جوليان أسانج: شمعةٌ في ظلام الامبرياليّة

بقلم أميرة الحجلاوي

ناشطة يساريّة


” كنت لأنشر أيّ وثيقة عن الدبلوماسية الأمريكية. لأنّ هذه الأمور تكشف حال الحكومات العربية والانتهاكات الحقيقية لحقوق الإنسان من هذه الحكومات .” جوليان أسانج.

لئن استغلّ المتحكمون في العالم التكنولوجيات ضد البشرية، فإنّ عددا هاما من مناهضي النظام تمكنوا من اختراقها وفضح سياسات الحكومات، مستفيدين من نقاط ضعف الآلات والبرمجيات. يُعتبر جوليان أسانج، مؤسّس موقع “ويكيليكس”، الذي تُنسب إليه أكبر عملية قرصنة وتسريب وثائق رسمية، أشهر صحفي استقصائي في العالم تمكّن من الولوج إلى مراسلات تُدين أمريكا بشكل خاص.  يُعرّفه الكثيرون بالبطل … في حين أنّه، بواقعية أكبر، أحد أكبر ضحايا النظام لحجم ما يكنّه له هذا الأخير من كره ومن رغبة في التنكيل. طاردته أمريكا طيلة 10سنوات أو أكثر لتتمكن أخيرا من الإيقاع به بسبب تواطؤ حكومات متذيلة ومتضرّرة ممّا نشره من فضائح.

إنّ من أشد مواقف النظام ارهابًا هو الإذلال النفسي، ولعلّ من أكثر المشاهد خزيا وعارا على البشرية مشهد اعتقاله من مبنى السفارة الاكوادورية في لندن.  هو وجع ولدّه أولا شعور تعاطف صادق، وثانيا شعور يتجاوز كل تصنيفات الحبّ التقليدية ويصهرها في شعور فيّاض بحجم حقد الأحرار على النظام. 

روح عظيمة بقناعات أعظم 
 

لئن اعتادت أمريكا تصنيف منظمات وأحزاب في قائمتها السوداء للإرهاب، فإنها قد توجّه كل ترسانتها من اجراءات وتدابير دعائية وقانونية وسياسية ضد أفراد. هؤلاء الأفراد جرمهم مُرَكَّب، لأنّ نفسهم سوّلت لهم مواجهة القوة المسيطرة في العالم، ليس في إطار تنظيم مؤسس مهيكل ذو تحالفات بل بمؤهلات فردية أو في أحسن الأحوال في إطار مجموعات عمل محدودة عددا وعُدّة.

أسانج هو واجهة عمل جبار وعدد من نشطاء إلكترونيين يقومون بمده بما تمكنوا من اختراقه من معلومات، مهما تكن الجهة المعنية بالفضائح. لذلك لم تقتصر المعلومات التي سرّبها على بلد واحد، بل إنّ الوثائق المنشورة تعطي الانطباع بعشوائية ما، في حين أنها نتاج عفوية إمكانية الظفر بمعلومة ما والولوج إلى ملف ما.

 ما يميز أسانج قدراته وتاريخه في مجال ما أسموه بـ”القرصنة “. أما ما يرتقي به إلى منزلة العظماء فهو الاعتقاد في ضرورة كشف الوقائع وتعميم الحقائق، والذي لازمه حتى خلال سنوات اقامته في مبنى سفارة الاكوادور، حيث تحمل وحده مسؤولية التسريبات.  كما أنه كان حريصا على إتلاف كل أثر من شأنه كشف مصادر معلوماته بصفة فورية.  قناعته المبدئية تُماثل في ترسخها وتجذرها دغمائية العقائد الإيديولوجية المتطرفة. إلا أنّ من يعتقدون في الإيديولوجيات المتكلسة يؤمنون بمبدأ الثواب والمكافأة في حين أنّ هذا الرجل لم ينتظر شيئا من ذلك. فأهمّ ما أراده هو استنهاض وعي الشعوب وإقناعهم بحجم ما يتعرضون له من تلاعب وتضليل رغم ما يمكن أن يلحقه من اذى. وقد أكد في إحدى الحوارات الصحفية أنه على وعي تامٍ بالمصير القاتم الذي ينتظره والذي تنعدم تقريبا فرص النجاة منه.

تقول إيفا جولي قاضية تحقيق ونائبة أوروبية سابقة :” جوليان أسانج هو وكالة استخبارات للمواطنين” 

فهل ترتقي تسريبات جوليان أسانج حقا إلى حجم معلومات الوكالات الاستخباراتية؟   

التسريبات 

 هو مؤسس موقع ويكيليكس، الناطق الرسمي باسمه ورئيس تحريره. عمل جوليان أسانج الصحفي الأسترالي ومجموعة من الصحافيين في مجال الصحافة الاستقصائية، وتمكنوا من قرصنة وتسريب أكبر عدد من الوثائق الرسمية في سابقة تاريخية. كانت أمريكا المتضرر الأول ممّا سرّبه من وثائق تدينها وتكشف صورتها الحقيقية على المستوى العالم،  باعتبار حجم ما تسببت فيه وما أتته من جرائم ضد البشرية. لذلك كانت احرص الدول على الإيقاع به، اعتقاله ومحاسبته.

في الشأن الوطني، سنة 2010 قبل أسبوعين من قيام الثورة، قام موقع تونيليكس بنشر وثائق دبلوماسية خاصة بتونس بالتنسيق مع موقع وكيليكس. وقد ساهمت هذا الوثائق في تأجيج حالة الاحتقان الاجتماعي. وفي مناسبة أخرى سنة 2012  نشر موقع نواة تحقيقا يخص التخابر على تونس من طرف شركة ستارتفور. ذكر الموقع أن حجم هذه الوثائق يقدر ب-5 الاف وثيقة من ملف يضم 5 ملايين رسالة إلكترونية، قامت مجموعة أنونيموس بإرسالها إلى جوليان أسانج، بعد اختراق مراسلات شركة ستراتفور. تختص هذه الشركة ومقرها تكساس في الاستخبارات والتحاليل الإستراتيجية وتضم عددا من العملاء والمخبرين والمحللين.  تعرف نفسها بأنها الجهة التي تزود مشتركيها بتحليلات جيوسياسية فتمكنهم من فهم العلاقات الدولية وماذا يجري فيها (عن طريق الجوسسة طبعا (

بين سنتي 2006 و2010 سرّب الموقع أكثر من 250 ألف وثيقة. ففضح فساد نظام بشار الأسد، ونشر ما توصل إليه إدوارد سنودن من أدلة حول تجسس أمريكا على المواطنين والجهات السياسية الأخرى عبر مراقبة محادثاتهم. سرّب 570 ألفا من مراسلات تمت يوم 11 سبتمبر 2001، ونشر ملفات جوانتانامو التي تثبت آلية التعذيب الأمريكية في سجن غوانتنامو.

لكن أخطر ما سرّبه هو فضائح أخرى بالجملة تخص أمريكا: آلاف الوثائق العسكرية حول حربيْ العراق وأفغانستان، البلديْن الذين استباحتهما أمريكا بحجة محارب الإرهاب والدكتاتورية. وأخرى تخص ممارسات التعذيب والاختطاف والاختفاء التي تمت في البلدين، خاصة الفيديو المشين حيث يتم قتل مدنيين وصحفيين في العراق بطريقة وحشية مثل ما يحصل في ألعاب الفيديو. ومما ساهم في ترويج هذه الفضائح على مدى عالمي، هو انضمام أكبر الصحف العالمية إلى هذه الحملة وتنسيقها مع الموقع لتنظيم مؤتمرات صحفية نشرت فيها هذه الوقائع التي مثلت العناوين الرئيسية للصحافة. 


من مقر السفارة الأكوادورية، وأثناء الانتخابات الأمريكية سنة 2016 نشر الموقع 20 ألف وثيقة تدين الحزب الديمقراطي . وثائق استعملها ترامب لتشويه سمعة منافسته هيلاري كلينتون. إثر هذه الواقعة أعلن دونالد ترامب بصريح العبارة في حملته الانتخابية أنه ”يحبّ” موقع ويكليكس لما قدمت له من فرصة لتسجيل هدف ضدّ غريمته الديمقراطية.

ورغم ثبوت أنّ أمريكا اخترقت الأجهزة الالكترونية لثلاث رؤساء فرنسيين، أي تجسست على مراسلاتهم ومحادثاتهم، لم تمنح فرنسا أسانج حق اللجوء السياسي، ممّا يطرح اسئلة حول نزاهة مؤسسة الرئاسة في فرنسا وسبب رضوخها للضغط الأمريكي.


كل هذه الوقائع تفسر لماذا تعتبره أمريكا عدوا يهدد أمنها القومي ولماذا تكن له حقدا خاصا. أيضا حاول النظام تشويهه وافتعال تهم أخلاقية للتشكيك في نزاهته ومصداقيته. ففي حين دفع الرجل أو كاد حياته فيما اعتقد أنه مصلحة للإنسانية، جاهدت الجهات الرسمية لإضعاف موقفه وتقزيم شعبيته. وما إصرارها على القصاص منه في وقت ” الأزمة الوبائية” مثلما تُجمع عليه دوائر القرار العالمي إلا ترجمة لحقد ثابت بسبب تسريبات خطيرة أوّلًا وخوف من تسريبات لاحقة قد تكون مغبتها أسوأ ثانيا.

رجل في نقطة اللاعودة

ما تزال قضية أسانج من القضايا الساخنة. كانت أخبار تطورات قضية أسانج الحدث الأهم في الساحة الصحفية على المستوى العالمي.  فالتسريبات، اللجوء ثم الاعتقال، أي ما يلخص أساسا حياة أسانج ليست من القضايا الكلاسيكية. وإن خفتت نسبيا درجة التعاطي مع حيثيات القضية (سنوات الإقامة في السفارة) مقارنة بحيثيات أخرى بسبب هيمنة أحداث سياسية حارقة منذ سنة 2011، فإنّ اسم أسانج سيذكره التاريخ بل إن شعبيته من المرجح أن ترتفع في حالة موته.  

بعد ادعاء امرأتين من السويد اعتداء أسانج الجنسي عليهما، ادعاء بان كذبه لاحقا، غادر أسانج السويد إلى لندن بعد عامين من المعركة. تم ذلك قبل أن تصدر بحقه أي بطاقة اعتقال وقبل توجيه التهمة عليه. وفي سنة 2012 أصدر القضاء الإنجليزي مذكرة اعتقال ضده في تواطؤ واضح مع أمريكا. عندها طلب اللجوء في سفارة الإكوادور في لندن. مع ذلك وعلى مدى سنوات اقترح أسانج من خلال المراسلات أو عن طريق محامييه أن يعود إلى السويد للرد على اتهامات الاعتداء الجنسي، نظرا لاقتناعه ببراءته، احترامه لإجراءات التقاضي وخاصة وعيه بالطبيعة الكيدية للتهمة. لكن ما حال دون ذلك هو رفض السويد لشرط أسانج بأن تتم المحاكمة في السويد وألّا تسلمه السلطات إلى الولايات المتحدة.

عند صعود مورينو إلى سدة الحكم في الإكوادور سنة 2017، تغيرت ظروف إقامة أسانج السفارة. وإثر التغيير الذي قرّره مورينو لشركة الأمن التي تحرس مكان لجوء أسانج تحت غطاء ” التأمين “، تم بث أشرطة فيديو ينتهك حِميمية أسانج على شبكة الإنترنت: هذه الشركة ليست بالأحرى سوى شركة تجسس. لم تكن إمكانية ترحيل أسانج إلى أمريكا لتثار مرة أخرى لولا تغير سياسة الإكوادور مع تغير رأس السلطة. في أفريل 2019 اقتحم أعوان من الشرطة الخاصة البريطانية مبنى مقر السفارة الأكوادورية في لندن لاعتقال أسانج. وذهبوا إلى حد اختلاق أدلة ضد جوليان من خلال أخذ ممتلكاته الشخصية بعد اعتقاله في سجن بلمارش.

يقول فرناندو فييا سينسيو، وهو صحفي استقصائي اكوادوري: “إن لدى الولايات المتحدة الكثير من المعلومات عن مورينو الذي يعمل لحسابها على أساس هذه الضغوط.’’ جزء من هذه المعلومات كان قد سربها فعلا موقع ويكيليكس قبل فوز مورينو في الانتخابات، معلومات تبيّن مدى فساد عائلة مورينو والمقربين منه.

إلى حدود بداية سنة 2021، كانت الآمال حول مصير آمن لحياة أسانج، رغم ضعفها، غير منعدمة تماما. آمال حافظت عليها المحكمة البريطانية بادئ الأمر حين رفضت طلب أمريكا بتسليم جوليان أسانج لها. لكن موقف رفض التسليم رافقه أيضا إسقاط لحجج الدفاع) تمثلت حجج الدفاع عن أسانج في حرية الصحافة، المصلحة العامة في التنديد بأخطاء الحكومة، حظر تسليم مرتكبي الجرائم السياسية وعدم امتثال الولايات المتحدة بتوفير محاكمات عادلة للمتهمين بانتهاك الأمن الوطني. (، موقف ضبابي يفتح ما سيحدث لاحقا على عديد الاحتمالات. حيث ظهر معطى جديد كمفاجأة لعموم المجتمع الدولي حين قررت المكسيك منح اللجوء إلى أسانج.

”اننا نقترح العفو للسيد أسانج ونقدم له اللجوء في المكسيك، سوف نسدم له الحماية وسنبذل جهدنا في سبيل ذلك ”، الرئيس اندريس مانوال لوبيز اوبرادور 

أكد مقرر الإمام المتحدة الخاص بالتعذيب أن ظروف اعتقال أسانج ستكون من الوحشية بحيث من المحتمل أن تدفعه إلى الانتحار. وقال “إذا تم تسليمه إلى الولايات المتحدة، فإنه يواجه عقوبة تصل إلى 175 سنة في ظروف غير إنسانية تتسم بعزلة شبه تامة”. عند زيارة هذا المقرر مرافقا بوحدة طبية إلى سجن بلمارش، أكد أنّه تظهر على جوليان أسانج علامات التعرض إلى تعذيب نفسي. حاليا تشير كل الدلائل وبشدة على فرضية أن يقوم أسانج بالانتحار في إطار مصير مجهول للرجل في مرمى سهام الأمريكان! 

إن الوضعية الحالية لجوليان أسانج تمكّن من استخلاص بعض استنتاجات بالجملة:

-كإجابة على سؤال ما إذا كان أسانج يشتغل أو اشتغل لمصلحة ما (إنه لمن المحزن أن يكون الماضي صيغة الفعل الوحيدة الصحيحة)، فإن فرضية وقوعه تحت براثن القوة الأشرس في انتظار مصير مجهول هي الدليل الأقوى على صدق قناعاته إضافة إلى أنه لم يتوان على تسريب أي ملف أو وثيقة تخص أي جهة كانت …

-كما أن تواطؤ أنظمة البلدان التي ساهمت في اعتقاله يدل على حجم فساد حكوماتها، أولا لتوجسها مما قد يفضحه الرجل حولها ولرضوخها لضغط أمريكا التي تملك هي نفسها دلائل إدانة ضدها ثانيا….

-أما مصير حرية الصحافة فهو في خطر نظرا لأن المحكمة البريطانية نفسها اعتبرت أن تهديدا مباشرا ومرجحا قد يطال حياة أسانج، وكانت هذه حجة رفضه تسليمه أول الأمر….

-أخيرا، ما يحزن حقا هو حجم تعاطي الإعلام العربي مع قضية أسانج، وهو الذي أراد أن يفضح انتهاكات حقوق الإنسان كما هو مذكور أعلاه. فلئن تابعت اخباره مئات القنوات الصحفية في العالم، وبثت حوله آلاف النشرات الإخبارية، وساندته تحركات اشعبية ضخمة انضم إليها مشهورون ونجوم، تكاد مساندة أسانج في البلدان العربية تنعدم، إلا من بعض النشرات الناطقة بالعربية والتابعة لوكالات أجنبية. 

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !