رأي | “هون إسمه البلد مش سوليدير”: عن الإشتباك الشعبي في بيروت

سارة محمد الإبراهمي

سارة محمد الإبراهمي، ناشطة سياسية، قومية عربية.

تُعتبر شركة “سوليدار” من أهمّ مواضيع النّقاش الاجتماعيّ في فترة ما بعد الحرب في لبنان. سوليدار أو الشركة اللبنانية لتطوير وإعادة إعمار وسط بيروت، قائمة بذاتها الى الآن رغم وجوب إبطال المرسوم الممدّد لمدّة نشاط الشّركة الأساسيّة لعدم قانونيّته. تظلّ سوليدار اليوم رغم حياتها المنتهية، على ملك المدعو ناصر الشمّاع.

وعند البحث قليلا في تاريخ وتاريخيّة الشّركة، من استيلائها على أرزاق صغار التُجّار إلى النّقاش القانونيّ والمعماريّ ومحو معالم المدينة، وصولا إلى “دسترة” وجودها بالأساس وتقنينه دفاعا عن الليبرالية و دراسة إشكالية زيادة العبء الماليّ على الدولة بدل تخفيفه، نستنتج باختصار أنّ الخمسة والعشرين سنة الحالكة التي مرّت على بيروت وعلى كلّ من خسر محلّه ومورد رزقه، صنعها بالأساس رأس المال. ودعمتها الطبقة السياسيّة التي تتقاطع مصالحها واستثماراتها العقاريّة مع الربح الفرديّ. وهكذا أصبحت سوليدار خطّا أحمر ضمن عديد الخطوط الحمراء في لبنان.

بين محو الذاكرة و الهويّة و التفكير في ربح، تمّ من أجل تحقيقه القضاء على ملامح المدينة و تهجير البيروتيين من بيوتهم، انبثق من رحم الاستغلال و الهيمنة نشاط و ردّ فعل شعبيّ خارج كلّ أشكال الوصاية والاصطفاف، وتفاعل خارج الشكليات والإسقاطات.


بصدور عارية وحركات عفويّة، حيث يمدّ الأخطبوط الأكبر سوليدار يديه في ساحة رياض الصلح ببيروت، لجعلها رمزا للميسورين و البرجوازيين، ينتصب سوق “أبو رخوصة”، في تحدٍّ واضح للمافيات و عصابات الاقتصاد الريعي و باعة الوطن من النافذين و المتاجرين بإرث مدينة كاملة و ارث سكّانها. وهنا يكون “السوق الشعبي” تعبيرة عن الاشتباك الشعبيّ والتحدّي مع منظومة المافيات والكارتيلات والدولة التي تغذّي استمرارهم، كاستهداف غير مُعلَن لمن قوّضوا الاقتصاد الوطنيّ واستغلّوا مدّخرات الدولة بدون وجه حقّ من أجل المزيد من الاستثراء والرّبح الفاحش ودفعوا بالسيادة الوطنيّة للبنان في مستنقع صراع المحاور الغربية.

يعود أصل التسمية إلى تصريح رئيس جمعية تجار بيروت ودفاعه عمّا سمّاه حرفيّا “المقرات المؤسساتية ومراكز أضخم المصارف اللبنانية وأفخر المطاعم والفنادق والمحلات التجارية”. رفض أن يتحوّل وسط بيروت إلى “أبو رخوصة”، متحدّثا عن أصحاب المؤسسات الصغرى والمتوسطة، وكأنه يغمز إلى أنّ العاصمة ستبقى حكرًا على “الطبقة المخملية” ورجال الأعمال وأصحاب الأموال والبطون التي لا تشبع، ولا مكان لنا فيها. إنه “الداونتاون” حيث تتمركز المحالُ التجارية الفارهة وأهم المصارف والمؤسسات. من سيسمح أن يتحوّل هذا المكان الفخم إلى مكان لنا في كلّ الحالات؟
.
كردّة فعل عفوية و تعبيرة على أنّ ”الداونتاون” للمهمّشين أيضا ينتصب السوق الشعبي، في تحدِّ جليٍّ للإهانة والتقزيم، من أجل جعل بيروت تشبه الناس. فوسط عشرات محلات ومقرات الشركات العابرة للقارات والعلامات التجارية، التي لا تتلاءم أو تتناسب مع الوضع الاقتصاديّ الشعبيّ اللبنانيّ في 2021 ، يقاوم الناس… مقاومة حقيقية وجليّة لزحف “الثراء” وتحدّيًا لمن يعتقد أنّ بيروت “صلصال” يشكّله كما يشاء.

ينصُب البائعون خيمهم ويُسعِّرون البضائع بما يتلائم مع المقدرة الشرائيّة للمواطن، تباع في “المصطبات” المواد المنزليّة والملابس المستعمَلة والكُتب بأسعار رمزيّة (وأحيانا تُستَبدَل البضائع بلا مقابل ماليّ)، عِلمًا وأنّ الفئات المختلفة من اللبنانيين باتت اليوم أكثر حاجة من أيّ وقتٍ مضى إلى السوق بعد الأزمة الاجتماعيّة والاقتصاديّة، سواء للبيع أو الشراء. فالفكرة تمثّلت في تقديم المكان للناس مقابل بدلٍ رمزيّ أو حتى من دون أيّ مقابل من أجل حجز مساحة العرض.

وهكذا، عادت لوسط بيروت روحها، ودبّت الحياة في أماكنٍ سكنَتها مطوّلا الأشباح، وكتب مرتادو السوق بعفوية شعارات مثل ”هون اسمه البلد مش سوليدير”. وهذا في اعتقادي، الجمرة التي تكتوي بها الشركة وكابوسها، لِما للشعار من تحدٍ وإصرارٍ واستعدادٍ للتصعيد ولافتكاك الحقّ كاملا، واشتباكٍ مع البطون الممتلئة بفتات رأس المال ولكُلٍ خاضع ومرتهن.
قضية سوليدير لا تسقط بالتقادم، وسوق “أبو رخوصة” بعد أن جُيِّش ضدّه ومُنع بالقوّة العامّة، مازال باقيا ومازال درعا رمزيا لأبناء الوطن واقتصادا بديلا ومقاوما للاستعمار الداخلي وطوق النجاة المتبقّي.

طوفان رأس المال قادمٌ وسيأخذنا أيضا، فإمّا المقاومة بما أوتينا من وسائل أو لا مجال للحديث عن الخلاص و التحرّر، وإمّا الانحياز لأبناء الشعب العامل أو أمثال سوليدار الكثر، جاهزون للاجهاز علينا بوحشية.


التحرير: الأراء التي يعبّر عنها في مقالات الرأي تلزم أصحابها، ولا يتحمّل فريق تحرير الموقع أيّ مسؤولية عنها، بغضّ النظر عن موقفه منها.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !