مقاومة التضخّم أو عنوان سياسات التقشّف

تحتوي هذه الصورة على سمة alt فارغة؛ اسم الملف هو walid-besbes-1024x1024.jpg
بقلم وليد بسباس، باحث شيوعي

يُروى أن اجتمع عشرون قردا في قفص علّقت في سقفه موزة. كلّما حاول أحد القردة الصعود للموزة يتمّ رشّ الجميع بالماء البارد. يفهم القردة بعد وقت قصير أنّ محاولة المساس بالموزة من المحظورات. بعد ذلك يتمّ استبدال أحد القردة بقرد آخر لا علم له بقانون القفص فيحاول الصعود إلى الموزة، لكنّ زملاءه في القفص يمسكون به ويضربونه ليمنعوه من ذلك. ثمّ يتمّ استبدال قرد ثان ليكتشف القرد الجديد بدوره قانون القفص عندما يحاول الصعود إلى الموزة. يتواصل هكذا استبدال القردة الواحد تلو الآخر إلى مرحلة لا يبقى فيها في القفص أي قرد من القردة الأوائل. لكن رغم ذلك يتواصل الاعتداء على كل قرد جديد يحاول الصعود إلى الموزة رغم أنّه لم يتمّ رشّ أيًا من القردة الموجودة بالماء البارد… هذه الخرافة مثَل يبلور <<نظرية القرد>> التي تفسّر بهذه الطريقة مرور ممارسة ما إلى الموروث الجماعي، فتتحوّل إلى عادات وتقاليد يُجهَل في غالب الأحيان أصولها وأسبابها.

هكذا هو التقشف. لا نجد أحدا اليوم من بين عُصبة الحاكمين من يتحدّث عن التقشف كإملاء من إملاءات صندوق النقد لتعديل ميزان الدفوعات، بل نجد تهديدا عنيفا ومتشنجا بالتضخم. بطبيعة الحال، إن سألنا القردة في الرواية المذكورة أعلاه، فسيعطوننا سببا مقنعا لاعتدائهم على كلّ من يريد الصعود للموزة. مثل هؤلاء القردة، فإنّ عُصبة الحاكمين ستفسّر سلوكها بما رسخ في أذهانهم من إيمان خرافي للإنسان البدائي: إن لم يلتزموا بالتقشف سيعاقبهم ربّ الاقتصاد رعدًا وبرقًا وأمطارا طوفانية تُغرقهم في التضخم. وسنجد حتما بين القردة من سيصنع ربّا من عدم ليقدّم لهم دِينًا على المقاس يعطيهم التشريع المناسب لمنعهم من لمس الموزة المحرّمة. بنفس الطريقة، أنتج الخوف من الانفاق العمومي لدى الهومو-إيكونوميكوس سرديّته وخرافاته وكذلك أنتج كنيسة تجسدت في ’مدرسة شيكاغو’ لها كتاباتها المقدّسة وشخوصها الأسطورية وقِدّيسوها الملتفّون حول ميلتون فريدمان وصولا إلى أدنى درجات الكهنوت من خبراء لدى مريم بالقاضي وكرونيكورات يكرّرون بلا ذكاء ما يلقّنه لهم ملوك الطوائف.

سرديّة كهنة التضخم

نجد عرضا شافيا وضافيا للفكر الكهنوتي في بودكاست “فلوسنا” بما في ذلك موضوع التضخم (أنقر هنا). والجدير بالانتباه أنّ الكرونيكور لم ينتظر كثيرا ليربط التضخم بالانفاق العمومي. اذ أننا لم ننتظر أكثر من دقيقتين لنعلم أنّ السبب الأول للتضخم هو الزيادة في الأجور. هذا رغم أن أسباب التضخم، كما سنرى بعد حين، متعدّدة والإنفاق العمومي بعيدٌ كل البعد عن أن يكون أحدها أو على الأقل أهمّها. وتعود هذه الرؤية إلى قراءة مؤدلَجة لمعادلة التبادل:

M.V=P.Q

 أين:
M= الكتلة النقدية
V= سرعة تدفّق العملة (1)
P= المستوى العام للأسعار
Q= كمية البضائع التي يتم تبادلها 

هي معادلة حسابية لا يختلف فيها اثنان. إلاّ أنّ كهنوت المعبد أصحاب النظرية النقديّة الكمية يقرأون هاته المعادلة بطريقة سببية: بالنسبة لهم، فإنّ ارتفاعا في الكتلة النقدية (M) سيؤدّي حتما إلى زيادة في مستوى الأسعار (P) -أي ما نسمّيه التضخم- لترجيح كفة المعادلة.

طبعا يعطون تفسيرهم لتلك المعادلة: بالنسبة لأتباع النظرية الكمية للعملة، فإنّ العملة محايدة في الإقتصاد والكتلة النقدية هي مسألة خارجية (Exogène) عن الاقتصاد ككلّ، أي أنّ كمّيتها لا تتَحدّد انطلاقا من مجريات الحركة الاقتصادية. عمليا، يُترجم هذا الفكر بخرافة الخبزة الموجودة في الحلقة المخصصة للتضخم في “فلوسنا”: إن ارتفعت الكتلة النقدية، فهذا لن يتسبب إلا في ارتفاع جميع الأسعار بنفس النسبة.

إذا فإنّ المعادلة سهلة للكهنوت: إرتفاع الإنفاق العمومي يؤدّي إلى ارتفاع الكتلة النقدية وارتفاع الكتلة النقدية يؤدّي إلى التضخم. وفي الأثناء ننسى أصل سياسة التقشف وهو إملاءات صندوق النقد في 1986 لتعديل ميزان الدفوعات. للتذكير، فإنّ اختلال ميزان الدفوعات لم يكن أبدا بسبب سياسات داخلية بل أتى نتيجة سياق اقتصادي دولي قاس على بلدان الجنوب.

لكنّ الفرضيات التي يعتمدها أتباع النظرة الكمية بعيدة عن الواقع. فهم يفترضون مثلا أن سرعة تدفّق العملة قارّة عبر الزمن، إلاّ أنّ هذا الأمر خاطئ. ففي فترات النشاط الاقتصادي تكثر المبادلات ويزداد تبادل الأموال بين مختلف المتعاملين وتزداد إذا تلك السرعة، بينما في فترات الركود الاقتصادي تقلّ المعاملات ويلتجئ أكثر المتعاملين إلى الإدخار والانتظار فتقلّ تلك السرعة. أما الفرضية الثانية في تحليلهم فهي أنّ كمية الإنتاج لا تتأثر بارتفاع الكتلة النقدية، وذلك لأنّ المثال يفترض الاشتغال الكامل لعوامل الإنتاج (plein emploi des facteurs de production) أي أن جهاز الإنتاج يشتغل بطاقته القصوى، وهذه الفرضية بدورها خاطئة.

فلنعُد إلى الحلقة المذكورة أعلاه من “فلوسنا”. تبرُز ضحالة فرضية الاشتغال الكامل لعوامل الإنتاج في أن لا وجود إلا لخبزة واحدة كبضاعة داخل الاقتصاد. فلا يمكن مثلا للمخبزة أن تنتج خبزة ثانية. ولا يمكن لمن زاد مدخوله أن يتوجّه لاقتناء خضر أو غلال أو تذكرة سينما… فالمدخول الإضافي يمكن أن يُستعمَل لزيادة الإنتاج وهو ما لا يتعارض بتاتا مع المعادلة المذكورة أعلاه! فالقاعدة الرياضية التي تفرض أن يزيد مستوى الأسعار حين زيادة الكتلة النقدية هي نفسها التي يمكن أن نقول بها أن زيادة الكتلة النقدية ترفع مستوى الإنتاج. والوقائع التاريخية أثبتت الفرضية الثانية أكثر من الأولى: من النيوديل الأمريكي وصولا إلى سياسات إعادة دفع الاقتصاد في أمريكا وأوروبا إثر الجائحة ومرورا عبر سياسات الإنقاذ التي قامت بها البنوك المركزية الأوروبية والأمريكية إثر أزمة 2008. 

لِمَ يخافون التضخم؟

قلّ ما نسمع أحدهم يروي لنا سرّ هذا الخوف من التضخم، فقد صار هذا الأخير غولا مستقلاّ بذاته، مثلما نتحدّث عن المرض أو الفيضانات. يكفي أن ننطق بهاته الكلمة لتقشعرّ الأبدان، نفس تلك الأبدان التي لا تقشعرّ عند قراءة أرقام الوفَيات اليومية ولا تبالي لقطاع الصحة المنهار، تجهيزات وأعوانا. انّها سياسة التغويث من التضخم في صلب الفكر النيوليبرالي الذي احتلّ العقول في جميع أصقاع العالم.

وفي نفس السياق، يمكن أن نستمع إلى  جون لوك ميلونشون متحدّثًا عن هذا الغول: <<عشت في عالم كان فيه التضخم يصل أحيانا إلى 12% و قد كان كلّ من يشتري منزلا يفرك يديه من السعادة لأنّ ديونه ستضمحلّ بعد بضعة أعوام!! (…) نذبح أنفسنا لكي لا نجد انفسنا في وضعيات تضخم بـ5 أو 6 بالمائة!! نلغي مشاريع جسور وطرق سيارة ومستشفيات  لكي لا نجد انفسنا في وضعيات تضخم بـ5 أو 6 بالمائة!!>>

في البداية، كان التحذير من التضخم في صُلب سياسات الإصلاح الهيكلي التي أملاها صندوق النقد على بلدان الجنوب. وقد كان منطق تلك الإملاءات هو أن التضخم في بلد من بلدان الجنوب سيتسبّب في ارتفاع مستوى الأسعار المحلية. وإن كان فارق التضخم مقارنة ببقية بلدان العالم مرتفعا، فإنّ أسعار البضائع المستوردة ستنخفض مقارنة بالأسعار المحلية، ممّا سيكثّف من استيرادها ويسبّب اختلال الميزان التجاري. المُسلَّمة في هذا المنطق هو أنّ التجارة حرّة ولا مجال لوجود حواجز ديوانية تقوم بتعديل الفوارق في الأسعار(2) (3)…

ما نسمعه من “تغويث” حول التضخم يدور في أغلب الأحيان حول صورة مواطنين يجرّون عربات ملآنة بالأوراق النقدية ليشتروا بعض الحاجيات من مغازة الحي. والرسالة الضمنية لمثل هذه الصورة هي أن أكبر المتضرّرين من التضخم هم الفئات الهشة والطبقات الوسطى والكادحون حيث سوف يمسّ من قدرتهم الشرائية وسيكونون هم أول المتضرّرين. هنا كذلك، نحن نعيش في عالم تمّ فيه فكّ الارتباط بين الجرايات ومستوى الأسعار (indexation des salaires sur les prix) وهو مطلب تاريخي للحركة النقابية تمّ تحقيقه طوال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية في بلدان الشمال وكان معمولا به في تونس حتى منتصف الثمانينات. لم يشكّل التضخم يوما إشكالا بالنسبة للطبقة المتوسطة قبل الدخول في نفق النيوليبرالية والإصلاحات. التضخم لا يمسّ إلا بمصالح فئتين اثنتين: أصحاب الثروات الكبرى اللذين يعيشون على ريع ثرواتهم (فوائد المدخرات والأسواق المالية) وممتلكاتهم وكذلك القطاع المالي الذي تكثر أرباحه عندما تكون نسب الفائدة أعلى من التضخم (4). والفئة الثانية هي فئة أقل استفادة ماليا من الأولى لكنها تعيش على فتات الأولى: كم من وزير مالية سابق ورئيس حكومة وإطارات عليا نجدها اليوم في مجالس إدارات مؤسسات مالية كبرى ومنظمات دولية (حكيم بن حمودة مثلا في مجلس إدارة بنك ABC، نزار يعيش في شركة عالمية للتدقيق والاستشارة، جلّول عيّاد كعضو مؤسس ورئيس شرفي للمجلس التونسي الافريقي للأعمال وغيرهم…) ويستغلون صفاتهم السابقة وكنّش عناوينهم ليضعوها في خدمة رأس المال؟ أخيرا، كلّ أحزاب وسياسيّي السلطة يعلمون أنّ لا بقاء لهم في السلطة دون مراعاة إملاءات صندوق النقد والمؤسسات الدولية. مؤشرات التضخم المرتفعة ستؤدّي حتما إلى الإضرار بمواقعهم في السلطة وبمسيرتهم المهنية.

<<لا توجد أية نظرية للتضخم يمكن أن نعتمد عليها>>

لنعد لما يردّده محافظ البنك المركزي من أنه كان يخشى على تونس من نسبة تضخم برقمين أو ثلاثة. وإن كان ذا وجاهة أن أن نخشى التضخم المفرط (Hyperinflation) لما يؤدّي من فقدان ثقة في العملة وفتح الأبواب أمام المتعاملين الشرسين داخل الاقتصاد لفرض نوعية معاملات تضرّ بأكثر الناس هشاشة، فإنه يجب الإقرار أن هذه الحالة من التضخم المفرط لم تحدث إلا قليلا في التاريخ المعاصر ولكلّ منها أسبابها البعيدة كلّ البعد عن الإنفاق العمومي المفرط. سنعود إلى موضوع التضخم المفرط لاحقا وسنتأمّل الآن موضوع التضخم المرتفع، أي التضخم الذي يتجاوز في أذهان الكهنوت نسبة 6%. فمثلا توجد دولة يضرب بها المثل في التطور والنمو، كانت فيما سبق في مصاف الدول “المتخلّفة” ثمّ لحقت شيئا فشيئا إلى أن صارت في عداد البلدان التي يمكن اعتبارها “متقدّمة”. شهدت هذه الدولة نسب تضخم بين 1960 و1979 لم تنزل تحت الـ6% إلا خلال سنة واحدة و كانت بين 6% و10% خلال ثلاثة سنوات وكان أغلب معدّلات تلك الفترة يدور حول نسبة 14% ويتجاوز أحيانا الـ20%. تلك الدولة صارت تُعتَبَر منذ الثمانينيّات من الدول التي أنجزت عملية اللحاق بالعالم المتقدّم. عن كوريا الجنوبية نتحدّث.

تطور نسبة التضخم في كوريا الجنوبية بين 1960 و2020 (أرقام البنك الدولي)

كوريا الجنوبية ليست فقط مثالا على أن التضخم ماهو إلا ظاهرة اقتصادية عادية داخل اقتصاد ما، وأنّه يجب فقط اتخاذ التدابير اللازمة عندما يبدو أنه سيتحوّل إلى تضخم مفرط. وهو ما نلاحظه حتى في الرسم البياني لتطور نسب التضخم في كوريا: كلّما اتخذ التضخم منحًى تصاعديا حادّا، تمّ إيقافه والرجوع إلى نسب معقولة: للدولة ما يكفي من الأدوات للسيطرة على التضخم. لكن ما يفعله الحاكمون اليوم أقرب منه لسائق لا يريد تجاوز سرعة الـ20 كيلومترا في الساعة في طريق سيارة.

من ناحية أخرى، إن دقّقنا النظر في نسب التضخم في تونس في العشر سنوات الأخيرة، نجد صعودا نسبيا في فترتين إثنتين: الأولى كانت في 2012 و2013، وتزامن ذلك الصعود في التضخم مع موجة التسيّب في مسالك التوزيع وسيطرة بعض اللوبيات عليها ممّا أدّى إلى تفشي مظاهر الاحتكار. أما الثانية وهي أكثر حدّة نسبيا فقد حصلت انطلاقا من سنة 2016 حتى 2018 وذلك تزامنا مع مرور قانون استقلالية البنك المركزي الذي ترك الدينار يتدحرج من مستوى 2,21  دينار للأورو الواحد غرة جانفي 2016 إلى 3,27 دينار مقابل الأورو الواحد نهاية 2018، أي نزول بـ47%. هذا التدحرج في قيمة الدينار أدّى مباشرة إلى ارتفاع أسعار المواد الأولية المورّدة على السوق المحلية من محروقات وموادّ غذائية وغيرها.

تطور نسبة التضخم في تونس بين 2005 و2020 (أرقام البنك الدولي)

ماذا كانت ردّة فعل البنك المركزي في تلك الفترة؟ رفّعت في نسبة الفائدة المديرية من 4,25% في فيفري 2017 إلى 7,75% في فيفري 2019 وذلك لتقليص تطوّر القروض الموزّعة للاقتصاد لتقليص تطوّر الكتلة النقدية… لكن هيهات. يقول الاقتصادي فاضل قبوب المختص في النظرية النقدية الحديثة أنّ <<محافظي البنوك المركزية يشبهون الأطفال الجالسين في الكرسي الخلفي السيارة ويمسكون بمقود بلاستيكي. يظنّون أنّهم هم اللذين يقودون السيارة يمنة ويسرة. لكن في الواقع فإن السيارة يقودها من يجلس في كرسي السياقة. ومن يجلس في كرسي السياقة؟ إنها منظمة الـOPEC والمتحكمون في الأسعار العالمية للغذاء (…) من يتحكّم في التضخم هم من يتحكّمون في الأسعار!>>. وبالفعل، حين نرى منحنيات  تطوّر الكتلة النقدية في البلاد من 2005 إلى 2020، فإنّنا يمكن أن نلاحظ العديد من النقاط:

نسب تطوّر الكتلة النقدية سنويا من 2005 إلى 2020

أوّلا، إن نظرنا من زاوية المعدّلات، فإن معدّلات نموّ الكتلة النقدية قبل 2010 كانت أكبر بصفة معتبرة ممّا بعده، بينما كان معدّل نسب التضخم أقل بكثير: في العشرية 2000-2010 كان معدّل التطور السنوي للكتلة النقدية يبلغ 10,7% بينما معدّل نسب التضخم 3%، في المقابل، في العشرية 2010-2020، بلغ معدّل التطور السنوي للكتلة النقدية 8% (أي أقل بـ20% من العشرية السابقة) وبلغ معدّل نسب التضخم السنوية 5% (أي أكثر بـ66%).

ثانيا، إن نظرنا من زاوية الأرقام السنوية، يمكن أن نلاحظ أكثر من ذلك: في الخمس سنوات السابقة لـ2010، كان التطور السنوي للكتلة النقدية أعلى من جميع سنوات العشرية الموالية – ما عدى 2017 – بينما كانت نسب التضخم خلال تلك الفترة أقل من جميع نسب التضخم في العشرية الموالية – ما عدى 2016.

ثالثا، من زاوية التطور السنوي، نرى أن صعود منحنى تطور نسبة الكتلة النقدية لا يتزامن وجوبا مع صعود منحنى التضخم، ونفس الشيء لنزول المنحنى. وهذا يؤكّده مُعامِل الترابط (coefficient de corrélation) بين نسب التضخم و نسب تطور الكتلة النقدية وهو -0,37. أي أنّ زيادة في الكتلة النقدية بنقطة مئوية يقابلها انخفاض في التضخم بـ0,37 نقطة مئوية. و حتى إن افترضنا أن مفعول تطوّر الكتلة النقدية سيكون مؤجَّلا بسنة، فإن مُعامِل الترابط سيكون -0,14… إن افترضنا وجوب أن نضع في الاعتبار ضرورة حدوث تطور في اتجاه ما لسنوات عديدة حتى يعطي مفعولا على التضخم، فيمكن أن نلاحظ هبوط نسب تطور الكتلة النقدية لخمسة سنوات متتالية من 2008 إلى 2013. لكن في المقابل ينقلب تطوّر نسب التضخم من انخفاض في الثلاثة سنوات الأولى إلى ارتفاع مفاجئ لسنتين متتاليتين من 2011 إلى 2013 لتصل إلى 5,3%، وهي وقتها أعلى نسبة تضخم عرفتها البلاد منذ منتصف التسعينات.

كملخّص يمكن أن نقول مثل دانيال تارولّو (Daniel Tarullo): <<لا توجد أية نظرية حول التضخم يمكن ان نعتمد عليها>>!

التضخم المفرط ظاهرة نادرة

يتحدّث راندال راي (Randall Wray) وهو من آباء مدرسة النظرية النقدية الحديثة (MMT) عن ظاهرة التضخم المفرط في [Wra] ويستخلص أمرين. أولا، حالات التضخم المفرط لا تأتي كنتيجة عادية متوقّعة من سياسة حكومة ما مهما كان تهوّرها على المستوى المالي. ثانيا، توجد خصائص تشترك فيها أغلب حالات التضخم المفرط: <<تقلّبات اجتماعية و سياسية، حروب اهلية، تدهور في قدرات الانتاج (يمكن أن ينتج عن حالة حرب)، حكومة ضعيفة (أي غير قادرة على رفع الضرائب) و ديون تُحَدَّدُ قيمتها بالعملة الخارجية أو بالذهب>>. أبرز مثالين في العالم المعاصر للتضخم المفرط كانا في دولة الزمبابوي وجمهورية فايمار الألمانية.

بالنسبة للتضخم الحاصل في زيمبابوي، يفسّره راندال راي بعامليْن إثنين: التقلّبات الاجتماعية والسياسية التي شهدها هذا البلد والتي أدّت إلى انخفاض الناتج الداخلي الخام بـ40% من ناحية، ومن ناحية أخرى محاولة “إصلاح زراعي” قامت بها الحكومة أدّت إلى السقوط الحادّ في الانتاج الفلاحي. وجدت الدولة إذًا نفسها أمام انحدار كبير في الانتاج وخاصة الموادّ الغذائية. وهنا يتدخّل أقدم قانون اقتصادي لتحديد الأسعار أي قانون العرض والطلب: قليل من المنتوجات والكثير من الطلب عليها، ممّا يؤدّي حتما إلى ارتفاع الأسعار.

أمّا عن التضخم المفرط الذي شهدته جمهورية فايمار الألمانية فقد كان سببه الأول التعويضات التي حُكم بها على الألمان إثر هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى. علاوة على أنّ الجهاز الانتاجي شهد أضرارا جسيمة نتيجة للحرب. فإنّ أكثر البضاعة التي كان يتم انتاجها كانت توجّه للتصدير من أجل الحصول على الذهب اللازم لدفع تعويضات الحرب المُشطّة، وبذلك وجدت ألمانيا نفسها في حالة غير مفاجئة من الاختلال بين العرض والطلب. كذلك، يشير اندريه أورليان (André Orléan) وميشال ألييتّا (Michel Aglietta) في [AgOr] إلى الدور الهام الذي لعبته رؤوس الأموال الألمانية خلال تلك الفترة. اذ ساهم الرأسماليون من ناحية في انطلاق الأزمة بعدم قبولهم الخضوع إلى ضريبة على الثروة تُعين الدولة الألمانية على دفع التعويضات، ممّا عمّق أزمة المالية العمومية الألمانية ودفعها إلى الاقتراض المفرط، وساهموا كذلك في تعميق اختلال ميزان الدفوعات بتهريبهم لرساميلهم حين أحسّوا باقتراب الأزمة. وهو ما أدّى إلى دخول ألمانيا في حالة تضخم مرتفع. ثمّ دفعوا بعد ذلك في صيف 1922 الوضع إلى التفاقم بنشاطات المضاربة التي قاموا بها، وهو ما أدّى إلى لجوئهم إلى المنظومة البنكية وسحب مدخّراتهم. في نفس الوقت قبلت البنوك طوعا بتلك الممارسة ومن ورائهم البنك المركزي الألماني الذي لم يضع حدّا للمضاربة بل أغمض عينيه تاركا رؤوس الأموال تغنم في أمان. فقد وصلت نسبة سندات الخواصّ في موازنة البنك المركزي إلى 60% في مارس 1923 مقابل 40% لسندات الدولة بينما كانت 1% فقط في جوان 1922. الخلاصة: وجود مديونية خارجية مرتفعة مقترنة بطبقة رأسمالية جشعة تهرّب أموالها إلى الخارج هو كذلك عامل مواتٍ لحدوث حالة التضخم المفرط !!

لمن يخشون التضخم المفرط نقول إذا: حقّقوا السيادة الغذائية واكبحوا جماح جشع الرأسماليين ونامو هانئين!

الخوف من التضخم أو الخوف على الأرواح؟

ها قد ناقشنا أسباب التضخم. لكن الأصل في الأمور زمن الجائحة هو أن نخاف على الأرواح قبل أن نخاف من التضخم. فحتى في أتعس وضعيات التضخم المفرًط لم نسمع بأنها كانت مثلا سببا في المجاعات. نسمع هنا وهناك تغويثا من السيناريو الفينيزويلي ويا ليتنا اليوم نعيش السيناريو الفينيزويلي: دولة تحت الحصار الأمريكي والأمروب(وهو الذي سبّب حالة التضخم المفرط) لكن 128 وفاة على كل 100.000 ساكن بينما سجلت تونس 1692 وفاة على كل 100.000 ساكن (5) ونسب تلقيح مشابهة لنا -10% من السكان تلقّوا الجرعة الأولى بتاريخ 12 جويلية (6).

إنه العمى الإيديولوجي بعينه ألاّ نواجه خطرا آنيا محدقا بحياة الناس وكرامتهم بعنوان خطر هلامي نحن بعيدون عنه كل البعد. ومع ذلك إن تحقق لن يحصد الأرواح مثلما حدث اليوم في تونس! إنها المصالح المالية لكبار رؤوس الأموال. إنه العمى الإيديولوجي لموظفي البنك المركزي الذين ديْدنهم الانضباط للنظريات السائدة لدى المؤسسات الدولية والخروج في ثوب التلاميذ النجباء علّهم يجدون موطئ قدم في إحداها بعد نهاية عهدتهم؛ إنه العمى الطبقي لأصحاب قرار لهم ضمانة العلاج في المستشفى العسكري ولهم حرية السهر في نُزُل المناطق السياحية زمن حظر التجوال.


المراجع:

[KMH] Khan MS, Montiel P., Haque NU., Adjustment with Growth: Relating the Analytical Approaches of the World Bank and the IMF, The World Bank Discussion Papers, 1986.

[Wra] Wray L. Randall, Modern Monetary Theory – A Primer on Macroeconomics for Sovereign Monetary Systems, Palgrave MacMillan UK (2015).

[AgOr] Aglietta Michel, Orléan André, La Violence de la Monnaie, Presses Universitaires de France (1980).


  1. أي كم من مرّة يتمّ تبادل دينار واحد من يدإلى بد طيلة سنة كاملة.

2. أنظر مثلا الإطار النظري لبرامج الإصلاح الهيكلي في [KMH]

3. نلاحظ هنا كذلك أن العامل المحدد في سياساتنا الداخلية هو ميزان الدفوعات: سياساتنا خاضعة لارتهاننا للعملة الصعبة. لكن لن نجد أثرا لهذه الفكرة لدى الكهنوت، بل فقط بعض الطلاسم أحيانا حول علاقة التضخم بنزول قيمة الدينار (غول آخر يمكن الحديث عنه لاحقا).

4. نتحدّث هنا عن نسبة الفائدة الحقيقية، أي نسبة الفائدة المتعامل بها يُطرح منها نسبة التضخم.

5. المصدر: https://www.worldometers.info/coronavirus بتاريخ 3 أوت 2021. مع العلم أن مؤشر النجاعة الإحصائية في 2019 هو 64\100 في تونس و43\100 في فينيزويلا حسب أرقام البنك الدولي.

6. المصدر: https://ourworldindata.org/covid-vaccinations?country=OWID_WRL 

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !