قيس سعيّد: تخبّط الإصلاحي الذي يحكي انتفاخًا صولة الثوري


“لقد كان الهدف من الترشّح، ولا يزال، هو استكمال الانفجار الثوري في احترام تامّ للمؤسّسات”.


هذه الجملة لوحدها تلخّص حالة التخبّط التي يعيشها قيس سعيّد والمحيطون به منذ وصوله للسلطة.
وفي نفس السياق يندرج تركيزه، خلال لقائه أمس مع رؤساء الحكومات السابقة (وكلّهم عناوين للفشل والانقلاب على انتفاضة 17 ديسمبر)، على البدء بتغييرات في النظام الانتخابي والدستور دون الحديث عن لبّ الموضوع، وهو السياسات الاقتصادية والخارجيّة المعادية لمصالح أغلبية الشعب والمفرّطة في سيادة البلاد.


هذا التخبّط في تَمثُّل جوهر المسائل، يعود بالأساس للوعي البرجوازي الصغير المحافظ للرجل. فهو ابن الطبقة الوسطى التي نشأت في أحضان الدولة البورقيبية، واستفادت من سياسات أحمد بن صالح وما خلقته من “مصعد اجتماعي” كان متاحًا في تلك الفترة قبل الاختناق المتوقّع لـ “سوق الشغل” في ظلّ المنظومة الرأسمالية التابعة. وقبل المضيّ بعيدًا منذ عهد بن علي في انتهاج سياسات دمّرت الاقتصاد المنتج وقدرة الدولة على إدارته وتوسيع طاقته التشغيليّة.


ولذلك ظلّ سعيّد ومن معه يروّجون لصورة السياسي نظيف اليد، النزيه، المستقلّ عن “الأحزاب واللوبيات”، البسيط، القريب من الناس، المكتفي بجرايته كأستاذ في الجامعة (طبعا قبل تمتعه بامتيازات الرئاسة) والخ. وهو بذلك يستعيد الصورة المثالية المتخيّلة لـ”بناة دولة الاستقلال” الذين تميّز البعض منهم (كما يروي التاريخ الرسمي) باجتهادهم ومثابرتهم ونزاهتهم ونكرانهم للذات والخ. ويذهب به الأمر بعيدًا أحيانًا إلى حدّ استرجاع بعض مفردات ومواقف الخطاب البورقيبي المكرّس للتبعيّة نحو المراكز الاستعمارية (مثل احتفائه بالموقف المشين لبورقيبة من مقاطعة الدول العربية لألمانيا الغربية اثر اعترافها بالكيان الصهيوني، أو ولعه الغريب بالفرنكفونية واقتناعه بـ”صداقة فرنسا”، أو زيارته لقبر الخائن أنور السادات).
هذا التخبّط الظاهر هو في الحقيقة انعكاس منطقي لرؤية اصلاحية تتوهّم أنّها ثوريّة (ونجدها عند مختلف الأحزاب الليبرالية المعبّرة عن البرجوازية الصغيرة، مثل التيار الديمقراطي وقبلها حزب المؤتمر من أجل الجمهورية والجمهوري وغيرهم). ولذلك نجده يختزل تمسّكه بالمسار الثوري في صراعه ضدّ حركة النهضة وتوابعها، وضدّ “الفاسدين”.


وبالطبع، يمكن لصورة الرجل النزيه (وهو فعلا كذلك على المستوى الشخصي) المتحدّي لفساد النهضة وحلفائها (ومن أقبحهم نبيل القروي) أن تنجح بعض الوقت في اقناع الطبقات الشعبيّة بأنّ سعيّد، رغم صعوبة فهمهم ومللهم من لغته الرتيبة، يبقى السياسي القويّ المنحاز لها والقادر على “انقاذ البلاد والعباد”. فهذه الطبقات مازالت تشعر أنّه الأقلّ سوءًا في المشهد الراهن، وتريد اعطاءه بعض الوقت ليتصدّى لمكائد المتآمرين.


لكن مع مرور الوقت وبداية انكشاف التناقضات (مثلا موقفه مؤخرا من أحداث سيدي حسين وقبلها في مظاهرات جانفي)، لن تعود كافيَة تلك التخمة البلاغية والنبرة العالية ضدّ “اللوبيات والأطراف” المُبهَمة، في ظلّ العجز الواضح عن انتهاج سياسات جديدة واتخاذ قرارات حاسمة لصالح الطبقات الشعبية التي علّقت عليه آمالاً عريضة. وعندها (وقد دخلنا بعد في تلك المرحلة بتقديري) سيكون مضطرًا إمّا الى القبول بحلول وسطى مع الأطراف التي يتصارع معها (ومبادرة اتحاد الشغل تمثّل مدخلا لذلك)، أو الى اتخاذ قرارات حاسمة تنهي الصراع الذي يخوضه تحت سقف نفس المنظومة التي يزعم معاداته لها.


اذا وصلنا إلى مرحلة اتخاذ القرارات الحاسمة، التي طالما لوّح بها، فهي لن تتجاوز بتقديري حلّ البرلمان واعلان ما يشبه حالة طوارئ تكون له فيها صلاحيات شبه مطلقة، بما سيصاحب ذلك من اجراءات “قانونيّة” قصوى ضدّ بعض الأحزاب والشخصيات. أي أنّها ستكون خطوات حريصة على الاحتفاظ بـ”الاعتراف الدولي” (اقرأ الوصاية الاستعمارية) ولن تتضمّن سنّ سياسات اقتصادية وسيادية جذرية لصالح الشعب. وهو ما لن يتقدّم بنا خطوة إلى الأمام على المسار الثوري المفترض. بل قد يعيدنا الى مربّع “الدفاع عن الديمقراطية” و”الحرّيات العامة” والخ.

في ظلّ استمرار عدم جهوزيّة البديل السياسي الثوري، لن يبقى بيدنا مجدّدا سوى لعن حظّنا “الثوري” العاثر والتفكير في سيناريو “أخفّ الأضرار”.



أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !