رأي | حادثة مستشفى الڨصور: أزمة الصحّة العمومية تعكس أزمة الوطن !

طارق العيّاري
ماركسي- جنوبي

ذكّرت حادثة وضع سيَدة حاملة لمولدتها بدورة المياه بالمستشفى المحلّيّ بالقصور بولاية الكاف، دون تأطير طبّي أو شبه طبّي – بالأزمة الكبيرة التي يعيشها قطاع الصّحّة بتونس منذ سنوات طويلة. والتي ما فتئت تتفاقم بالتّوازي مع تردّي الأحوال المعيشيّة عموما وبنسب متفاوتة في كامل البلاد. وعند التّفكير في دلالات هذه الحادثة لتجنّب تكرارها فإنّنا نصل إلى أزمة وطن كامل، لا أزمة جهة واحدة ولا أزمة قطاع.

بالعودة إلى تّعريف الصّحة كما تُعرّفها منظّمة الصحّة العالميّة، هي “حالة من اكتمال السّلامة بدنيّا وعقليّا واجتماعيّا، لا مجرّد انعدام المرض أو العجز”. وممّا لا مراء فيه أنّ الوصول لتلبية هذا التعريف تماما يُعتبر ضربا من الخيال. ولكن الانطلاق منه يعيننا أكثر على فهم تردّي قطاع الصّحة خصوصا في تونس وعجزه عن تلبية حاجيات التونسيّين، بما هو نتيجة ومسبّب في آن. ورغم أنّ ميزانية وزارة الصحة شهدت ارتفاعا طفيفا من حيث الأموال المخصّصة بالمطلق، إذ بلغت بعد أزمة “كورونا” 3800 مليون دينار سنة 2021 (7،2٪ من الميزانيّة) مقابل 1875 مليون دينار سنة 2018 (5،2٪ من الميزانية) لكنها عادت للانخفاض في الميزانيّة المقرّرة لسنة 2022 بـ 16٪ مقابل ميزانيّة 2021، حيث بلغت 3،2 مليار دينار أي ببنسبة 5,5٪ من نسبة الميزانيّة العامّة.

وهي متأخّرة في ذلك عن وزارة الداخليّة التي تقدّر اعتماداتها لسنة 2022 ب5,2 مليار دينار (أكثر من وزارة الدّفاع أيضا 3,6 مليار دينار). في تواصل أيضا مع ذات التّرتيب والأولويّات في الميزانيّات السّابقة ممّا يعكس منحى عامّا تسير عليه أغلب الحكومات السابقة. ولكن لنذهب ونقارن بعض مؤشّرات الصّحة الشّعبية مقارنة ببعض نظيراتها في العالم الثالث وفي المركز.

تحلّ تونس في المركز الرابع في إفريقيا من حيث مؤشّر تغطية الخدمات الصحية، بنسبة تفوق 70٪ (بعد الجزائر والسيشال والمغرب). كما أنّ لدينا، عام 2017، 13 طبيبا لكل عشرة آلاف ساكن، في حين يوجد في كوبا (وهو بلد  من العالم الثالث يعطي الأولويّة للسياسات الاجتماعيّة 80 طبيب لكل 10 آلاف ساكن) وألمانيا أربعين طبيب لكل 10آلاف ساكن.

ومن حيث عدد الأسرّة في المستشفيات العموميّة فتونس في المرتبة 107 عالميّا عام 2015 وهي مرتبة متأخّرة بعد عقود من الاستقلال، وذلك بـ 23 سريرا لكل 10 آلاف ساكن، (يقع ربعها في القطاع الخاصّ) والسّابعة في إفريقيا، إذ تبلغ 63 سرير في الغابون (الأولى في افريقيا) و52 سريرا في كوبا.

ومن حيث توفّر التّجهيزات الثّقيلة ففي تونس سنة 2018 تم إحصاء 68 جهازا للأشعة المقطعيّة (إي, آر.م) تبلغ هذه النّسبة في فرنسا 15 جهاز لكل مليون ساكن (1000 جهاز تقريبا) ويتوفر في بلدنا 182 جهاز سكانار إجمالا مقابل 1200 في فرنسا (2018) بينما يبلغ العدد في اليابان حوالي 14 ألف بالنّسبة إلى عدد السّكان هي الأعلى في العالم. (لم تتوفّر لنا إحصائيات تخص دول العالم الثالث).

كان القصد من وراء هذه المقارنات إعطاء فكرة عامة عن رأس المال البشريّ والتقنيّ المحدّد للوضع العامّ للصحة في بلدنا مقارنة بما هو موجود في العالم لكن الصورة بهذا الشكل تظلّ منقوصة دون إعطاء فكرة عن التوزيع الجغرافيّ للخدمات وعلى توزيعها بين القطاع العامّ والخاصّ. ولن نسهب في إعطاء تفاصيل الأرقام وهي متوفرة في هذه الدراسة لوزارة الصّحة.

كما يكفي النّظر في خارطة توزيع المستشفيات الجامعيّة في البلاد لنلاحظ التّركيز الواضح في ثلاثة مراكز حضاريّة أساسا دون باقي البلاد. كما أنّ فكرة بسيطة عن توزيع بعض الأجهزة الثّقيلة بين القطاعين الخاصّ والعام تُعدّ مهمّة لنفهم الفلسفة التي تتمّ بها إدارة الموارد، في 2018 كما أوردنا تَعُدّ تونس 66 جهازا للتصوير بالرنين المغناطيسي يقع 53 منها في القطاع الخاص مقابل 13 في القطاع العام فقط، بينما هناك 135 جهاز سكانار في القطاع الخاص مقابل 47 في القطاع العام. وبحسبان خارطة توزيع القطاع الخاص نفسه الذي يحتل الأماكن الأكثر ازدهارا فيمكن استنتاج خلوّ ولايات كاملة من أي جهاز للتصوير المغناطسي مثلا. (ولايات سيدي بوزيد، سليانة، تطاوين وتوزر أي سرير طبي بالقطاع الخاص سنة 2018 حسب معطيات وزارة الصحة.)

هذا العجز والقصور وغياب العدل والمساواة يعكس خيارات تاريخية للتنمية سادت في تونس. إذ تقلّصت منحة الدولة لتمويل ميزانية التصرّف للمؤّسسات العمومية للصحة من 68٪ سنة 1992 إلى 3٪ سنة 2003 وتدني مقدارها بما يناهز 90٪.

قضيّة الصّحّة هي قضيّة بلدان الجنوب

منذ الحصول على الاستقلال تم اعتبار الحقّ في الحصول على الرّعاية الصّحّيّة أحد واجبات الدولة، لم يكن الأمر مقتصرًا على تونس فقط، بل كان هذا الخطاب سائدا في أغلب الدول العربية حيث يتمّ اعتبار الصّحّة والتّعليم مؤشّرين للتّقدّم الاجتماعيّ وأحد مصادر شرعيّة الدّول الجديدة. وعمليّا وسعيًا لترجمة هذا التّوجه كانت الخيارات متشابهة والمسيرة متطابقة سواء في فترة الصّعود أو في فترات الصّعوبات وتخلّي الدّولة عن هذا الدّور لاحقا.

ولسوء إدارة الموارد نصيب

رغم أنّ قلّة الموارد المخصّصة من الدّولة لوزارة الصّحّة تعتبر في تقديري السّبب الأوّل لكافة المآزق التي يعيشها القطاع، إلّا أنّ سوء التصرّف والتّوزيع غير العادل للموارد على الخطوط الثلاثة لقطاع الصّحة يعمّق من المأساة، فحسب تقرير نشرته مؤسسة “فريدريش هيبرت” سنة 2016  فإنّ الميزانيّات المخصّصة بالتّتابع لمؤسسات الخطّ الأوّل والثّاني والثّالث هي ب بالنسب التالية 26، 23 و51 بالمئة من اعتمادات وزارة الصّحّة. انخفاض نسب موارد مؤسّسات الخطّ الأول والثّاني أدّى إلى ضعف الخدمات المقدّمة من قبل هذه المؤسّسات خاصّة الغير مستعجلة مما خلق ضغطا كبيرا جدا على المستشفيات الجامعيّة يتجاوز قدرة العاملين بها على التعامل مع مختلف الحالات الواردة مما كان سببا رئيسيا وأساسيّا في خلق حالة من انعدام الثّقة بين الأطباء والمجتمع وهي أرضيّة ملائمة لحصول مختلف الإعتداءات التي طالت الكوادر العاملة في هذه المستشفيات.

أودّ أن نؤكّد في آخر العرض أنّ تكرار الحوادث الأليمة وفقدان الثّقة -بين المؤسّسات الصّحّيّة من جهة والمرضى من جهة ثانية-  في أغلب مستشفياتنا رهين بمنحى سياسيّ اقتصاديّ في البلاد وفي العالم، يمتاز بهجمة طبقيّة مسعورة بدأت منذ آخر السّبعينات على المكاسب الشّعبيّة التي حقّقتها أغلب البلدان التي تحرّرت من الاستعمار قبل عقود قصيرة، تعلي من شأن المال والرّبح وتسحق الإنسان ماديّا وروحيّا، وتفكّك المجتمعات والدّول وتُسلعن حياة الإنسان. وفي منظور أوسع تندرج ضمن عملية تدمير ممنهجة للطّاقة الإنتاجيّة الكلّيّة لمجتمعاتنا. مما يفرض على المعنيّين بمعالجة الملفّ الصّحّيّ رؤيته في إطاره الأوسع والكفّ عن التعامل معه كمسالة تقنية بحتة.

*مصدر الصورة : وكالة الصحافة الفرنسية

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !