العدالة الجبائية: علاج وهمي ضد التقشف

بقلم وليد بسباس، باحث شيوعي

مع حلول كلّ نهاية سنة وصدور أو قُرب صدور قانون المالية أو قانون مالية تعديلي، تكثر الخطابات عن <<اللاعدالة الجبائية>> التي تميّز هذا النص الجديد أو ذاك، وعن سياسة التقشّف التي ستواصل الدولة اتّباعها وعن الخسارات العُظمى التي تتكبّدها مداخيل الدولة بسبب العَدُوَّيْن الكبيريْن، وهما التهرّب الجبائي من ناحية والاقتصاد الموازي من ناحية أخرى. وتتراوح الخطابات بصفة عامة بين لوم، وأحيانا احتجاج على، الدولة لاتّباعها سياسات تزيد من غنى الأغنياء وفقر الفقراء، ومن ناحية أخرى عرائض لحثّ الحكومات على إقرار ضرائب استثنائية على الثروة من هنا أو تعصير الإدارة الجبائية من هناك لتعزيز مواردها.

لم تختلف هذه السنة عن سابقاتها سوى بمأسَسَة طُقوس المبادرات والعرائض التي تتضمن هذا المقترح أو ذاك. اذ نسمع في كلّ فترة جميع تلك الأقوال التي تُطرب أذان <<الديمقراطيين-الاجتماعيين>> بجميع مشاربهم الحداثية أو المحاربة للفساد أو حتى الستالينية: <<عجز الحكومات المتعاقبة>>، <<كفى تداينا خارجيا>>، <<كفى تفقيرا للطبقة الوسطى>>، <<من أجل منوال تنموي جديد>>، <<كفى تراجعا للدور الاجتماعي للدولة>>، <<كفى تقشفا>>، وغيرها من الحقائق والشعارات التي لا يختلف حولها عاقلان… ليُردِفوها في نهاية المطاف بذلك الحلّ السحري: سياسات جبائية عادلة للدولة، ضريبة تصاعدية، تعزيز الموارد المالية، تطوير إدارة الجباية إلخ.

على من توقَّع بيان ثورة بلشفية بعد كل تلك العناوين الرنانة المذكورة في البداية أن يتألّم في صمت! إذا أضفنا إلى هذا الخطاب بعض المقولات حول مقاومة الفساد ومكافحة الريع وبعض الخُطَب العصماء ضد “العائلات”، لتحصّلنا على مانيفستو <<اليسار الديمقراطي-الاجتماعي>> الحالي الذي يمتدّ من رُفات الحزب الشيوعي إلى شبيبة التيار الديمقراطي؛ ولِمَ لا بعض التقاطعات إن استلزم الأمر مع أحفاد الستالينيّين أو أصحاب الخطّ الثالث الآفاقيّين: توصيفٌ قريب جدا من الحقيقة مرفوق بتحليل لاتاريخي، وفي نفس الوقت لا نرى له عواقب متناسبة على مستوى الإجراءات المقترحة.

علاوة على عدم انسجام الخطاب <<الديمقراطي-الاجتماعي>> حول التقشف والمديونية، فإنه يكثّف جميع مظاهر العجز: عجز في فهم ماهيّة العُملة والفرق بين عُملة محلّية وعُملة صعبة والاعتقاد أنّ تحصيل موارد جبائية يمكن أن يساهم في تقليص المديونية الخارجية. عجزٌ في تجاوز البُعد التقني والحسابي للمديونية وفي فهم تاريخيّتها ووظيفتها السياسية كأداة استعمارية. عجزٌ عن تفكيك ظاهرة التقشف وربطها بالمديونية، واعتبار العلاقة بينهما مقتصرة على تحصيل مداخيل إضافية لسداد الديون. عجز في تَمَثُّل التهرّب الجبائي و”الاقتصاد الموازي” والفساد كظواهر متأصّلة في صُلب الاقتصاد الاستعماري المفروض على بلدان الجنوب، خصوصًا بعد فترة الإصلاح الهيكلي؛ بل وأتعس من ذلك تبنّي وجهة النظر الكولونيالية في تصويرها لهذه المسائل كظواهر ثقافية محض لبلدان الجنوب “المتخلّفة”. عجز عام في تجاوز أساليب المنظّمات-المجتمع-مدنية في مقاربة المواضيع التي تقع في جوهر السياسة: عرائض <<شعبية>> لا يمضيها إلاّ المؤلّفة قلوبهم والمؤلّفة مواقعهم الاجتماعية ومصالحهم الحياتية، بحيث لا نخرج من البينَنِيّة1 ومقترحات تقنية (شفافية، تدقيق، إصلاح جبائي… ) لا تزيد سوى في انخراطنا في حلقة مُفرغة من الإحباط والعجز. أو بالأحرى تفرض على الجميع نسَق الوظْفَنة النضالية.     

لن يخوض هذا النص في جميع هذه الجوانب، بل سيقتصر فقط على نقطة وحيدة، والتي أعتبرها جوهرية في علاقة بسياسات التقشف: ما يسمّى بـ “العدالة الجبائية” ليس علاجا ضدّ التقشف2. هي مسألة جوهرية نظرا لأنها تعكس التمثّل المغلوط للمالية العمومية، خصوصا فيما يهمّ الإجابة عن سؤال “منين نجيبو الفلوس؟”.

القبول بمقولة أنّ العدالة الجبائية هي علاجٌ للتقشف هو قبول بالقواعد التي فرضها الإصلاح الهيكلي منذ الثمانينيّات، وهي أنّ الدولة تُدار مثلما تُدار شؤون المنزل: عمود المداخيل يَسْرةً وعمود المصاريف يَمنةً وعلى المعادلة أن تكون متوازنة. وتُصبح أولويّة الأولويات في تسيير الأمور هي مراعاة “التوازنات الكبرى”، وخصوصا منها الحدّ من العجز في الميزانية.

سيقوم هذا النص إذا بالعودة إلى جوهر الإصلاح الهيكلي الذي فرض سياسات التقشف وفرض معها <<اللاعدالة الجبائية>>، لنفهم ما يدفع تلك <<الحكومات المتعاقبة>> إلى الحفاظ على سُلّم الضرائب اللامتكافئ والدفع كل مرّة نحو الزيادة في الضرائب غير المباشرة والتقليص من الضرائب على المؤسّسات، بما في ذلك أكبرها. وسنخوض فيما بعد في آليات تمويل الميزانية لنرى أنّ مبالغ الضرائب التي يتمّ تحصيلها اليوم ليست أقل ممّا كان يتمّ تحصيله سابقا: <<العدالة الجبائية>> لن توفّر لنا مداخيل إضافية!

أخيرا سيتمّ إعادة <<العدالة الجبائية>> إلى إطارها السياسي بعيدا عن العمليات الحسابية لتعديل الميزان: الضرائب أمرٌ ضروري أوّلا لأسباب سياسية، وثانيا لأسباب تقنية بعيدة كُلَّ البُعد عن مسألة تحصيل مداخيل للدولة.

 في كلمة: علينا قلب الإطار المعرفي في تمثّلنا للمالية العمومية: الإنفاق يسبق جمع الضرائب! 3

اللاعدالة الجبائية سبَبُها الإصلاح الهيكلي : عودة إلى تاريخ سياسات التقشف4

دخلت منظومة الإصلاح الهيكلي تونس في أواسط الثمانينيّات، في وقت عاشت فيه الدولة أزمَةً في مخزون العملة الصعبة. وعليه، التجأت الدولة التونسية إلى صندوق النقد الدولي لـ”إنقاذها” من هاته الأزمة. إلاّ أنّ صندوق النقد يشترط القيام بـ “إصلاحات” لتقديم “مساعداته”. هاته الإصلاحات ترتكز على إطار نظري فيما يلي موجز عنه: بصفة عامّة، يكون تطوّر الكتلة النقدية مرتبطا بتطوّر عاملين إثنيْن: 1- دخول العملة الصعبة عن طريق تحويلات من الخارج إلى الداخل (تحويلات المهاجرين، خلاص البضائع المصدّرة، الاقتراض الخارجي…)، 2- كذلك عن طريق القروض التي تُسديها البنوك المحليّة لجميع المتعاملين في الاقتصاد: الدولة والمؤسّسات والأفراد. يقول خبراء صندوق النقد الدولي، في المثال النظري الذي أنجزوه، أنّ التطوّر السريع للكتلة النقدية عن طريق القروض المحلّية يؤدّي إلى ارتفاع القدرة الشرائية لدى الأفراد ما سيتحوّل فيما بعد إلى الترفيع في وتيرة الاستيراد، وهو ما سيؤدّي إلى اختلال في الميزان التجاري.

إذًا، أتَتْ الإملاءات في تناغُم مع الإطار النظري الذي يعتمده الصندوق: من أهمّها تسقيف القروض المُسداة للاقتصاد، أيْ أنّ البنك المركزي يتّخذ عدّة إجراءات لكبح جماح تطوّر القروض. بطبيعة الحال، لا يتمّ تعطيل القروض بنفس الصرامة للدولة وللخواص. فمن المتّفق عليه لدى الليبراليين بأنّ الدولة ليست متعاملا اقتصاديا ناجعا، ولذا يتمّ منعها أكثر من الخواص من الحصول على قروض (في شكل سندات خزينة أساسا).  يتمّ قيس مدى لجوء الدولة للاقتراض عبر مؤشّر عجز الميزانية، لذا بدأ الحديث منذ أواسط الثمانينيّات عن عجز الميزانية كدَاءٍ وجَبَت مقاومته5، وهذه السياسة هي التي تُسَمَّى سياسة التقشّف. لكن بصفة عامة يتمّ تسقيف نسبة تطوّر القروض التي تُسديها البنوك على كامل المتدخّلين. ومهما تمّ الضغط على الدولة، فإنّ ذلك يتسبّب أيضا في انخفاض نسق تطور القروض المُسداة للمؤسسات الاقتصادية (العمومية والخاصة).

إلاّ أنّ تسقيف القروض له نتائج مباشرة تتمثّل في تدهور الاستثمار. فمنذ دخول الدولة التونسية نفق الإصلاح الهيكلي سنة 1984، تراجَع الاستثمار الداخلي ولم يَعُد إلى نفس ذلك المستوى إلا سنة 1997 (بالأسعار القارّة لسنة 2010). أي أنّ الدولة التونسية فقدت 13 سنة من الاستثمار بسبب “الإصلاحات”.

يَعي دعاة الإصلاحات هذا الأمر جيّدًا. لذا وجب عليهم التفكير في طريقة يعوّضون بها ذلك الاستثمار المنقوص. فبدأ مثلا قطار قوانين الاستثمار المتتالية في أواخر الثمانينيّات والتسعينيّات مع ما يرافقه من إعفاءات جبائية وتشجيعات. لكن التجأوا كذلك إلى طرق أخرى لتشجيع الاستثمار انطلاقا من أصل المشكل، وهم البنوك. وهنا سنخوض في أحد معتقدات الليبراليين في المجال النقدي: هم يعتقدون أنّ الودائع لدى البنوك يجب ألاّ تقلّ عن نسبة معيّنة من القروض التي تُسديها. الطريقة المُثلى بالنسبة إليهم لترفيع القروض دون أن تتسبَّب هاته القروض في ارتفاع نسبة تطور الكتلة النقدية هي إذًا الترفيع في الودائع، أيْ بِلُغَةً اخرى تشجيع الإدّخار. تخالف هذه النظرية ما يقوله الكاينزيّون عبر المقولة الشهيرة <<القروض هي التي تخلق الودائع وليست الودائع من تخلق القروض >>6. أي أن إسداء القروض يسبق وجود الودائع.

إذن في تكامُلٍ مع إجراءات الإصلاح الهيكلي، يسعى أصحاب القرار إلى الترفيع من منسوب الإدّخار، وهنا تأتي إجراءات اللاعدالة الجبائية.

يمكن أن نرى ذلك بوضوح في نِسَب الضرائب التي تغيّرت مرّتين في ظرف ثلاث سنوات. المرّة الأولى في قانون المالية لسنة 1986، أيْ أوّل سنة من الإصلاح الهيكلي، والمرّة الثانية عبر مجلّة الضريبة على الأشخاص الطبيعيّين والضريبة على الشركات في سنة 1989:

النسب الأصلية (قانون المالية لسنة 1983):

التغيير الأول في قانون المالية لسنة 1986:

التغيير الثاني في مجلة الضريبة لسنة 1989:

ما حدث بين 1983 و1989 هو في بادئ الأمر إلغاء النسب الكبيرة على الشرائح العليا وإلحاقها بنسب أقل لشرائح أقل منها (إلغاء شرائح المداخيل ما فوق 80 ألف دينار) في قانون المالية لسنة 1986 ثم في مجلة الضريبة لسنة 1989 تمّ إعادة تشكيل الشرائح وتخفيض أعلى مستويات الضرائب إلى 35%. المنطق من هذا التخفيض سهلٌ: أي دينار إضافي في جيب الشرائح الدنيا سيتحوّل إلى استهلاك. أما الشرائح العليا فعندها نزوع أكثر للإدّخار، ممّا سيرفّع من الودائع لدى البنوك. كذلك نسب الضريبة المنخفضة للمؤسسات، فهي -نظريّا- تهدف لتوفير الإدّخار اللازم للمؤسّسات كيْ توجهّه نحو الاستثمار.

خلاصة الأمر: اللاعدالة الجبائية أتت لتُعَدّل من تجفيف السيولة التي تتسبّب فيها إجراءات البنك المركزي لتسقيف تطوّر القروض المُسداة للاقتصاد. إذًا بالنسبة إلى <<الحكومات المتعاقبة>>، وحتّى إن حلّلنا الأمور من داخل المنظومة الفكرية المجتمع-مدنية-الاجتماعية-الديمقراطية، فإنّ تحقيق العدالة الجبائية داخل منظومة الإصلاح الهيكلي سيؤدّي إلى نقص الادّخار. ونقص الادّخار في ظلّ تجفيف السيولة سيؤدّي إلى خلق مزيدٍ من التنافس بين المؤسّسات والدولة على السيولة الموجودة. في ظلّ القبول بالشروط الإيديولوجية والسياسية للمنظومة الليبرالية-الإصلاح-هيكلية، لن يؤدّي ذلك إلاّ إلى مزيد <<تعطيل الاستثمار>>.

هل كانت الدولة تُحقّق مداخيل أكثر في ظلّ “العدالة الجبائية”؟

سنعود هنا إلى ما سبق فترة الإصلاح الهيكلي لنُدقّق فيما كانت تحصّله الدولة في ظلّ ما يمكن أن يسمّونه اليوم <<عدالة جبائية>>. وهي فترة تميّزت بقدرة مالية كبيرة للدولة، مكّنتها من إنشاء أغلب المؤسّسات العمومية التي حقّقت جزءا كبيرا ممّا شهدته الدولة من نموّ منذ نهاية الاستعمار السياسي حتّى فترة <<الانفتاح>> تحت قيادة الهادي نويرة. سنعتمد على مؤشّر “الضغط الجبائي” (وهو المؤشر الذي تعتمده المؤسسات المالية الدولية والمنظمات غير الحكومية) مع الحفاظ على احترازاتنا على مكوّناته. مؤشر الضغط الجبائي هو نسبة مجموع المداخيل الجبائية التي تُحصّلها الدولة من الناتج الداخلي الخام. وإن كان على هذا المؤشّر احترازات كبيرة، بخصوص كيفية احتسابه و لِمَا يمكن أن يحتسبه7 وكذلك ما يمكن ألاّ يحتسبه -خصوصا ما يُعبَّر عنه بالاقتصاد الموازي-،إلاّ أنّه يمكن أن يعطينا فكرة جيّدة عمّا تستطيع الدولة تحصيله من ضرائب في مساحة الاقتصاد الرسمي.

فنلاحظ مثلا أنّ الضغط الجبائي في فترة الهادي نويرة8 لم يتجاوز قطّ نسبة 20% طيلة فترة ما يسمّى بالانتعاش الاقتصادي، التي أتت إثر فتح البلاد للاستثمار الأجنبي. وقد استفادت الدولة التونسية حينئذ من كونها “سبّاقة” بين مثيلاتها من دول الجنوب في انتهاج هذه السياسة،

السنوات 1972 1973 1974 1975 1976 1977 1978
الضغط الجبائي (%) 15,68 16,62 15,18 15,96 16,66 17,90 20,80

إلاّ أنّه مع تفاقم الأزمة العالمية في نهاية السبعينيّات وبداية الثمانينيّات، والتي كان لها تأثير مباشر على الدولة التونسية، بدأت تلك النسبة في الارتفاع تدريجيًا، لكن بقيت بمعدّلات متاخمة لـ 22%. ما يمكن أن نقوله هنا أنّ ارتفاع الضغط الجبائي ليس مرتبطا فقط بارتفاع المداخيل الضريبية، لكنّه مرتبط كذلك بانخفاض نِسب النموّ. ونلاحظ أيضا أنّه بعد “الإصلاحات الجبائية” لسنة 1986، انخفض الضغط الجبائي مباشرة بنقطتين مئويّتين. ويمكن قراءة ذلك كتأثير مباشر للإجراءات المتخذة.

السنوات 1981 1982 1983 1984 1985 1986 1987 1988 1989
الضغط الجبائي (%) 21,84 22,73 22,83 23,47 22,80 22,81 20,55 20,45 20,14

في الفترة الموالية، بقي الضغط الجبائي يتراوح بين نِسب 19% و21% رغم <<اللاعدالة الجبائية>> التي تتّسم بها تلك الفترة. كيف يمكن تفسير بقاء النسبة على ما هي رغم ذلك <<الإصلاح الجبائي>>؟ الإجابة تأتينا عندما ندقق في تركيبة الضرائب. فقد قابل انخفاض موارد الضرائب المباشرة مواصلَةٌ في ارتفاع الضرائب غير المباشرة في تلك الفترة -رغم الأزمة التي عاشتها البلاد- وهي الضرائب المرتبطة بالاستهلاك أساسا.

السنوات 1981 1982 1983 1984 1985 1986 1987 1988 1989 1990
الضرائب المباشرة 206,6 244 260 288 297 378 326 320 362 380
الضرائب غير المباشرة 511 625 782 890 932 1167 1225 1347 1441 1661

تطوّر تركيبة المداخيل الضريبية (بالمليون دينار)

إذًا فاللاعدالة الجبائية لم تمسّ من مبالغ الضريبة التي يتم تحصيلها، بل فقط عوّضت “خسائرها” من الضريبة المباشرة عبر الترفيع في المبالغ المحصّلة من الضرائب غير المباشرة. وهو ما نلاحظه حتّى من فترة لأخرى مثلًا في المبلغ الزائد الذي ندفعه في بطاقات الشحن للهواتف الجوالة.

هذا التعويل على الضرائب غير المباشرة له عدّة “فوائد”: أوّلا تمكين <<الحكومات المتعاقبة>> من التخفيض المتواتر في نسب الضرائب المباشرة للمؤسّسات وأصحاب المداخيل العليا. ثانيا كبح جماح الاستهلاك، فلا يجب أن ننسى أن المثال النظري الذي يعتمده صندوق النقد الدولي يستهدف مباشرة الاستهلاك بالتخفيض في القدرة الشرائية، وبذلك التخفيض في الاستيراد. أخيرًا تستعمل الدولة هذا الأسلوب كي تتمكن من تحصيل بعض المداخيل من المتعاملين في <<الاقتصاد الموازي>>. فحتى المتعاملون في الاقتصاد الموازي يستعملون الهواتف الجوالة ويقومون بملء خزان البنزين ويدفعون معاليم الجولان ويستهلكون ما تيسّر من مواد كحولية وغيرها…

من زاوية أخرى، لن نغوص كثيرا في مسائل التهرّب الضريبي والاقتصاد الموازي. فحتى إن كانت نسبة التهرب الضريبي مرتفعة قليلًا بالنسبة لبلدان الجوار، فإنها حسب منظمة شبكة العدالة الجبائية لا تمثل مبلغا كبيرا مقارنة بمجموع المداخيل الجبائية. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن التهرّب الجبائي مرتبط أساسا بعولمة المبادلات الاقتصادية وتواجد جنّات ضريبية أغلبها تتبَع أو تحت حماية بلدان الشمال9. أما عن الاقتصاد الموازي، فهي ظاهرة مرتبطة عضويا بسياسات الإصلاح الهيكلي: أينما وُجد الإصلاح الهيكلي وُجد معه تفشي الاقتصاد الموازي10 ! إن أردنا حقا محاربة التهرب الضريبي والاقتصاد الموازي، فنحن نعلم من العدوّ!

ما نراه إذا أنّ الضغط الجبائي لم يصل أبدا إلى المستوى الذي هو عليه الآن، ونحن إذا نحصّل اليوم أعلى مبلغ ممكن يسمح به الاقتصاد الرسمي! إذًا من أين كانت الدولة تأتي بالأموال؟ من التداين الداخلي وأحيانا من التمويل المباشر من البنك المركزي! فيما يلي تطوّر نسبة التداين الداخلي الصافي (أي مبلغ التداين الداخلي يُطرح منه مبلغ تسديد الديون الداخلية) من الناتج الداخلي الخام من أول السبعينات حتى سنة 2019 11. نلاحظ أنّه لا مشكل للدولة في أن تقترض من السوق الداخلية لفترة دامت طويلا بنسب تفوق 2% من الناتج الداخلي الخام، ولم يطرح ذلك أيّ إشكال بالنسبة للمالية العمومية. والأزمة الوحيدة التي شهدتها الدولة كانت أزمة مديونية خارجية تسبّبت فيها أزمة عالمية! أما بعد الإصلاح الهيكلي، صارت الدولة نادرا ما تقترض من السوق الداخلية أكثر مما تسدّده من ديون. بل كانت في أغلب الأحيان تعيد للمنظومة البنكية سنويا أكثر من 1% من الناتج الداخلي الخام. هذه العملية لم تُنه التداين الداخلي ولم تقلّص منه بصفة تُذكر: من 1994 إلى 2010، لم يتقلّص التداين الداخلي إلاّ من 20% إلى 16%. إذًا طيلة هاته الفترة اقتصرت الدولة على تمويل البنوك المحلية بمبالغ فوائد طائلة دون أن تستغلّ السوق الداخلية لتمويل مشاريع تنفع الناس.

أما قبل 1970، حين كانت الدولة تحتاج إلى مزيد من التمويل لغلق ميزانيتها، فقد كانت تلجأ بكل بساطة إلى التمويل المباشر من البنك المركزي بمبالغ يمكن اعتبارها كبيرة بمقاييس اليوم: 12 13,6 مليون دينار في 1963 (ما يقارب 3% من الناتج الداخلي الخام)، 2,8 مليون دينار في 1964 (0,5%)، 4,4 م.د. سنة 1966 (0,8%) أو 4,8 م.د سنة 1969 (0,7%).

ما يمكن استنتاجه هنا هو أنّ موارد الدولة لا يجب أن تقتصر على الضرائب. فمثلها مثل أيّ مؤسسة، وعلى عكس اقتصاد العائلة التي لا ترتفع مداخيلها الاعتيادية عبر التداين، هي بحاجة للتداين من أجل أن يكبر حجمها ويصبح ديْن السنوات الماضية ضئيلا أمام مداخيل السنوات الموالية. بينما في اتّباع سياسة التقشف يتقلّص حجم الدولة من سنة إلى أخرى، ممّا يؤثّر سلبا على منسوب الديْن العمومي من ناحية، لكن بالخصوص يُمثّل ضررًا على الخدمات الاجتماعية وأوّلها الصحة. وكذلك النقل والوصول إلى مياه الشرب والسَكَن اللائق وحماية الطفولة الهشّة… وقائمة مجالات تراجع الدولة طويلة.

ما لا يتحدّث عنه “علم الاقتصاد”، الذي يمارسه الخبراء الرسميون والمجتمع-مدنيون والخبراء المحاسبون، هو القيمة الاجتماعية للعُملة: العملة المحلية ليست سلعة يجب أن تُحسَب بدقّة بل هي أداة اجتماعية تُخلَق حسب الحاجة، وما تجارب العملات المحلية (على المستوى المحلي) وما نجاح السياسات الكينزية في عديد المواقف على مستوى الدول (من الثلاثينيّات إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية وصولا إلى أزمة 2008) إلّا خير دليل على ذلك.

نرى إذن أنّ نقطة التحوّل حصلت مع إقرار الإصلاح الهيكلي: منذ ذلك التاريخ، ذهبت الدولة في منحى تقليص حجمها عبر التداين الداخلي السلبي سنة بعد أُخرى. وهو ما يفسّر أن المداخيل جبائية ضئيلة رغم أنّ نسبة الضغط الجبائي هي الأعلى التي شهدتها الدولة التونسية على الإطلاق (أكثر من 25% سنة 2019). لكن هذا ما يفسّر بالخصوص حالة المرافق الاجتماعية، وخاصة منها مرفق الصحة العموميةـ حيث رأينا مثلا مشاهد لمستشفيات ميدانية غير قادرة على العمل بسبب نقص الإطار الطبي. إشكالية التقشف ليست إشكالية موارد جبائية بل هي إشكالية تجفيف السيولة النقدية في الاقتصاد كَكُلّ، وعلى الدولة بشكل خاصّ، لمنعها من الاقتراض والاستثمار في الخدمات الاجتماعية.     

إذا أيّ مكان <<للعدالة الجبائية>>… وأيّ مكان للشيوعيين؟

إذًا أيّ مكان “للعدالة الجبائية”… وأيّ مكان للشيوعيين؟

ما تقوله الدراسات الأنثروبولوجية حول الضرائب13 هو أنّ الضرائب جعلت لإعطاء قيمة للعُملة الي يضربها الحاكم. إذ أنّ الحُكّام كانوا يبعثون جيوشا إلى مناطق بعيدة لخوض الحروب ولم يكن بالإمكان أن تلحقهم المؤونة بسهولة، حيث كان يتوجّب إعداد جهاز لوجيستي كبير لتمكين الجيوش من المأكل والملابس وحتى أبسط الأشياء. لذلك طَبَع الحكّام النقود وفرضوا على سكان المناطق البعيدة أن يدفعوا ضرائبهم بتلك العُملة. إذًا صار هؤلاء مُجبرين على الحصول على المبالغ اللازمة من تلك العُملة لدفع ضرائبهم، وكان ذلك عن طريق الجيوش! <<الضرائب تُعطي رواجا للعملة>>14، هكذا تقول النظرية النقدية الحديثة.

إذن من الأسباب الأولى التي تجعل الضرائب ضرورية في أيّ اقتصاد نقديّ هو إعطاء رواج للعملة. إنْ فقَدت تلك العملة سبب رواجها فستفقد من قيمتها وهو ما سيُدخل الاقتصاد في دوّامة تضخّمية. ففي نفس السياق، يذكر راندال راي (Randall Wray) أحد آباء النظرية النقدية الحديثة، أنّ من الأسباب الأساسية للتضخم المفرط هو عدم قدرة الدولة على جمع الضرائب. في نفس النسق، هناك سبب “تقنيّ” آخر يجعل جمع الضرائب ضروري: فهذه العمليّة هي بمثابة تدمير لجزء من العُملة التي تتدفّق في الاقتصاد. جمع الضرائب يمكّن من السيطرة على الكتلة النقدية في إطارٍ يحقّق أهداف السياسة العمومية من تشغيل وتوفير الخدمات الأساسية وشروط العيش اللائق والكريم، لكن في نفس الوقت يمتصّ الزائد من السيولة لأنّنا هنا ندخل في سياق التشغيل الكامل لعوامل الإنتاج15، وكلّ سيولة زائدة ستتحوّل آليا إلى تضخم.

أمّا الهدف السياسي من الضريبة فهو إعادة توزيع الثروة، فلا يجب أن ننسى أن الثروة يتمّ إنتاجها جماعيا ولا يجب أن يستحوذ عليها فرد واحد. دون مدارس عمومية ودون جامعات ودون بنية تحتيّة مناسبة لا مجال لأيّ كان أن يخلق ثروة ما. كلّنا نتذكّر الأخلاقوية السائدة السنة الفارطة حول السميد والفرينة واتهام <<الشعب المتخلّف>>16 بالجشع لأنّه لا يفكّر بغيره نظرا لأن البضائع محدودة. وقد وصلت بعض المغازات إلى حدّ منع الحرفاء من اقتناء أكثر من عُلبتيْ حليب ضاربة عرض الحائط مبدأ “الحرية الفردية” في المسائل المالية. ما نطلبه هو تماما نفس ما مورس ضدّ الناس العاديين. “العدالة الجبائية” بالطريقة التي يسوّق لها المجتمع-مدنيّون-الديمقراطيون-الاجتماعيون ما هي إلاّ أداة محاسبية استوجبتها ضرورة جمع الموارد للدولة، لذا وجب على الجميع المساهمة بنفس الطريقة، لأنّنا -حسب هؤلاء- كلّنا متساوون ولا فضل لعربيّ على أعجميّ سوى بالعمل والكفاءة والشهادة العلمية في إطار دولة القانون ومقاومة الريع والفساد.

ما تسبّبت فيه سياسات الإصلاح الهيكلي هو تحويل مسائل سياسية بالأساس مثل إدارة شؤون الدولة والمجتمع، بما يفترضه ذلك من وعي بماهية الأشياء ودقّة وتنوّع الظواهر الاجتماعية وفهم للديناميكات التي تقود العالم وأوّلها السياسات الما بعد الاستعمارية، إلى مسائل تقنية وقانونية بحتة. سياسات الإصلاح الهيكلي ليست فقط سياسات فُرضت لخلاص الديون كما تُسوّق لها الإمبريالية. سياسات الإصلاح الهيكلي هي سياسات استعمارية تستعمل المديونية كسلاح ضدّ الشعوب: إن تواصلت شروط الإصلاح الهيكلي، لن تُستخلص تلك الديون طالما لا تزال هناك ذرّة فسفاط لم يتم استخراجها، طالما لا تزال هناك قطرة ماء لتسقي زراعات الفراولة والكيوي والبرتقال، طالما لا تزال هناك جامعات تكوّن مهندسين ومدارس تكوّن شبابا يتقنون الفرنسية ليعملوا في مراكز المُهاتفة وطالما لا تزال هناك امرأة واحدة تعمل ليلا نهارا في مصانع النسيج بأجر أقلّ من الثوب الذي تنتجه، وطالما لا تزال هناك مؤسسة عمومية واحدة لم تخُوْصَص بعد لتدرّ الأرباح على من سيشتريها ببخس الأثمان. سياسات الإصلاح الهيكلي هي سياسات التأزيم المتواصل للأوضاع ولا خروج منها إلاّ بالخروج من الإطار الفكري الذي تفرضه علينا.

لكن هل تكفي سطحية الطرح لدى الخطاب المهيمن ليجرّ وحده كافة الحقل السياسي نحو تبنّي أساليب الوظفنة النضالية والرضا بالقوالب الجاهزة التي تُجترّ هنا وهناك، من بلاتوهات موزاييك إلى منتديات التنظيمات الديمقراطية الاجتماعية؟ فحتّى راديو أكسبراس آف آم الليبرالي جدًا يبثّ أسبوعيا حصّة حول الجباية شعارها <<مجلة جبائية من أجل عدالة جبائية>>!

الإجابة بالطبع لا! وكما يقول البعض فإنّ “الطبيعة” تأبى الفراغ، والجمود الفكري والانخراط في قوالب وأساليب الانتقال الديمقراطي يحوّلنا إلى توابع لهؤلاء: نتبنّى التقارير السخيفة تحت مسمّى <<العلمية>> والخبرة بالمسائل <<التقنية>>. نقبل برزنامتهم المرتبطة لحركات السلطة وسكَناتها (إنتخابات، انقلابات، قوانين مالية، إلخ.)… الفراغ هنا هو غياب القوة السياسية والفكرية التي تفكّك الواقع وتفرض خطابا يقطع مع الهيمنة الفكرية للقوى الليبرالية المتغلّفة بلحاف الخطاب التقني للمجتمع-المدني-الديمقراطي-الاجتماعي. في كلمة: هذا ما يحدث في غياب الحزب الشيوعي.


1. محاولة لترجمة كلمة entre-soi

2. ولا علاجا ضدّ المديونية الخارجية وهذا من البديهيات لمن يعلم أنّ الدينار لا يصلح لخلاص الديون الخارجية. إلاّ أننا يمكن أن نجد المصدر الأوّل لهذا الخلط هو في بعض بيانات صندوق النقد الدولي، مثلا: رابط.

3. يرتكز التحليل على إطار نظري مابعد كاينزي يسمّى النظرية النقدية الحديثة (Modern Monetary Theory - MMT)، سأضع مرجعين مهمّين لهذا الطرح في آخر النص.

4. سأحاول هنا تقديم ملخّص عن الإطار النظري للإصلاح الهيكلي. أمّا عن التفسير المفصّل، أدعوكم.ن للإطلاع على هذا النص: أنقر هنا

5. نرى هنا أن عجز الميزانية مكروه لا من زاوية توازن ميزانية الدولة لكن من زاوية تنفيذ إملاءات الصندوق

6. “Ce sont les crédits qui créent les dépôts, non l'inverse”

7. مثلا: حادث مرور خطير يخلّف ضحايا وخسائر مادية يرفّع من الناتج الداخلي الخام. إنقاذ حياة في مستشفى عمومي لا يزيد في الناتج الداخلي الخام شيئا.

8. كل الأرقام تم جمعها من تقارير البنك المركزي وهي على الذمة لكل من يـ.تطلبها.

9. أنظر ترتيب الجنات الضريبية هنا: الرابط

10. أنظر مثلا: صندوق النقد وذاكرة الإصلاحات المفقودة: 3. تفكيك الدولة والتطبيع مع الحياة الهشة: المالثوسية الاقتصادية على ارض الواقع (1986-2010)

11. الأرقام من 1990 إلى 1992 غير متوفرة

12. أنظر تقارير البنك المركزي من 1965 إلى 1970.

13. أنظر مؤلف عالم الإنسية دافيد غرايبر <<5000 سنة من تاريخ الديون>>

14. Taxes drive money

15. Plein emploi des facteurs de production

16. بطبيعة الحال، لا أتبنّى المقولة.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !