رأي | حول هجرة المتفوّقين إلى أوروبا

بقلم سالم بوحجر

مستشار في تطوير البرمجيات، منحاز لعالم الجنوب وكل من يقاوم

انطلق النقاش بعد خروج نتائج الباكالوريا مثل كلّ سنة في الحيز العام في تونس. واتجه الى محاولة فهم المؤشرات والنسب بطريقة توليدية تستخرج تفسيرات غريبة وعجيبة لإشباع نزعات ثقافوية ولتفسير تفاوت نسب النجاح بين الذكور والإناث مثلا. هذا فيما اهتم جزء آخر من النقاش بتصريحات بعض الناجحين الجدد ورغبتهم في الهجرة الى القارة الاوروبية لاستئناف الدراسة وبناء الذات والمسار المهني في القارة العجوز، وتراوحت التفاعلات بين المرحّب والمتفهم والناقد اللاذع.

نحاول في هذا المقال أن نفهم بعضًا من جوانب موضوع الهجرة، وخاصة منه هجرة الشباب في سياقنا. أي في واقع بلادنا في اقليمها المغاربي والعربي وفي الجنوب العالمي بصفة عامة.

بالرجوع الى المسار التاريخي للموضوع نلاحظ أنّ أهمّ محطات الموضوع المدروس اقترنت بأحداث المائة سنة الماضية. اذ يمكن من خلال الدرس أن نستنتج ثلاث موجات هجرة رئيسيّة:

الموجة الأولى كانت مرتبطة أساسا بالحقبة الاستعمارية المباشرة، أي بمفعول علاقة استعمارية تاريخية. اذ تمكنت مثلا أعداد كبيرة من الهنود من البقاء في بريطانيا بعدما حارب أباءهم وأفراد عائلاتهم تحت راية الإمبراطورية التي كانت “لا تغيب عنها الشمس”، أو كذلك الجزائريين والتونسيين الذين حاربوا دفاعا عن المصالح الاستعمارية الفرنسية في فيتنام وغيرها.

أمّا الموجة الثانية فارتبطت بظروف ما بعد الحرب العالمية الثانية. فقد شهدت القارة الأوروبية تدميرا عظيما، وترافق مشروع مارشال ومخرجاته بتفعيل خيار اتفقت عليه النخب الأوروبية لتسريع عملية إعادة البناء في أسرع وقت ممكن. وتمّ ذلك عبر استيراد أعداد كبيرة من اليد العاملة الرخيصة من دول الجنوب. وفي هذا الإطار انتقل آلاف التونسيين بطريقة شبه قسرية تحت سرديات “ضرورة جلب العملة الصعبة ” التي كان يسوقها الخطاب السائد للنظام البورڨيبي، وهي العملية التي انتقدها القنان التونسي الملتزم الهادي ڨلّة في أغنيته “بابور زمّر”.

أما الموجة الثالثة فهي أحدث بعض الشيء، ويمكن أن نقول أنها مرتبطة بالفترة المعاصرة التي تشهد تحوّل القارة الأوروبية إلى قارة عجوز ديموغرافيا وينقلب فيها الهرم السكاني باطراد. وهو ما دفع الأوروبيين إلى اعتماد سياسة تسهيل الهجرة (بتفاوت حسب الدول، وباستهداف قطاعات معينة من الشباب كالكوادر في حالات معينة …) لضمان وجود يد عاملة تنافسية (أي رخيصة الأجرة) وضمان عدم إفلاس الصناديق الاجتماعية وحرصا على العديد من التوازنات الأخرى.

من هنا يمكن أن نفهم أنّ الهجرة إلى الميتروبول الأوروبي بصورها الحديثة كانت ملاصقة ومتوازية دائما مع تطوّر الوضع السياسي والاقتصادي في المركز الرأسمالي. وتحديدا في جزءه الأوروبي ربطًا بالموضوع الذي ندرسه. وبما أنّ العلاقة بين هذا المركز ودول الجنوب العالمي علاقة تبعيّة قائمة على جانب “نهبويّ”: تكون فيها الأطراف في آن واحد مصدرًا للثروات والمواد الأولية الخام وسوقًا واسعة لتصريف منتوجات المركز وخدماته، فلم تنتج هذه التبعية سوى علاقة تبعيّة مباشرة أيضا في حركة الأفراد والناس بين الضفتين.

تتميز هذه الحركة أيضا بخطاب سائد يتشكل بموازاتها وعلى ضفافها. وهو يخصّ ويستهدف فئة النجباء دراسيا الذين يمكن أن يصبحوا كوادر نوعيّة (مهندسين، مستشارين، أطبّاء، باحثين والخ …) وعادة ما يتسم هذا الخطاب بسطحية شديدة واستغباء لعقل وقيمة هذا الكادر وكرامته الإنسانية. اذ يمكن أن يجد المتخصص في تكنولوجيا المعلومات والبرمجيات في رسائله الالكترونية رسالة من إحدى شركات ” التسفير القانوني” للشباب الكوادر تحاول أن تغريه للعمل بفرنسا بجمل من قبيل :« هل تريد أن تلتقط “سيلفي” مع برج إيفل؟ هل تريد تتجول بين محلات أجْوَد الماركات العالمية في الشانزيلزيه ؟ » و غيرها من الجمل الإغرائية التافهة التي تستغل الثقافة الإستهلاكية لدى البعض وتوجهّها.

ويحفر هذا الخطاب المرافق أكثر في قعر الرداءة، فتخرج علينا كاتبة دولة سابقة للشباب (منتمية إلى حزب أفاق تونس) لتقترح في تدوينة لها: تغييرات في منظومة التعليم الجامعي التونسية يقوم بموجبها الجانب الأوروبي بتقديم طلبيّة بعدد المهندسين والأطباء المرغوب في تهجيرهم وتشغيلهم، ويقوم النظام التعليمي التونسي في المقابل “بإنتاج” هذه الطلبية وتقديمها لأوروبا !!! لعلّ المتحدثة نسيت أن تخبرنا عن طريقة تعليب هذا المنتوج قبل أن نرسله إلى المركز الأوروبي.

ينمّ هذا الخطاب، الساعي للكسب المادي من خلال ظاهرة هجرة الكوادر أو تأثّرا بخلفيّته الثقافية الأورومركزيّة، عن ولع المغلوب بالغالب وتسليمٍ صاحبه بعدم إمكانية كسر علاقة التبعية. وهو يترافق للأسف مع سياسة فاشلة للدولة تقوم على دعم المتفوقين في الباكالوريا ودفعهم دفعا الى الدراسة في الجامعات الأجنبية وتقديم منح من المال العام في هذا التمشي. الفكرة الأساسية من الموضوع كانت إشباع الطالب التونسي المتفوق بزاد معرفي وعلمي عالٍ في محاولة لجلبها وتوطينها بعد عودته. لكن للأسف على أرض الواقع، بعد سنوات من الدراسة يتمكن اغلب هؤلاء الطلبة من نيل وظيفة في إحدى الشركات الأوروبية. وبذلك يكون الشعب التونسي قد كوّن عبر أموال ضرائبه كادرًا مناسبًا ونوعيًا للنسيج الإقتصادي الأوروبي في أحسن الحالات. لأنّه في حالات أسوأ يرجع البعض من هؤلاء إلى البلاد من أجل لعب دور «الفتيان الذهبيّين»، ولنا في المديرة السابقة لشركة الخطوط التونسية خير مثال …

تقوم منظومة الهيمنة الدولية على ميكانيزمات عنيفة وحادّة. فالرخاء والتنمية في جزء من العالم ينعكس فقرًا وحروبًا وتدميرًا و”عكس التنمية” في أجزاء أخرى منه، كما يقول المفكر الإقتصادي العربي علي القادري. فهي تعامل الأطراف المقاومة والرافضة لسياساتها من خلال الغزو والحروب والحصار والتجويع، فيما تعامل الأطراف المتذيلة والمهادنة في ركابها (تونس، المغرب، الأردن، مصر بعد كامب ديفيد وتصفية مكتسبات الفترة الناصرية…) بالدفع نحو تجويف الاقتصاد والحدّ من الإنفاق وتدهور الخدمات الاجتماعية عبر برامج ” الإصلاح الهيكلي ” على يد المؤسسات المالية الدولية، الذراع المالية لمنظومة الهيمنة.

نحاول هنا تسليط الضوء على الظاهرة ووضعها في سياقها التاريخي والسياسي، ولا نجرّم من خلال هذا أيّ شخص ولا ندعو أحدًا أو نمنعه من التنقل واختيار المسار المهني المناسب له. ولكنّنا نحاول في نفس الوقت أن ننقد نظريات الخلاص الفردي، الإبن المدلّل والشرعي لتداعيات الهيمنة على شعوبنا، ونخاطب من خلال هؤلاء هذا المنطق والأحلام والآمال التي يبنيها في عقل معتنقيه. فأوروبا اليوم غير قادرة على الحفاظ على أنماط العيش المغرية التي ضمنتها سابقا بسبب الأزمات الهيكلية العميقة في بنيتها الإقتصادية الحالية وعدم قدرة اقتصادها على إنتاج قيم (قيم هنا بمعنى القيمة المنجرّة عن الإنتاج وليس القيمة الأخلاقية) وانتقال المركز الرأسمالي الصناعي إلى الشرق، والأزمات الاجتماعية الأخيرة في أوروبا خير دليل. كما أنّ خطاب «التعددية الثقافية والإدماج» لم يكن صادرًا عن أخلاق عالية أو مُثُل كبرى، بل كان ركيزة إيديولوجية وثقافية لتشغيل ملايين من دول الجنوب في المركز ضمانا للمصالح الضرورية والمباشرة للميتروبول الأوروبي.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !