إغراق الميزانية ثمّ الامتناع عن انقاذها… بعض ممّا جنته علينا “استقلالية البنك المركزي”!

بقلم وليد بسباس

باحث شيوعي

عرفت تونس خلال الأسبوع الأخير تأخيرا في سداد أجور العاملين بالوظيفة العمومية وصل حتى الأسبوع. وقد تمّ تفسير ذلك بنفاذ السيولة في خزينة الدولة إثر سداد القرض الرقاعي الذي أصدرته الدولة التونسية في جويلية 2014 بقيمة 500 مليون دولار. بطبيعة الحال، مثل كل الأخبار الاقتصادية المقدّمة من الخبراء والإعلاميين، فإن تلك الجملة تكتفي بذاتها. الصورة واضحة: قمنا بتسديد دين فنفذت الأموال من خزينة الدولة فلم نستطع خلاص الأجور في موعدها المعتاد. كذلك لا نقاش في سداد الديون! سداد الدين من الإخلاص في المعاملات… أما سداد الأجور، فالكلّ يعلم أن الوظيفة العمومية عبء على <<دافع الضرائب>> و معطّلة للإنتاج! وهكذا يكون الخبراء والصحفيون المختصون قد قدّموا المعلومة وتحليل المعلومة بصور يقبلها الجميع: فالكلّ يعلم أن الدولة تُدار مثلما تُدار شؤون المنزل!

لكن الفارق بين الحقيقة الاقتصادية ذات الحد الأدنى من الموضوعية والمعرفة الاقتصادية العفوية التي نسمعها لدى الكرونيكورات والخبراء هو نفسه الذي نجده بين دراسة الفيزياء والإيقاظ العلمي. ما يقدّم لنا على أساس أنه معلومة اقتصادية فيه من التسطيح والتبسيط الكثير. ويكون التسطيح في اختصار بعض الحلقات السببية أحيانا وأحيانا أخرى بإخراج بعض المكوّنات من الصورة. يتجسّد التسطيح هنا في موضوع الحال في إخراج البنك المركزي من الصورة واعتباره لاعبا هامشيا. سمعنا في المدة الأخيرة مرّات عديدة عن تدخل البنك المركزي في السياسات العمومية بمنطق الخبير المستقل الناصح والمؤنّب أحيانا، لكننا لا نراه في الصورة حين الأزمات: شريك في القرار وغائب في تحمل المسؤوليات! هذه الأسطر ستكون محاولة لإعادة البنك المركزي إلى مركز الصورة: في هذه الأزمة بالذات، لعب البنك المركزي دورا محوريّا: مضاعفة قيمة الدين من 858 مليون دينار إلى 1400 مليون دينار ثم الامتناع عن دعم الميزانية حين حان وقت سداد الأجور.

استقلالية البنك المركزي: من هنا انطلقت الحكاية!

صدر بداية سنة 2016  القانون عدد 35 المتعلق بضبط النظام الأساسي للبنك المركزي التونسي ([1]) والذي عُرف بقانون استقلالية البنك المركزي، حيث كرّس هذا القانون الاستقلالية المطلقة تقريبا للبنك المركزي عن الحكومة. تتجلى هذه الاستقلالية في جانبين أساسيين: في تحديد سعر الصرف وفي السياسة المالية للدولة. فيما يخص سعر الصرف، رفع البنك المركزي يده عن التدخل في سوق الصرف لتعديل قيمة الدينار. ومن ناحية السياسة المالية يحدّد البنك المركزي نسبة الفائدة المديرية بناء على معطى وحيد: مقاومة التضخم. وهذا دون أي اعتبار لسياسة الدولة، إن أرادت تعديل نسب الفائدة لتشجيع الاستثمار مثلا. كذلك يكون المركزي المعدِّل الوحيد للساحة البنكية بتحديد المؤشرات (نسبة الاحتياطي الإجباري للبنوك ، تسقيف نسبة القروض على الودائع، تحديد نسبة سندات الخزينة من جملة السندات التي يقوم بإعادة تمويلها… إلخ) وتذهب هذه المؤشرات في السنوات الأخيرة بصفة عامة في اتجاه تنفيذ إملاءات صندوق النقد الدولي بالترفيع في نسبة الفائدة المديرية وكذلك في اتجاه تقليص تطور القروض المسداة للاقتصاد، وبالأخصّ منها المسداة إلى الدولة.

إغراق الدينار ثم إغراق الميزانية أو كيف تضاعف مبلغ القرض؟

منذ مرور قانون استقلالية البنك المركزي، شهد الدينار نزولا حادّا في سعره مقابل عملات التبادل الأساسية (الدولار واليورو) -أنظر الرسم البياني أدناه ([2]) – وذلك إثر تراجع البنك المركزي عن التدخل في سوق الصرف لتفادي الرجّات في سعر الصرف. ولم يكن هذا النزول مرة واحدة بل كان في شكل رجّات حادّة متتالية فقد على إثرها الدينار التونسي أكثر من 50% من قيمته تجاه العملتين في مدة لا تتجاوز الثلاث سنوات.  يمكن أن يقول البعض أنّ الدينار بطبعه كان سيتّجه نحو سعره “الحقيقي” الذي يحدّده سوق الصرف. هنا نجيب على مستويين: حركة النزول الحادّ تغذّي نفسها بنفسها بما أن العملة تصبح موضوع مضاربة ويقوم أغلب المتعاملين بشراء ما تيسّر من العملة الأجنبية قبل مزيد ارتفاع ثمنها. أما المستوى الثاني فهو في الإطار النظري لهاته المقولة: هل يوجد شيء يسمّى “حقيقة الأسعار”؟   وإن وجدت تلك “الحقيقة”، فما الذي يجعل السوق مؤهّلا بأن يكون الناطق بها؟

تطور صرف الدينار مقابل اليورو والدولار خلال السنوات الأخيرة

هذا ما أثّر مباشرة على القرض الرقاعي على الأسواق العالمية. بقطع النظر عن نسبة الفائدة المنخفضة نسبيا لهذا القرض، فقد يبدو أنّنا أرجعنا المبلغ الذي اقترضناه (أي 500 مليون دولار) بنفسه. إلا أنّ هذا المبلغ سيُقتطع من ميزانية الدولة ويتم إذا احتسابه بالدينار. وعوض أن تسدّد الدولة التونسية مبلغ 858 مليون دينار ([3]) -أي قيمة القرض بالدينار في جويلية 2014-، أجبرت الدولة التونسية على سداد مبلغا يناهز 1400 مليون دينار .

هذا الارتفاع في المديونية لا يهم فقط هذا القرض الرقاعي: ففي دراسة قام بها المرصد التونسي للاقتصاد ([4]) نقرا أنّ في 2014 و2015 كان عجز الميزانية السبب الأول في ارتفاع المديونية، لكن انطلاقا من سنة 2016 كان تدهور سعر صرف الدينار هو السبب الأول في زيادة المديونية. فيكفي أن ننظر إلى الأرقام: في 2015، ساهم نزول سعر الصرف بـ855 مليون دينار في زيادة المديونية. في 2016 كانت المساهمة بـ3936 مليون دينار وفي 2018 كانت بـ9464 مليون دينار مع بقاء مساهمة عجز الميزانية في ارتفاع المديونية قارا طيلة تلك الفترة (بين 2000 و3000 مليون دينار سنويا).

لا يوجد أيّ ركن من ميزانية الدولة سجّل تدهورا مماثلا للمديونية المتأتية من انحدار سعر الصرف، أو كيف يكون البنك المركزي عبئًا على الميزانية!

خلاص الديْن لم يؤثر على الميزانية

قبل أن نواصل، يجب أن نشير إلى أن خلاص الديْن لم يؤثر بملّيم واحد على ميزانية الدولة لكي يدفعها إلى عدم تسديد أجور الموظفين. فقد قامت الدولة التونسية باقتراض كامل المبلغ المطلوب من البنوك التونسية لكي تسدّد ذلك الديْن. اذ اقترضت الدولة 1400 مليون دينار من السوق المالية الداخلية (أي بالدينار) وقامت مباشرة بتحويله إلى الدائنين. وهو ما أدّى من ناحية إلى انخفاض الاحتياطي التونسي من العملة الصعبة بما يعادل تسعة أيام من 138 إلى 129 يوم توريد. كما يشير عز الدين سعيدان أن البنك المركزي قام بشراء القرض الداخلي من البنوك المحلية في ما يسمّى عملية إعادة تمويل: أي أن البنك المركزي أقرض البنوك المحلية في المبلغ الذي أقرضوه للدولة التونسية.

لِمَ نقدّم هاته التفاصيل؟ فقط لنرى نتائج العملية: الدولة التونسية بقيت مُدانة بمبلغ 1400 مليون دينار لكن بسعر فائدة أرفع، البنوك المحلية لم تخسر شيئا لكن ستقبض فارق النسبة بين نسبة الإقراض بـ6,52% ونسبة إعادة التمويل التي قام بها البنك المركزي. البنك المركزي لم يخسر شيئا بما أنه لا يمكن أن نتحدث عن خسائر للبنك المركزي، فهو السلطة النقدية التي لها صلاحية إصدار العملة. والدولة التونسية فقدت ما يعادل تسعة أيام توريد من احتياطي العملة الصعبة.

تأخير الأجور لا علاقة له بالقرض الرقاعي بل بسياسة التقشف

إذا نرى أنّ سداد القرض الرقاعي للسوق المالية الدولية لم يؤثر ولو بملّيم واحد على المبلغ الموجود بميزانية الدولة. ما الذي منع الدولة إذا من سداد الأجور؟ كلّ المؤشرات تدلّ أن الدولة التونسية مُنعت من مزيد الاقتراض من السوق المحلية. اذ يُعَدُّ أمرًا عاديًا بالنسبة لأي دولة أن تقترض من السوق المحلية وتكتفي بسداد نسب الفائدة، وحين تأتي لحظة سداد أصل الدين تقوم بخلاصه أحيانا وأحيانا أخرى بإعادة اقتراض نفس المبلغ، وهي عملية تسمّى بلفّ القروض بعضها ببعض -L’état fait rouler sa dette-. لكن المؤشرات تدل أن الدولة مُنعت من ذلك بطريقة أو بأخرى. ففي قانون الميزانية لسنة 2021، تمّت برمجة موارد اقتراض داخلي بقيمة 5580 مليون دينار أُنجزَ منها 3856 مليون دينار حسب تقرير إنجاز الميزانية لوزارة المالية حتى موفى ماي 2021. إن أضفنا إليها مبلغ الـ1400 مليون دينار السالف الذكر، فنرى أننا وصلنا إلى سقف الاقتراض الذي تم برمجته.

لكن إن دققنا في أرقام السنة الفارطة، نرى أن الدولة التونسية قد اقترضت 11126 مليون دينار من السوق الداخلية، فما الذي يمنعها من ذلك في هذه السنة الصعبة! إن زدنا التدقيق في الأرقام، نرى أن إجمالي الاقتراض (الداخلي والخارجي) بالنسبة لما تم إنجازه في 2020 وما تمّ برمجته لسنة 2021 هو نفسه تقريبا 18000 مليون دينار. يعني ذلك أنه سيتمّ التعويل أكثر على الاقتراض الخارجي هذه السنة. وتجاوز هذا السقف يخلق مزيدا من العجز في الميزانية وهو من المحرّمات. ما منع الدولة من خلاص أجور الموظفين لم يكن إذًا خلاص القرض الرقاعي. لم يكن كذلك نقص السيولة في السوق الداخلية: فقد تكفل البنك المركزي بإعادة تمويل البنوك من ناحية، ومن ناحية أخرى لم تصل الدولة إلى نصف ما اقترضته السنة الفارطة على السوق الداخلية. ما منع الدولة من خلاص الأجور في وقتها هو ببساطة سياسة التقشف!

لا تسهيلات للدولة! نعم لإنقاذ الخواص!

إن تعمّقنا في تاريخ معاملات الدولة مع البنك المركزي، نرى أنه كان من الممكن في السابق أن يقدّم تسهيلات لخزينة الدولة، بالضبط مثلما يسمح أيّ بنك تجاري لحريف له أن “يدخل في الرُوج”. ففي أوّل نصّ منظّم لنشاط البنك المركزي، والصادر سنة 1958 ([5])، نقرأ في الفصل 50 أنّه “يمكن للبنك المركزي أن يمنح الخزينة اعتمادات مكشوفة على الحساب الجاري في حدود مبلغ يساوي أقصاه 5% من المقابيض الاعتيادية للدولة (…) ولا يمكن أن تتجاوز مدتها الجملية 240 يوما متوالية أو غير متوالية أثناء سنة كاملة وذلك قصد تحقيق انتظام سير الخزينة الدولية والقيام بالنفقات العمومية بصورة عادية”. أي كان يُسمح للدولة أن يكون حسابها سلبيا (أي “في الروج”) طيلة ثمانية أشهر كاملة خلال السنة الواحدة. لكن هذا الفصل ألغي صراحة بموجب قانون صدر سنة 2006 ([6]). أما قانون 2016 فهو ينص صراحة في الفقرة الرابعة للفصل 25 منه أنّه “لا يمكن للبنك المركزي أن يمنح لفائدة الخزينة العامة للدولة تسهيلات في شكل كشوفات أو قروض أو أن يقتني بصفة مباشرة سندات تصدرها الدولة”. أي أنّ الباب قد أغلق تمامًا أمام إمكانية أن يُسند البنك المركزي الدولة حتى في أصعب الفترات. كلّ ذلك من أجل عيون سياسة التقشف التي تفرض على الدولة ألاّ تقوم بأي “تجاوز” على مداخيلها الاعتيادية.

والغريب في الأمر أنه في نفس ذلك القانون في فصله التاسع عشر يُسمح للبنك المركزي “أن يمنح مساعدات مالية لفائدة البنوك والمؤسسات التي تدهورت ملاءتها وتمثل إمكانية إفلاسها خطرا على استقرار النظام المالي. ويستوجب منح هذه المساعدة الحصول على ضمان الدولة (…)”. أي ما يُمنع عن الدولة يُسمح به للمؤسسات الخاصّة. أيّ تنافس حرّ ونزيه هذا؟ أي استقلالية هذه؟ هي فعلا استقلالية عن الدولة، لكنها ليست مستقلة عن مصالح أصحاب المال! ثم ألا يمثّل تأخير في سداد أجر أحدهم لمدة أسبوع خطرا على ميزانيته وعلى قدرته على توفير المأكل له ولذويه؟ أليس هذا انتهاكا لشخصه ولكرامته؟ 

هذا بعض ممّا جنته استقلالية البنك المركزي علينا!

هذا إذا غيض من فيض مخلّفات استقلالية البنك المركزي. يُغرق الميزانية فيما لا ذنب لها فيه ولا يبالي بأن يَغرُق الإنسان في مأزق مالي طيلة أسبوع إن لم يُنتَهك فيه معاشه تُنتهَك فيه كرامته. وفي نفس الوقت لا تتوانى البنوك عن اقتطاع ما تيسّر من قرض ذلك الموظف. ويبقى الهمّ الوحيد للبنك المركزي هو مقاومة التضخم. تضخم لا نشتمّ له رائحة لكن يُتَعلّل به كي لا يقع دعم ميزانية الدولة. ويتمّ حينئذ استحضار صور كاريكاتورية من هنا وهناك: فتارة نسمع عن السيناريو الفينيزويلي وطورا عن “طبع العملة” للاستهزاء والتحقير من كلّ البدائل الممكنة لسياسة التقشف. فحتّى عز الدين سعيدان -الخبير الاقتصادي الذي لا يمكن لأحد أن يتهمه بالشيوعية- لام على البنك المركزي وقوفه موقف الحياد ممّا يحدث على الساحة الاقتصادية واصفا ذلك بالوقوف على الربوة ([7]).

خلاصة القول: تحت غطاء الاستقلالية، البنك المركزي هو الراعي الأول لسياسة التقشف والساهر على تنفيذ الإملاءات ولتسقط الأرواح فداء لنسب التضخم والتوازنات الكبرى!


[1] قانون عدد 35 لسنة 2016 مؤرخ في 25 أفريل 2016 يتعلق بضبط النظام الأساسي للبنك المركزي التونسي.

[2] مصدر الرسم البياني: تقرير البنك المركزي لسنة 2018 في الصفحة 79.

[3] أنظر تقرير البنك المركزي التونسي لسنة 2014 في الصفحة 61.

[4] <<La dévaluation du Dinar fait exploser la dette publique.>>, Data Analysis, Observatoire Tunisien de l’économie, 2019.

[5] قانون عدد 90 لسنة 1958 مؤرخ في 19 سبتمبر 1958 يتضمن إنشاء وتنظيم البنك المركزي التونسي.

[6] قانون عدد 26 لسنة 2006 مؤرخ في 15 ماي 2006 يتعلق بإنقاح وإتمام القانون عدد 90 لسنة 1958 المؤرخ في 19 سبتمبر 1958 المتعلق بإنشاء وتنظيم البنك المركزي التونسي وخاصة الفصل الثاني منه.

[7] نفس المداخلة بالإذاعة الوطنية.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !