التّغريبة الفلسطينيّة…نشر الوعي وإحياء القضيّة

بقلم شاهين أيوب البولعابي

حلّ على العالم العربيّ شهر رمضان 2004 بمسلسل سوريّ من انجاز الثّنائيّ حاتم علي ووليد سيف وبطولة ثلّة من عباقرة الدراما منهم جمال سليمان وخالد تاجا وتيم حسن الذين اجتمعوا في ما يمكن أن نسمّيه أوّل عمل دراميّ عربيّ يتناول الحقّ الفلسطينيّ بكلّ تشعّباته الطبقيّة والسّياسيّة والاجتماعيّة والعائليّة من خلال عدّة حكايات وشهادات وروايات اعتاد الشّعب الفلسطينيّ تناقلها عبر الاجيال في أغانيهم الفلكلوريّة وما يقصّه الكبار ممّن عاصروا الوطن على أبنائهم وأحفادهم ممن نشأوا في الشّتات…
تمك؟ن وليد سيف من جمع جل هذه الشّهادات في سيناريو أفنى فيه ثلاث سنوات من العمل ليسقط كلّ ما عرفه عن وطنه -وهو النّاشئ في مخيم طولكرم- في شخصيّات وأحداث تمرّ بها عائلة الفلّاح الصّغير صالح الشيخ يونس وصراعاتها مع كبار الفلاحين وسلطة الاستعمار البريطاني ثم مواكبتها لنكبة 48 ونكسة حزيران 67 ليفرض علينا صحبة حاتم علي أن نعيد التّفكير والتّمحيص في كل نضالات الشّعوب المستعمرة وتهديم عدّة افكار مسمومة بثّها بيننا عملاء الإمبريالية حول الحق الفلسطيني.
أبو صالح…الثوري بالفطرة
إن المتابع للتّغريبة يلاحظ منذ البداية البعد الثّوريّ في شخصيّة “أبو صالح”… في اثناء صراع عائلته الفقيرة التي لا تملك إلا بضعة زيتونات تظهر كحبّة رمل في شاطئ “المختار” و”أبو عايد” كبار الاقطاعيّين الذين يسعيان منذ زمن لاقتلاع هذه العائلة الصّغيرة مجهولة النّسب من القرية وشراء أرضهم إلّا أنّ “أبو صالح” الشّابّ عارض ذلك وحرّض أباه المغلوب على أمره كي يقاوم إغراءاتهما ويتمسّك بمورد الرّزق الوحيد بما يمثّله من حياة وأسلوب ممانعة في وجه الطّمع الصّهيونيّ والاستبداد الانجليزيّ والتّسلّط الطّبقيّ لوجهاء القرية. كذلك في أزمة الأرض المشاع التي افتكّها اقطاعي آخر من عائلات القرية منتشيا بخوف سائر السّكان من الالتجاء للحكومة الانجليزية لما يمثّله ذلك من خطر أن تبيع السّلطات الاستعماريّة الأرض لليهود وأمام تكاسل المختار سعى أبو صالح وتمرّد وحرّض ابناء الفلاحّين على “أبو رزقي” حتى انتهى به المطاف مكتّفا مجلودًا غير قادر على استرجاع حقّ عائلته.
ظهرت لنا شخصية أبو صالح ايضا كشخصيّة تقدمية في ذلك العصر الذي كان فيه حق التّعليم حكرا على أبناء المدينة والميسورين مادّيّا لكنّه فهم بعقليّته السّابقة لأوانها أنّ الشّهادة أعلى شأنا من اراضي المختار وأبي عايد فجعل أباه يوافق على مضض أن يرسلوا الاخ الأصغر علي للمدرسة في المدينة كي يستكمل تعليمه والكلّ واع تماما أن ذلك سيقصم ظهر العائلة مادّيّا وهم الذين يصارعون فقط كي يضمنوا الخبز اليومي.

الوعي بالقهر
مثّل هروب أبو صالح إلى مدينة حيفا بعد أن قتل جنديّا انجليزيّا منعرجا هامّا في حياة ابن الرّيف إذ عاصر مباشرة الظّلم المسلّط على الشّعب الفلسطينيّ من تهجير وعنصريّة أمام الوافدين اليهود في فرص العمل وشكّل ببطء وعيا ثوريّا بالقهر وضرورة مقاومته من خلال حضوره لندوات واجتماعات وحلقات بعض الزّعماء الفلسطينيّين من شتّى المشارب الايديولوجيّة وبلور في حيفا إيمانه بضرورة حمل السّلاح في مواجهة الانجليز ومن ورائهم العصابات الصّهيونيّة وبسرعة نرى انتماءه المبدئي لأحد فصائل ثورة الرّيف الفلسطيني وبفعل روحه الثّوريّة الفطريّة نال باستحقاق قيادة فصيل ثوريّ يحارب الانجليز ويقارع عنجهيّتهم العسكريّة ونعيش هنا نشوة الفرح مع المفقّرين الفلسطينيّين الذين وفّرت لهم الثّورة فرصة كما وفّرتها لابي صالح أن يكسروا شوكة الاقطاعيّين ويفتكّوا سلطتهم المتوارثة ويجعلنا المخرج نتفاعل مع قيادة أبي صالح لأبي عايد و المختار و هو يفرض عليهم أحكام وشروط الثورة بعد أن كان يعيش تحت سلطتهما و يناضل كي يقاوم عنجهيتهما.


تتالت الأيّام حتى خمدت الثّورة الكبرى وخَبا فتيلها وعادت الحياة إلى ماكانت عليه دون انتصارات ملموسة على أرض الواقع، عاد أبو صالح أيضا إلى القرية مواصلا حياة الفلّاح الصّغير رهينة لكبار الاقطاعيين.
ثم حلّت النكبة سنة 1948 فعشنا مع الفلسطينيّين الخذلان والقهر وهم يسيرون تحت قصف المدافع تاركين وراءهم أرضهم وديارهم وحتّى عائلاتهم التي تفكّكت بفعل ما وازى معارك النكبة من فوضى ودمار ومجازر.
الفجيعة والفقدان المستمّر هو الشّعور المكثّف بلا ابتذال في النّصف الثّاني من أحداث المسلسل إذ برع حاتم عليّ في تجسيد ذلك عبر اختفاء “حسن” الذي فُقِدَ في أحد المعارك وأحاسيس العائلة المختلطة بين أملهم اليقينيّ في عودته وحتميّة استشهاده ولعلّ أفضل وصف لحال اللّاجئ بعد النّكبة جاء على لسان”عليّ” :”منذ اليوم سيكون على اللّاجئ أن يعيش هذه المفارقات الحادّة المؤلمة، موزّعة دائماً بين حاجاته المادّيّة المباشرة، وبين مطلبه الوطني العام، وما كان لهذين المطلبين الشرعيَّين، أن ينسجما في نفسه إلّا نادراً، سيطالب بتحسين أوضاعه، ومع ذلك سيواجه كلَّ خطّةٍ في هذه السّبيل بالشك، خِشية أن يكون الثّمن ذاكرته وقضيّته ووطنه، سيكون عليه أن يشكّ في نيّات من يعرضون عليه شيئاً ممّا يريد، وسيبدو لغزاً غريباً ومحيّراً ومزعجًا لأولئك الذين لم يُعنّوا أنفسهم بفهم الدوافع العميقة والمسوغات الواقعية لكل تلك المفارقات والمشاعر المتطاحنة” .

“التّغريبة” عمل لا ينسى قضايا النّساء في خضمّ معركة التّحرّر الوطنيّ.

يلاحظ المتابع المتمعّن للمسلسل أنّ المخرج لم يكشف لنا عن اسم “أمّ أحمد” الحقيقيّ ولذلك حسب رأيي سببان أوّلهما الإتيان على وضعيّة المرأة في مجتمعاتنا العربيّة في تلك الفترة وما تعانيه من تهميش لدورها وحصرها في مربّع ربّة البيت المطيعة التي تجهّز أبناءها ليكونوا رجالا وبناتها ليكنّ زوجات صالحات لذلك ينحصر تعريفها بابنها الذكر البكر الذي يخطّ بحضوره مكانة الأمّ ومستقبلها ؛ ثانيا نلاحظ أنّ “أم أحمد” مثّلت في المسلسل الأمّ العربيّة النّمطيّة بحنانها ودعمها الدائم لزوجها وأبنائها والسّراج الذي يضيء دروبهم عندما تسودّ الحياة وتضيق السّبل ودافعهم المعنويّ للكفاح ومقاومة الاستعمار فاختزلت هنا كل معاني الوطن وتجذّراته لذلك ليس من الواجب ذكر اسمها فهي بالتّأكيد صورة الوطن، أو بالأحرى هي فلسطين.

“الانتفاخ الفاشيّ الكذّاب” وكراهيّة الذات المفرطة، قراءتان لا علميّتان ووجهان لعملة واحدة.

خاض المسلسل أيضًا معركة ثقافيّة عاشها المواطن العربيّ بكثافة خاصة بعد أحداث النّكبة وما رافقها من شكّ في قدرة العربيّ على بناء بديل للواقع فتمثّلت الأصوليّة و الذكورية البطرياركيّة في شخصية “أبو صالح” والانبهار بالغرب وثفافته في “صلاح” أما رشدي فقد استطاع أن يبني قيمه على حاضره العربي دون أن يعود الى القرون الوسطى أو يزحف الى ثقافة الآخر كي يسطّروا له وجوده و يُملوا عليه واجباته.

مرّت السنين وعشنا مع الفلسطيني فرحه العارم بانتصار ثورة الضّبّاط الأحرار في مصر وما بناه عليها من آمال وطموحات حتّى عدنا إلى مربّع الهزائم المتكرّرة في نكسة 1967
تعيش كمشاهد في القرن الواحد والعشرين مع مسلسل التغريبة كلّ تفاصيل الشّخصيّة الفلسطينيّة من تسلّط الوجهاء إلى ثوريّة الفقراء إلى بيروقراطيّة السياسيين ونحلم معهم في النّهاية عندما اتّجه “رشدي” إلى الجبل و استخرج بندقيّة أبيه الشّهيد من تحت الحجارة معلنا تواصل الكفاح الذي لا ينتهي الّا باسترجاع الأرض كلّ الأرض.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !