن يكون ذلك منوطاً بافتراس القوى الامبريالية لثروات العالم، ولا بصراع العمالقة. هذا يمر حتماً بمساءلة جذرية لمسلمات الفصل بين السوق وحاجيات الناس، بين الاقتصادي والاجتماعي، بين مراكمة الثروة وتوزيعها.

ما هي الغاية من نظامنا الفلاحي اليوم؟ إنها السوق العالمية، تلك التي إذا تقصينا آثارها وجدناها في رفوف المراكز التجارية في نيويورك وباريس ودبي، معروضةً في كامل مشمشها أمام مستهلك مغترب ومذهول. فمستوى العيش الذي تحسد عليه هذه الدول هو نتاج لسياسات الافتراس التي تستنزف أراضي دول الجنوب، محولةً وجهة ثمرتها من بطون ذويها إلى أسواق البهرج الاستهلاكي لدول الشمال ومن تشبه بها. بلادنا ليست استثناءً لذلك، وسنرى في قادم المقالات كيف تبلورت فيها سياسات التبعية على مرّ التاريخ، وكيف تناغمت أنماط وتقنيات الإنتاج الفلاحي فيها مع السياسات النقدية والاقتصادية التي فُرضت شيئاً فشيئا.

“قمحي لا ينقسم”، ملف من إعداد: محمد سليم بن يوسف، هيثم ص. ڤاسمي، وليد بسباس.
مراجعة: إيمان اللواتي
.


المراجع

Karl Ponalyi, The great transformation. The political and economic origins of our time, Beacon Press, Boston, 1944.

René Dumont, La croissance… de la famine ! Une agriculture repensée, Points, Paris, 1981.

René Dumont et Marie-France Mottin, L’Afrique étranglée, Le Seuil, Paris, 1980

Samir Amin, Le développement inégal. Essai sur les formations sociales du capitalisme périphérique, Paris, Éd. du minuit, 1973.

Pierre Bourdieu, L’essence du néolibéralisme, Le Monde Diplomatique, Mars 1998. Html : https://www.monde-diplomatique.fr/1998/03/BOURDIEU/3609.

 James C. Scott, Against the grain : A deep history of the earliest states, Yale University Press, 2017.


1. أنظر.ي: <<من التعويض إلى الدعم: سيرورة القضاء على السياسة الغذائية الوطنية>>، موقع إنحياز، مارس 2022.

2. مقابل معدّل 1,500 مليون هكتار في الستينات.

3. En amont

4.  Keto diet

5. Néolithique

6. James C. Scott, Against the grain: A deep history of the earliest states, Yale University Press, 2017

7. Imbedded

8. Karl Ponalyi, The great transformation. The political and economic origins of our time, Beacon Press, Boston, 1944

9. Fétichisation

10. Financiarisé

11. Pierre Bourdieu, L’essence du néolibéralisme, Le Monde Diplomatique, Mars 1998

12. أنظر مثلاً:
L'Afrique étranglée, Le Seuil, Paris, 1980
La croissance… de la famine ! Une agriculture repensée, Points, Paris, 1981

13. « There is no alternative »

14. Samir Amin, Le développement inégal. Essai sur les formations sociales du capitalisme périphérique, Paris, Éd. du minuit, 1973

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !