الإستبداد في المجموعات غير المنظمة (جزء 1)

الكاتبة: جوو فريمان

مقدمة

منذ 2010-2011 على الأقل وجّهت الحركة النسوية والشبيبة اليسارية عموما نقدا لاذعا لأشكال التنظّم التقليدية لما تفرزه من بيروقراطية وتسلط بسبب طابعها الهرمي والعمودي وانتشرت مقولة “الأفقية” كمبدأ لتنسيق الفعل السياسي الجماعي. بعد عشر سنوات لا يمكن القول أن النقاش والممارسة في علاقة بالمسألة التنظيمية تطورا كثيرا. فلا التنظيمات التقليدية طورت هياكلها وآلياتها ولا دعاة الأفقية توصلوا إلى خلاصة تنظيمية جديدة تمكّن من بناء تنظيم مستدام وفعال. ولا نظنّ أحدا يتعجّب إن قلنا أن هذا الصراع الفكري ليس جديدا وليس خصوصية تونسية. عنونت النسوية الأمريكية جوو فريمان مقالتها الكلاسيكية الصادرة في أوائل سبعينات القرن الماضي بـ”إستبدادية اللاهيكلة”. يمكننا القول دون تعسف كبير على الواقع أن فكرة اللاهيكلة – أي رفض هيكلة أو “مَأْسسة” الفعل السياسي الجماعي – في جذورها وممارستها هي، رغم الاختلاف الاصطلاحي ، “أفقية” الحركة النسوية الأمريكية في ستينات وسبعينات القرن الماضي والعكس بالعكس. هذه المقالة مساهمة قيمة في هذا النقاش حيث تُحلّل الكاتبة عديد الصعوبات والمشاكل التي تطرحها الممارسة “الأفقية” وتساهم في رسم ملامح مؤسسات تنظيمية ديمقراطية وفعالة.

حمزة إبراهيم – المترجم


خلال السنوات التي بدأت فيها حركة تحرير النساء بالتشكّل كان هناك تشديد كبير على أنّ ما يسمى بالمجموعات اللاهيكلية (دون هيكلة) واللاقيادية (دون قيادة) هي شكل التنظم الأساسي – إن لم نقل الوحيد – للحركة. هذه الفكرة متأتية من ردة فعل طبيعية ضد المجتمع مُفرطِ الهيكلة الذي وجدت فيه جلّنا أنفسهنّ، وما أدّى إليه هذا الحال من سيطرة آخرين على حياتنا، والنخبوية المتواصلة لليسار ومجموعات مشابهة من بين التي تدّعي محاربة هذه الهيكلة المفرطة.

فكرة “اللاهيكلة”، على كل حال، مرّت من مضادّ صحّي لهذه النزعات إلى آلهة في حد ذاتها. لا يضاهي قلّة فحص هذه الفكرة إلا كثرة استعمالها، لكنها أصبحت في إيديولوجيا حركة تحرير النساء مكونا مستبطَنًا وخارجا عن التساؤل. في بدايات تطور الحركة لم يكن هذا مهمًا جدا. فقد حَدَّدت منذ البداية كهدفها الرئيسي، وأسلوبها الأساسي، الإرتقاء بالوعي وكانت مجموعات الحديث “اللاهيكلية” وسيلة ممتازة لتحقيق هذه الغاية. اذ شجّع ارتخاؤها وطابعها غير الرسمي على المشاركة في النقاش، واستثار جوّها التضامني في غالب الأوقات التبصرات الشخصية. لم يكن مهمًا أنّه لم يَنتُج شيء أكثر من تبصرات شخصية عن هذه المجموعات لأنّ غايتها لم تتجاوز ذلك.

المشاكل البديهية ظهرت عندما استوفت مجموعات الحديث فضائلها في رفع مستوى الوعي وقررت أن تضطلع بمهام محددة. عادة ما تنهار أغلب المجموعات عند هذه النقطة لأنها لم ترد تغيير هيكلتها عندما غيّرت مهامّها. إعتمدت النساء فكرة “اللاهيكلة” من دون إدراك محدودية استعمالاتها. يحاول الناس استعمال المجموعة “اللاهيكلية” والندوة غير الرسمية لغايات لا تناسبها عن قناعة عمياء بأنّ أي وسيلة أخرى لا يمكن أن تكون إلا استبدادية.

إن أرادت الحركة أن تنمو متجاوزة هذه الدرجات الأولى من التطور فسيكون عليها التخلص من أحكامها المسبقة حول التنظّم والهيكلة فهُما ليسا سيئين في حد ذاتهما. يمكن أن يُساء استعمالهما، وهو الحال غالبا، لكن رفضهما القطعي لسوء استعمالهما يحرمنا من الأدوات الضرورية للتطور أكثر. علينا أن نفهم أنّ “اللاهيكلة” لا تجدي.

الهياكل الرسمية وغير الرسمية

على عكس ما نريد اعتقاده لا وجود لشيء اسمه مجموعة لاهيكلية. أيّ مجموعة من الناس مهما كانت طبيعتها تجتمع لأي مدة من الزمن من أجل أيّ غرض ستُهيكِل نفسها حتما بطريقة أو بأخرى. يمكن أن تكون الهيكلة مرنة؛ يمكن أن تتغير بمرور الوقت؛ يمكن أن توزع المهام والسلطة والموارد على أعضاء المجموعة بالتساوي أو لا. لكنها ستتشكل مهما كانت قدرات وشخصيات ونوايا الناس المشاركين. واقع كوننا أفراد، بمواهب واستعدادات وخلفيات مختلفة يجعل ذلك حتميا. لا يمكن أن نقترب من اللاهيكلة إلّا إذا رفضنا تماما أن نتواصل أو نتفاعل مع بعضنا البعض – وهذا ليس من طبيعة الجماعات الانسانية.

هذا يعني أن السعي لتكوين مجموعة لاهيكلية هو على نفس مستوى الجدوى، والمغالطة، الموجود في التَوْق لمقالات إخبارية موضوعية أو علوم اجتماعية “خالية من القِيَم” أو اقتصاد “حرّ”. ففكرة مجموعة “حرّة” هي بنفس درجة واقعيّة فكرة مجتمع “دعه يعمل دعه يمر”؛ تصبح هذه الفكرة جدارا من الدخان يحجب كون الأقوياء أو المحظوظين يبسطون هيمنتهم على الآخرين دون مساءلة. هذه الهيمنة يمكن بسطها بسهولة تامة لكون فكرة “اللاهيكلة” لا تمنع تشكل الهياكل غير الرسمية، بل تمنع فقط تشكّل الهياكل الرسمية. بطريقة مماثلة لم تمنع فلسفة “دعه يعمل دعه يمر” أصحاب النفوذ الإقتصادي من التحكم في الأجور والأسعار وتوزيع البضائع؛ بل هي فقط منعت الحكومة من القيام بذلك. تصبح اللاهيكلة إذن طريقة لتغطية السلطة، وداخل الحركة النسائية غالبا ما تدافع عنها الناشطات الأكثر سلطة (سواء كنّ واعيات بذلك أم لا). طالما كانت هيكلة المجموعة غير رسمية، فإنّ قواعد اتخاذ القرار لن تكون معروفة سوى عند قلّة من الأعضاء، والوعي بتوزيع السلطة لن يتجاوز حدود الأقلية التي تعرف تلك القواعد. أولئك اللواتي لا تعرفن القواعد ولم يتمّ تبنّيهنَ من “القيادة” يبقين في ارتباك ويغمرهنّ هاجس أنّ شيًا ما يحدث ولا علم لهنّ به.

حتى تتوفر الفرصة للجميع لعضوية مجموعة ما والمشاركة في أنشطتها يجب أن تكون الهيكلة واضحة لا خفيّة. قواعد اتخاذ القرار يجب أن تكون مفتوحة ومتاحة للجميع وهذا ليس ممكنا إلا إذا تم وضعها بصفة رسمية. لا يعني هذا أنّ وضع هيكلة رسمية سيُحطّم الهيكلة غير الرسمية. غالبا لا يكون ذلك. لكنها تكبح نفوذ الهيكلة غير الرسمية وتتيح بعض الوسائل لمهاجمتها إن لم يُبدِ أعضاؤها أقل ما يمكن من المسؤولية تجاه حاجيات المجموعة ككل. “اللاهيكلة” مستحيلة تنظيميا. لا يمكن أن نقرر تكوين مجموعة مهيكلة أو لاهيكلية، فقط يمكن أن نقرر إن كنا نريد هيكلة رسمية أم لا. لن تُستعمل هذه الكلمة إذن فيما يلي إلا للإشارة إلى الفكرة التي تمثلها. سنصف بـ”غير المهيكلة” المجموعات التي لم تقم بهيكلة نفسها بطريقة معينة. سنصف بـ”المهيكلة” المجموعات التي قامت بذلك. مجموعة مهيكلة لها دائما هيكلة رسمية ويمكنها أيضا أن تحتوي هيكلة غير رسمية أو خفية. إن هذه الهيكلة الخفية، خاصة في المجموعات غير المهيكلة، هي التي تشكل أساس النخب.

طبيعة النخبوية

“نخبوية” هو على الأرجح أكثر نعت يساء استعماله في حركة تحرير النساء. يتم استعماله بكثرة ولنفس الأسباب، مثلما كان يتم استعمال “بِنْكُو”1 في الخمسينات. ندر ما يُستعمل بطريقة صحيحة. في داخل الحركة عادة ما يشير هذا النعت لأفراد، لكن أنشطة هؤلاء الذين يوجه إليهم وخصائصهم الشخصية مختلفة جدا: شخص ما، كفرد، لا يمكنه أن يكون نخبويا لأن الإستعمال الملائم الوحيد لعبارة “نخبة” ينطبق على مجموعات. أي فرد مهما كان مدى شهرته لا يمكن أن يكون نخبة.

الصحيح أنّ كلمة نخبة تشير إلى مجموعة صغيرة من الناس لديها سلطة على مجموعة أوسع تنتمي إليها، عادة دون مسؤولية مباشرة أمام المجموعة الكبيرة، وغالبا دون معرفتها أو موافقتها. يصبح شخص ما نخبويا عندما يكون جزءا من مثل هذه المجموعة الضيقة أو يؤيّد حكمها كان هذا الشخص مشهورا أو غير معروف بتاتا. الشهرة ليست تعريفا للشخص النخبوي. النخب الأكثر دهاء يديرها أشخاص لا يعرفهم العموم على الإطلاق. يكون النخبويين الأذكياء عادة على درجة من الفطنة تجعلهم يتجنبون الشهرة؛ لأنهم عندما يصبحون معروفين تتم مراقبتهم ويفقد القناع الذي يغطي سلطتهم تماسكه.

النخب ليست مؤامرات. قلَّ ما تجتمع مجموعة صغيرة من الناس وتعمد للتحكم في مجموعة أوسع في سبيل مصالحها. النخب ليست أكثر لا أقل من مجموعة من الأصدقاء تشارك في آن واحد في نفس الأنشطة السياسية. على الأرجح يواصل هؤلاء صداقتهم حتى لو لم يشاركوا في النشاط السياسي؛ ويواصلون على الأرجح نشاطهم السياسي حتى لو لم تتواصل صداقتهم. لكن تزامن هاتين الظاهرتين هو الذي يخلق النخب في أي مجموعة ويجعل كسرها على هذا المستوى من الصعوبة.

مجموعات الأصدقاء هذه تشتغل كشبكات تواصل خارج أي قنوات تواصل إعتيادية يمكن أن تكون المجموعة قد وضعتها. إن لم توضع أية قنوات فهي تشتغل كشبكة التواصل الوحيدة. لكونهم أصدقاء، لكونهم عادة يتشاركون في نفس القيم والتوجهات، لكونهم يتحدثون مع بعضهم البعض اجتماعيا ويتشاورون عندما يجب اتخاذ قرارات مشتركة، الناس المشاركون في هذه الشبكات لديهم أكثر نفوذ داخل المجموعة من غيرهم. نادرة هي المجموعات التي لا تخلق مثل هذه الشبكات من خلال الصداقات التي تنشأ داخلها.

بعض المجموعات، حسب حجمها، يمكن أن تحتوي أكثر من شبكة تواصل غير رسمية واحدة. يمكن حتى أن تتداخل هذه الشبكات. عندما توجد شبكة واحدة فقط من هذا النوع في مجموعة غير مهيكلة بشكل آخر فهي تشكل نخبتها، أراد المتدخلون فيها أن يكونوا نخبويين أم لا. إن كانت الشبكة الوحيدة من هذا النوع في مجموعة مهيكلة فحسب تركيبتها وطبيعة الهيكلة الرسمية يمكن أن تكون نخبة كما يمكن ألا تكون كذلك. إن وجدت اثنتان أو أكثر من شبكات الأصدقاء هذه فيمكن أن تتنافس على السلطة داخل المجموعة وتشكل بذلك تيارات أو يمكن أن تخرج إحداها عن طوعية من المنافسة تاركة الأخرى كنخبة. في مجموعة مهيكلة عادة ما تتنافس إثنان أو أكثر من شبكات الأصدقاء هذه على السلطة الرسمية. هذه غالبا الحالة الأكثر صحية، كون بقية الأفراد يجدون أنفسهم في موقع للتحكيم بين المتنافسين على السلطة وبذلك لتقديم مطالب للطرف الذي يمنحونه ولاءهم المؤقت.

الطبيعة الإقصائية لشبكات التواصل غير الرسمية المبنية على الصداقة ونخبويتها الحتمية ليست ظاهرة جديدة خاصة بالحركة النسائية ولا ظاهرة جديدة على النساء. أقصت علاقات غير رسمية مماثلة النساء لقرون من المشاركة في مجموعات مختلطة كنّ عضوات بها. في أي مهنة أو تنظيم خلقت هذه الشبكات عقلية “حجرات الملابس”2 وروابط “المدرسة القديمة” التي منعت بنجاعة النساء كمجموعة (وأيضا بعض الرجال كأفراد) من التمتع بالمساواة في النفاذ إلى الموارد وتلقي الجزاء الاجتماعي. الكثير من طاقة الحركات النسائية السابقة كانت موجهة نحو جعل هياكل اتخاذ القرار وعمليات الاختيار رسمية حتى تصبح المجابهة المباشرة لإقصاء النساء ممكنة. مثلما نعرف لم تمنع هذه المجهودات الشبكات الرجالية غير الرسمية من التمييز ضد النساء لكنها جعلت ذلك أصعب.

كون النخب غير رسمية لا يعني أنه لا يمكن رؤيتها. في أي من اجتماعات مجموعة صغيرة، أي شخص له عين ثاقبة وأذن سميعة يمكنه أن يعرف من يؤثر على من. أعضاء مجموعة أصدقاء يحاكي بعضهم البعض أكثر من الآخرين. يستمعون لبعضهم بأكثر انتباه ويقاطعون بعضهم البعض أقل؛ يكررون أفكار بعضهم البعض ويتنازلون لبعضهم البعض بلطف؛ يميلون إلى تجاهل أو منازعة “الآخرين” الذين ليس رضاهم ضروريا لاتخاذ القرارات. لكن من الضروري أن يبقى “الآخرون” على علاقة طيبة بـ”الأعضاء”. طبعا الخطوط ليست بالحدة التي رسمتها. هنالك تباينات دقيقة في التفاعل لا سيناريوهات مكتوبة مسبقا. لكن يمكن تبيُّنها، وهي ذات تأثير. عندما يعرف الشخص مع من يجب التثبت قبل اتخاذ قرار ومن تُعتبر مباركته بمثابة الموافقة فهو يعرف من يدير الأمور.

بما أن مجموعات الحركة لم تتخذ قرارا ملموسا بشأن اختيار الأشخاص المخولين لممارسة السلطة داخلها، تُستعمل عديد المعايير المختلفة حول البلاد. أغلب المعايير تندرج ضمن خاصيات الأنثى التقليدية. على سبيل المثال، في الأيام الأولى للحركة عادة ما كان الزواج من متطلبات المشاركة في النخبة غير الرسمية. مثلما تلقنهن ذلك التقاليد، تحاكي النساء المتزوجات أساسا بعضهن البعض وترى أن النساء العازبات لا يمكن أن تكن صديقات مقربات لكونهن تمثلن تهديدا لهن. في عديد المدن رُوِّق هذا المعيار أكثر ليحتوي فقط النساء المتزوجات من رجال اليسار الجديد. لكن وراء هذا المقياس هنالك أكثر من التقاليد، كون رجال اليسار الجديد لديهم في الغالب نفاذ لموارد تحتاجها الحركة – مثل لوائح عنوانين للمراسلات وآلات طباعة وعلاقات ومعلومات – وكون النساء اعتدن الحصول على ما يحتجنه عن طريق الرجال لا بطريقة مستقلة. بتغير الحركة مع مرور الزمن لم يعد الزواج ذلك المعيار الكوني للمشاركة الفعلية لكن كل النخب غير الرسمية تضع مقاييس على أساسها تلتحق فقط بعض النساء اللواتي تمتلكن بعض الخاصيات المادية أو الشخصية. من بين هذه المعايير نجد غالبا: خلفية طبقة وسطى (رغم كل الخطابات حول محاكات الطبقة العاملة)؛ الزواج؛ تقاسم العيش مع شخص ما خارج إطار الزواج؛ المثلية الجنسية أو ادعاء ذلك؛ عمر ما بين العشرين والثلاثين؛ تحصيل شهادة تعليم عالي أو على الأقل إظهار خلفية تعليم عالي؛ التأنق؛ عدم المبالغة في التأنق؛ إتخاذ خط سياسي معين أو التمتع بسمعة كـ”راديكالية”؛ إنجاب أطفال أو حب الأطفال على الأقل؛ عدم إنجاب أطفال؛ شخصية ذات خاصيات “أنثوية” مثل “اللطف”؛ إرتداء ملابس جيدة (كان ذلك حسب الأعراف التقليدية أو المناهضة للتقاليد)؛ إلخ. هنالك أيضا دائما بعض الخاصيات التي تجعل شخصا ما يصنف كـ”منحرف” لا يجب محاكاته. من بينها: العمر المتقدم؛ عمل قار، خاصة إن كان الشخص منهمكا في “مسيرة مهنية”؛ شخصية غير “لطيفة”؛ المجاهرة بالعزوبية (أي عدم ممارسة الغيرية-الجنسية ولا المثلية-الجنسية).

يمكن إدراج معايير أخرى لكن كلها تندرج تقريبا ضمن نفس المحاور. الخاصيات التي تتطلبها المشاركة في نخبة غير رسمية في الحركة، وبذلك ممارسة السلطة، تتعلق بخلفية الشخص وشخصيته وجدول أوقاته. لا تدخل فيها كفاءة الشخص وتفانيه من أجل النسوية ومواهبه أو ربما مساهمته في الحركة. المعايير السابق ذكرها تُستعمل عادة لاختيار الأصدقاء. المعايير الأخيرة هي التي يتوجب على أي تنظيم أو حركة أن تستعملها إن أرادت أن تكون فعالة سياسيا.

معايير المشاركة يمكن أن تختلف من مجموعة إلى أخرى لكن وسائل عضوية النخبة غير الرسمية هي تقريبا نفسها في حالة طابق الشخص هذه المعايير. الإختلاف الأساسي الوحيد يتعلق بكون شخص ما متواجد في المجموعة المعنية منذ البداية أو التحق بها بعد انطلاقها. إن شارك الشخص منذ البداية، من المهم أن يقوم بإلحاق أكثر ما أمكن من أصدقائه بالمجموعة. إن كان الجميع لا يعرفون بعضهم البعض جيدا، يجب العَمْد إلى تشكيل عدد معين من الصداقات داخل المجموعة ووضع منوال التواصل غير الرسمي الضروري لخلق الهيكل غير الرسمي. من لحظة تشكيلها تشتغل هذه المناويل غير الرسمية على ضمان ديمومتها، ومن أنجح التكتيكات لضمان الديمومة هو الاستمرار فانتداب أناس جدد “مناسبين”. يلتحق الشخص بهذه النخب بنفس الطريقة التي يلتزم بها في ناد نسائي3. إن بدى كإضافة ممكنة للمجموعة، يتم الدفع به من قبل أعضاء الهيكل غير الرسمي ومن ثمة إسقاطه أو تبنيه. إن كان هذا “النادي” يفتقر للوعي السياسي الكافي للخوض بنشاط في هذه العملية بنفسه، يمكن أن يستهلها العنصر الخارجي المُستقطَب بنفس الطريقة التي يلتحق بها الشخص بنادٍ خاص. إختاري راعية، أي إختاري عضوة من النخبة يبدو أنها تحظى بقدر من الاحترام داخلها واسعَيْ بنشاط لكسب صداقتها. في النهاية ستقدمك للدائرة الضيقة.

كل هذه الإجراءات تأخذ وقتا. لذلك عندما يعمل شخص ما دواما كاملا أو تكون لديه التزامات كبيرة مماثلة يكون عادة انضمامه من المستحيل، لأنه ببساطة لا يتبقى ساعات كافيه للذهاب إلى كل الإجتماعات وصيانة العلاقات الشخصية الضرورية ليكون له صوت فاتخاذ القرار. لذلك فإن هياكل اتخاذ القرار الرسمية نعمة للأشخاص المجهدين من العمل. وجود إجراءات رسمية لاتخاذ القرار يضمن مشاركة الجميع فيه إلى حد ما.

رغم كون هذا التشريح لعملية تشكل النخب داخل المجموعات الصغيرة نقدي في منظوره، فهو لم يُنجَز معتقِدا أن هذه الهياكل غير الرسمية سيئة لا محالة – فقط أنها حتمية. كل المجموعات تخلق هياكل غير رسمية كنتيجة لنماذج التفاعل بين أعضائها. مثل هذه الهياكل غير الرسمية يمكن أن تقوم بأشياء مفيدة جدا. لكن فقط المجموعات غير المهيكلة هي التي تخضع لحكمها. عندما تجتمع نخبة غير رسمية مع أسطورة “اللاهيكلية” لا يمكن أن تتواجد مساعي لوضع حد للتسلط. يصبح الأمر مسألة نزوات.

هذا له نتيجتان سلبيتان محتملتان يجب علينا الوعي بهما. الأولى أن هيكل اتخاذ القرار غير الرسمي سيكون مشابها لناد نسائي – حيث يستمع الناس للآخرين لكونهم يستحسنونهم لا لقولهم أشياء مهمة. مادامت الحركة لا تقوم بأشياء مهمة هذا ليس مشكلا. لكن إن كان لتطورها ألا يتوقف في هذا الطور الابتدائي، فسيتوجب تغيير هذه النزعة. الثانية هي كون الهيكل غير الرسمي ليس ملزما بأن يكون مسؤولا أمام المجموعة ككل. سلطتهن لم تمنح لهن؛ لا يمكن انتزاعها منهن. تأثيرهن ليس مبنيا على ما يفعلنه لصالح المجموعة؛ لهذا لا يمكن للمجموعة التأثير عليهن مباشرة. هذا لا يجعل الهياكل غير الرسمية بالضرورة غير مسؤولة. عادة ما تحاول الحريصات على الحفاظ على تأثيرهن أن يكنّ مسؤولات. لكن ببساطة لا يمكن للمجموعة فرض هذه المسؤولية؛ فهي رهينة مصالح النخبة.

منظومة “النجومية”

فكرة “اللاهيكلية” خلقت منظومة “النجومية”. نعيش في مجتمع ينتظر من المجموعات السياسية أن تتخذ قرارات وأن تختار أناسا يبلورونها للعموم. الصحافة والرأي العام لا يعرفون الإستماع بجدية للنساء فرديا كنساء؛ هم يريدون معرفة موقف المجموعة. لا توجد إلا ثلاث تقنيات لتحديد رأي مجموعة جماهرية: التصويت أو الإستفتاء، إستطلاع الرأي العام عبر الإستجواب، إختيار ناطقين باسم المجموعة عبر اجتماع مخصص لذلك. حركة تحرير النساء لم تستعمل أية من هذه للتواصل مع العموم. لم تقم الحركة ككل ولا المجموعات العديدة داخلها بوضع وسائل لتفسير مواقفها من مختلف المسائل. لكن عموم الناس مكيفون للبحث عن ناطقين رسمين.

في حين أنها لم تختر بإرادتها ناطقات باسمها، دفعت الحركة بنساء عدة اختطفن أنظار العموم لأسباب مختلفة. هؤلاء النساء لا يمثلن مجموعة معينة ولا موقفا معينا؛ وهن يعرفن هذا وعادة ما يقلنه. لكن لغياب أي ناطقة رسمية وأي جسم لاتخاذ القرار يمكن للصحافة استفساره عندما تريد معرفة موقف الحركة في موضوع ما، تبدو هذه النساء كناطقات رسميات. إذن، أردن ذلك أم لا، أرادت الحركة ذلك أم لا، النساء المعروفات لدى العموم يوضعن دور الناطقات لشغوره.

هذا مصدر أساسي لشعور الغيض الغالب تجاه النساء اللواتي يتم تصنيفهن كـ”نجمات”. لكونهن لم يُخترن من قبل النساء في الحركة لتمثيل مواقفها، تتم مواجهتهن بالإمتعاض عندما تدّعي الصحافة أنهن يتحدثن باسم الحركة. لكن ما دامت الحركة لا تختار ناطقات باسمها، ستوضع نساء مماثلات في هذا الدور من قبل الصحافة والعموم، بغض النظر عن رغباتهن.

لهذا العديد من المخلفات السلبية على كل من الحركة والنساء المصنفات كـ”نجمات”. أولا، لكون الحركة لم تكلفهن بدور الناطقات لا يمكنها عزلهن. الصحافة هي التي وضعتهن في هذا الموقع ووحدها الصحافة يمكنها أن تختار ألا تستمع لهن. وستواصل الصحافة البحث عن “نجمات” كناطقات باسم الحركة لا طال ما ليس لديها بديل رسمي تتجه نحوه لأخذ التصريحات التي تمثل الحركة. ليس للحركة أية سيطرة على اختيار ممثلاتها أمام العموم ما دامت تعتقد أنها يجب ألا يكون لها ممثلات على الإطلاق. ثانيا، النساء اللواتي يتواجدن في هذا الموقع عادة ما يجدن أنفسهم محل تهجم قاس من قبل أخواتهن. هذا لا يحقق شيئا للحركة وهو مدمر ومؤلم للأفراد المعنيين. ينتج عن هذه التهجمات أن هذه المرأة إما تغادر الحركة تماما – غالبا متغربة تغربا مرا – أو أنها تتوقف عن الإحساس بالمسؤولية تجاه “أخواتها”. يمكن أن تحافظ على بعض الولاء للحركة، يتصف بالضبابية، لكنها لم تعد تتأثر بعد بالضغط من قبل نساء أخريات من داخل الحركة. لا يمكن للشخص أن يشعر بالمسؤولية تجاه أناس كانوا مصدرا لمثل هذا الألم عدا أن يكون مازوشيا، وهؤلاء النساء عادة أقوى من أن ينحنين أمام هذا النوع من الضغط الشخصي. ردة الفعل على منظومة النجومية تشجع إذن في الواقع ذلك النوع من الفردانية اللامسؤولة التي تندد بها الحركة. بإزاحة أخت لكونها “نجمة” تخسر الحركة أي سيطرة كان يمكنها أن تمارسها على ذلك الشخص الذي يصبح بذلك حرا في ارتكاب كل المعاصي الفردانية التي تم اتهامه بها.

يتبع…


1. Pinko بالإنجليزية وهي عبارة كانت تستعمل لازدراء المتعاطفين مع اليسار والشيوعية خاصة في الولايات المتحدة .

2. إشارة إلى ما يقال في الخفاء بين الرجال ويتم إخفاؤه في العموم خاصة لطابعه الذكوري.

3. Sorority.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !