رأيْ | عن سرحان العليّ والانتصار

مازن بن مبروك

“يقظا مثل حمار الوحش كان

وككلب الصيد ملفوفا خفيف

وشجاعا مثل موج البحر كان

ومخيفا مثلما النمر مخيف”

جيل كامل كان ينظر الى القضية الفلسطينية عبر صورة الفدائي. الزي العسكري، السلاح باليد اليمنى والكوفية التي تخفي الوجه. وكانت فلسطين بقداستها المتوارثة مُعلَنَة كالحقيقة التي لا تتطلب الاقناع بها ولا محاولة الذود عنها. أمر مفروغ منه. هي في الأغاني وأجهزة التلفاز وهي في مواقف الانظمة العربية الهزيلة وفي المسيرات الطفولية التي تعلن فرحتين كبيرتين: المقاومة والعطلة المدرسية.

“كتلة صامتة كان يسير

وبعينيه سكاكين وشرّ مستطير

كتلة تنحت نحتا دربها بين الصخور”

حين اغتالوا محمد الدرة كلنا تسمّرنا أمام المشهد ذاهلين. أنا لم أفهم حينها معنى أن أشاهد طفلا في عمري يُقتل، لم يستطع حتّى والده حمايته!  لا أتذكر المشهد وحده، أتذكر كذلك أبي بجانبي حينها. لم يكن هنالك تهديد من أي نوع في الغرفة، ولكنّي فهمت أنّ احاطته لي بيديه الكبيرتين لا تجعلني محميا بشكل بديهي. كان ذلك اكتشافا مرعبا. بعدها صارت متابعة أخبار الانتفاضة طقسا يوميا ينطلق من الخامسة صباحا. القلق والتحفز كانا مُرْفقيْن بفرحٍ بنفس قوّة هاذين الأخيرين.  سوى كان مصدره جسما ممشوقا يرمي حجرا وينثني معه كأن الجسد خلق خِصِّيصًا لهذا الغرض، أو خبرا قادما من فصائل المقاومة.

 كنا نعرف أن ذهاب الاحتلال مستحيل بذلك فقط. لكن ذلك لم يكن ذا معنى على الاطلاق. فالهدف ليس دحر الاحتلال في تلك اللحظة. الانتصار هنا هو الاعلان عن الوجود مهما كان شكله؛ وجود الحجر والبندقية وقليل من الرصاص وسط اختلال مرعب في موازين القوى، كان هذا انتصارنا. لم نكن مهزومين، بل منتصرين رغم الشهداء وقلّة الحيلة وبشاعة الجرائم الصهيونية.

“عندما قالوا له: سرحان.. يا سرحان هيا للجبال

هز كتفيه: أنا؟؟ من أين إن جعت ستأتي لقمة الخبز الحلال؟”

مؤخرا خلال سبر آراء حول الانتخابات الفلسطينية المزمع عقدها تصدَّرَ دحلان نوايا التصويت. أنا لا أعرف دحلان. اعرف أنه موجود، ولكنني لا أعرفه بمعنى انني لم ابن له صورة متخيلة. يبدو ان الأمر اجراء دفاعي. لا أريد مخيلة مليئة بمشاهد سيئة. قليل من السوء كاف لكن الكثير منه في منطقة حساسة كمخيلتي؟ ذلك يدفع مباشرة نحو الانتحار. إلّا أنّ بعض الفلسطينيين – على ما يبدو- يفكرون في المسألة من هذه الزاوية: “أيٌّ من هؤلاء سيقدم حلولا لمسألة الخبز؟” 

منذ خروج المقدسيين للشوارع لم أقرأ نبأ واحدا عن الانتخابات الفلسطينية. يبدو أن الخبز الحلال ليس حلالا على الاطلاق هذه الأيام. هذه الأيام لا يُأكلُ الْخُبز المغموسُ بالذُّلِ. وهذه القاعدة ليست مفاجأة، هي تختفي قليلا وتنتظر … ثم تخرج في كل مرة ضاحكة في وجه من ينتفضون جذلين منذ أيام في اللد ومن يلعب مع جنود الاحتلال لعبة يعرفونها جيدا ويعرفون قوانينها: “ما دُمْتُ هنا أنت اذن مهْزومٌ دائما”

“عندما قالوا له: سرحان.. يا ابن الكلب.. انظر شعبك العبد الطعين!

هز كتفيه: أنا ؟؟ مادام جلدي سالما مالي ومال الآخرين؟”

في تونس نحن مؤخرا بصدد اكتشافات متواصلة. مثلا اكتشفنا وجود من يحبون السلام بين الجميع. وهم يحبونه أكثر حين تطلق المقاومة الصواريخ. ينسون عشقهم للسلام اثناء عذابات الفلسطينيين اليومية. لدينا أيضا من يفكرون في حقوق المثليين المضطهدين في الكامرون وفي وضعية المرأة في السعودية وفي أحداث الولايات المتحدة الاخيرة حول الميز العنصري. ولكننا بعد أن نشاركهم التفكير في كل هذا، نلتفت فلا نجدهم إلى جانبنا في قضية فلسطين فنعيد اكتشافهم حينها. لدينا ايضا الترنسندنتاليون: سكان الكواكب الأخرى الذين لا يريدون لثيابهم النظيفة أن تتسخ بغبار قضايانا البشرية التافهة.  في أعماق الكوسموس والقضايا الكبرى أين يسكنون، مثلُنا كَمَثلِ الصهاينة. أما التونسيون فقط ممن يحبون تونس وحدها بحدودها الفرنسية هذه، فبالنسبة لهم القضية بعيدة جدا ولا دخل لنا فيها ومادامت جلودنا سالمة مالنا ومال الآخرين؟

كل هؤلاء يفكرون ويفكرون ويتعبون أنفسهم في التفكير ويقولون كل شيء كي لا يصدحوا بموقف يضطرون فيه لتحميل المسؤولية لاحتلال واسناد شعب يريد الحرية. نفس الحرية الثمينة التي يدَّعون الدفاع عنها في تونس.

نحن لا قدرة لنا على اغماض عيوننا على المشاهد المزعجة. نُحملِق فيها ويغمرنا الرعب والألم دون أن نريد ذلك. أحيانا يغمرنا الألم لدرجة تمني قلع رؤوسنا وتعويضها بأخرى جديدة. وإن لم يقدر هؤلاء مثلنا على رؤية الفظاعة لأنها بعيدة قليلا جغرافيا، لم لا يتذكرون أن الخريطة انكمشت أكثر من مرة ووجدنا تطابقا مع وضع الفلسطينيين في جرائم اغتيال الزواري وفي حمام الشط؟ وبليغ اللجمي وفيصل الحشايشي وعمران المقدّمي؟ هل كانوا تافهين لهذه الدرجة أم كانوا مسكونين بحب عظيم؟ والحساسون المنغلقون المتعالون على تفاهة البشر، هل هم حساسون فعلا أم هم تافهون في غرورهم الذي يصور لهم أنهم آلهة مظلومون لأنّنا لا نعبدهم؟

“شيعوا لبني عمومته يجيئوا بالطبول وبالزمور

خبروهم انه قد عاد من غزواته صقر الصقور”

قصة سرحان والماسورة التي كتبها توفيق زياد وغنتها فرقة أغاني العاشقين الفلسطينية تعلن في فصلها الأخير انطلاق الاحتفال بالموت. وأحيانا يبدو لنا أن فكرة الموت هي مصدر كل فعل نقوم به. نحن نعمل كي لا نموت جوعا ونحب كي لا نموت من الداخل، ننجب الأطفال كي نخلّد في أجساد أخرى، نكتب ونبدع ثم نعلن عن ذلك ونتشاركه كي نتواصل أفكارا حية في أذهان آخرين.. لكن موت الجسد مترافق عندنا مع الحزن والغياب. ما المعنى اذن في إطلاق الاحتفال بالموت؟ قد يكون الجانب الديني مؤثرا في المسألة. يطمئن المتدينون على مصير الغائب ويفرحون لأنه في الجنة. لكن في فلسطين المسألة لها بعد آخر.

يجتمع الحيّ، وتزغرد النساء وسط دموع لوعة الفقد، ويصمد القادرون على الصمود وينطلق الاحتفال. يبدو أنّهم يحتفلون لأن الشهيد كان حاضرا وموجودا للدرجة القصوى في نفس لحظة فنائه. يعلن عبر الموت الفكرة المؤسسة للانتصار وهي انهم مازالوا باقيين يتابعون نفس اللعبة التي يعرفون نتائجها مسبقا لأنهم من وضعوا قواعدها.  

ووسط كل هذا الموت أ ليست قدرة المعتقلين على الابتسام مدهشة هذه الأيام؟ انهم يدفعوننا دفعا لمشاركتهم نفس الابتسامة.

تغيب الابتسامة عن وجوهنا أحيانا حين نتذكر اننا في بلد صار فيه التطبيع موضة ثقافية عند البعض.. تغيب حين نرى من يدافعون بأشكال مختلفة عن الهزيمة ويغمروننا بعقلانية مريبة تتحدث عن الحلول المنطقية والسلمية ورؤية الأمور من زوايا أشمل وأكثر براغماتية. ونشعر بالخزي حين نرى من أسقط قوانين تجريم التطبيع في البرلمان ينسبون أنفسهم للمقاومة. وننظر بغير تفاؤل كبير لرئيس تكلم بنفس تشنجنا عن الخيانة العظمى عساه يُقْدِم على أمر ما. الأمر الجيد انه لن يفاجئنا بالخذلان إنْ هو كمن سبقوه.

ونحن نبتسم ونحزن ونبتسم مرة اخرى لأننا عاطفيون جدا فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية. لكن لماذا نُلامُ على هذا بشكل دائم؟ وكأنه ذنب ما يجب أن نهرب منه؟

هل كان سميح القاسم يكتب خارج العاطفة؟  هل كان جورج حبش مُقادًا بعقل مجرّد؟ من كتبوا الروايات ومن غنوا ومن قدّموا الدراسات حول الثورة ومن خططوا في المعارك ومن أسسوا التنظيمات التي لم تكن في بدايتها مهترئة هكذا.. كل هؤلاء ممن حافظوا بشكل او بآخر على الانتصار المؤجل، كل هؤلاء ممن ساهموا في جعلنا فلسطينيين بدرجات مختلفة، هل كانوا خارج العاطفة؟

هل كانت العاطفة سبب استمرار الاحتلال؟ على الأرجح أنّ العاطفة المجردة بلا تخطيط أو تنظم لن تؤدي لتغيير حقيقي. ولكن المأساة صارت على مستوى أكثر بشاعة نتيجة عقلانية اوسلو وكامب دايفيد. لذلك نحن لسنا مستعدين للتفريط في نظرتنا العاطفية للقضية الفلسطينية لصالح حلول الهزيمة وأفكار الهزيمة التي لن تؤدي إلا إلى مزيد تشجيع المجرمين.

أما عن الشكل الذي سنعبّر به عن كلّ هذا فليكن كما يمكن أن يكون … تغيير صورة في الفايسبوك، أغنية، مقال، علمٌ يرفع في مدرجات مباريات كرة القدم، تبرعات ومساعدات طبية، معركة مع سكان مزبلة باردو حول قانون تجريم التطبيع … مهما كان الشكل سيكون مفيدا. في النهاية لم أكن لأعرف شيئا عن سرحان حسين العليّ لولا موسيقى تنبعث من شريط k7 استمعت لها طفلا متسائلا حول كل شيء وحول فلسطين. وقد وجدت إجابة هناك!

وبالنسبة للـ “نحن” في مدن محتلة، أولئك الذين يذهبون نحو الانتصار كل يوم فسنقول لهم:

“ولتكن رجلك فوق الدرب منديل حرير …

لم لا يخلق للإنسان أحيانا جناح

 كي يطير؟”

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !