رأيْ | “الكبت يولّد الانفجار سي علاء” كيف يخلق النظام من شعبه بركانا؟

بقلم هيثم القاسمي

هيثم القاسمي

“تتوالى هجمات الفريق الضيف.. لكن التعديل يأتي مبكر.. واحد اثنين وتتوالى هجمات الفريق الضيف.. دقيقة 84 نتبع العملية واحد اثنين “هاريسون أفول” والكورة في وسط الميدان.. الهدف الثالث وتتوالى الهجمات للبقلاوة.. لكن تبع غازي الشلوفي يقوم بسلسلة مراوغات والهدف الرابع..”.

جانفي 2020، قفصة.

وُلِدتُ وترعرعت في مدينة قفصة أين تعلمت كرة القدم ولعبة الغميّضة. وبعد عقد من مغادرتها، أقع على هذا الفيديو على وسائل التواصل الاجتماعي بهذا التعليق الكروي الساخر.

أخذت القنابل المسيلة للدموع مكان كرة القدم وأصبح الكر والفر خوفا من الإيقاف والإيداع في السجن بدل خسارة اللعبة وتنمّر الأقران.

الفيديو : https://www.facebook.com/watch/?v=167898345123724

إنه شهر جانفي الذي اكتسب في تونس صفة الاله الذي سُمِّيَ به: يانوس: إله البوابات والمداخل والانتقالات والطرق والممرات والمخارج.. مثير النزاعات والحروب والسلام وحاسمها.

كان ولازال شهر جانفي شهر الاحتجاجات والانتفاضات والثورات عبر تاريخ تونس حتى صار تقليدا سنويا قبل ثورة 2010-2011 وبعدها.

وصاحب هذا التقليد التاريخي تقليد فكري يتمثل في سؤال: لماذا تأخذ هذه الاحتجاجات شكل التعبيرة الحادة والخشنة؟

في هذا المقال محاولة لتفكيك هذا التساؤل والإجابة عنه.

الكبت الوجودي:

من أهم مكاسب الثورة التونسية (2010-2011) حرية التعبير. ومنذ تغيير رأس النظام، بقي الجدل قائما حول تحديد هذا المفهوم. ولئن اهتم هذا النقاش بجزء “الحرية” بتعريف مجالاتها وحدودها فإنه تغاضى عن مفهوم “التعبير”.

في اللسان العربي، يعود أصل كلمة “التعبير” الى جذر [عبر] ويفيد الانتقال والمرور. أما فعل التعبير فهو “عبّر” على وزن الصيغة المزيدة “فعّل” التي تفيد التعدية وعبّر فلان عمّا في نفسه أي أعرب عنها وبيّنها وأظهرها.

أما في اللسان اللاتيني، فإن كلمة expression تتكون من Ex وتعني “الخارج” و Pression وتعني “الضغط”. فمعنى التعبير في اللغات ذات الأصل اللاتيني يفيد خروج الضغط.

وفي اللسانين نتحصل على معنى العبور والمرور والإخراج ونستنتج اظهار وأداء (performativity) مكنونٍ ما للعالم الخارجي.

ولئن تم اختزال حرية التعبير في خاصيتها الكلامية فقط في وسائل الاعلام والانتاج الفني والاحتجاج على مواقع التواصل الاجتماعي، فانه تم التغاضي عن مظاهر التعبير الأخرى بل وقمعها سلطويا ومؤسساتيا.

ولا يختلف اثنان في أن تمثّل السلطة التنفيذية في المخيال الشعبي التونسي يُختزل في الشرطة. ولعل عبارة “الحاكم” التي تطلق على البوليس أبلغ دليل على ذلك. ومردّ هذا التمثل يعود الى تشعّب وامتداد الذراع الأمنية الى كل تفاصيل حياة المواطنين/ات اذ يصل الأمر الى احتلال مجالهم العام والخاص من قبل العين واليد البوليسية. وفي ما يلي، سيناريوات واقعية تحدث يوميا في البلاد التونسية مع فئات مختلفة من المجتمع التونسي:

الحاكم و “الفرارات”:

من العادي أن يوقف الحاكم شخصا مارّا من شارع الحبيب بورقيبة مطالبا اياه بالاستظهار ببطاقة تعريفه. إجراءات عادية ولكنها تخفي في ثناياها العديد من التفاصيل.

تكون عملية اختيار الأشخاص مرتكزة في العادة على مظهرهم إذ يحدد الحاكم ما إذا كان هذا الشخص “مثيرا للريبة”. فإذا كان الشخص “فرارًا” يعبّر عن نفسه بتسريحة شعر “غريبة” أو هندام “غير محترم”، فإن احتمال إيقافه ومطالبته بالاستظهار بأوراق هويّته عالٍ جدا. وتستمر الهرسلة في حال كان محل سكناه أو مسقط رأسه منطقة شعبية. فتتم مساءلته باحتقار عن سبب وجوده في وسط البلاد.

كيف لا يقوم الحاكم بهذه الممارسات، ومن المعلوم أن جامعات الحقوق في تونس مازالت تدرّس نظريات “سيزاري لومبروزو” في العلوم الاجرامية، التي تتلخص في أن المجرمين يشتركون في ملامح جسدية تعطي للملاحظ القدرة على كشف شخصياتهم المنحرفة.

الحاكم والنساء:

تتعرض النسوة في بلاد الحاكم إلى هرسلة مضاعفة لتلك التي يتعرض لها الرجال. فيا ويلها تلك التي يتم إيقافها في حالة سكر في الطريق العام أو في وسيلة نقل. حسب القانون التونسي، حالة السكر وحدها ليست بتهمة أو جريمة عند السلطة القضائية، ولكن الحاكم يلجأ للسلطة الاجتماعية الأبوية ويهدد الفتاة – التي اختارت أن تعبّر عن فرحتها أو حزنها بمعاقرة الكحول – بمهاتفة والدها وإعلامه بحالتها منتقلا بذلك من سلطته الأمنية إلى سلطة ولي أمرها الأبوية.

الحاكم ومجتمع الميم-عين:

تطول يد السلطة الأمنية مجتمع الميم-عين حين ت/يعبّر أفراده عن هويّتهمن الجندرية بمظهرهمن الخارجي. فتلاحق عصاها كل من لم يرُق مظهره/ا لعون الأمن الواقف على قارعة الطريق أو ذلك المعشش في مواقع التواصل الاجتماعي. فيكون القانون 230 – الذي ينص على أن “اللواط أو المساحقة إذا لم يكن داخلا في أي صورة من الصور المقرّرة بالفصول المتقدّمة يعاقب مرتكبه بالسجن مدة ثلاثة أعوام” – لهمن بالمرصاد.

الحاكم والمحتجون/ات السلميون/ات:

يوم 14 جانفي 2020، منعت قوات الحاكم عائلات شهداء الثورة وجرحاها من التعبير عن حنقهم من المماطلة الحكومية في نشر القائمة النهائية فلم يستطيعوا الوصول والاحتجاج أمام وزارة الداخلية (المسؤولة الأولى عن مصابهم). كما اعتدى الحاكم ليلة 30 نوفمبر 2020 بالغاز المسيل للدموع على اعتصام الدكاترة المعطلين عن العمل أمام وزارة التعليم العالي.

الكبت الاقتصادي

عدى هذه المظاهر العينية لاعتداء الحاكم على حرية تعبير المواطنين/ات، فإن الملاحظ أن جل التحركات “الجانفية” في تونس تكون في الأحياء الشعبية لمدن الشريط الساحلي وفي المناطق الداخلية للبلاد التونسية. ولسائل أن يسأل، تفسيرا لا تبريرا أو استنكارا، عن الأسباب المادية العلمية – لا الحتمية الانطباعية –  لهذا الغضب الموجود في هذه المجالات الجغرافية-الاجتماعية-الاقتصادية.

حسب خريطة الفقر التي نشرها المعهد الوطني للإحصاء بالتعاون مع البنك الدولي فإن  نسب التفاوت الموجودة بين أحياء المراكز وأحياء الهوامش ظاهرة للعيان. ولعل تطابق خريطة أحزمة الفقر مع خريطة مناطق الاحتجاجات خير دليل على الكبت الاقتصادي الذي تمارسه السلطة على مناطق محددة من البلاد التونسية عبر تاريخ الدول المتعاقبة عليها.

(يُنصح بالاطلاع على كتاب الصغيّر الصالحي: “الاستعمار الداخلي والتنمية غير المتكافئة، منظومة «التهميش» في تونس نموذجا” من أجل فهم أكثر عمقا ونبشا في تاريخ الكبت الاقتصادي في تونس).

ثم دخلت علينا سنة 2020 بجائحتها. واتخذت جل دول العالم حلولا أمنية بحتة للتعامل مع هذا المصاب الجلل. ولم تكن البلاد التونسية استثناء – كما روّجت لذلك الحكومة السابقة (أفضل حكومة منذ الثورة) – إذ اتخذت المنحى الأمني (حجر صحي عام، منع جولان، حظر تنقل…) كأساس للتعاطي مع المعطى الصحي الجديد دون الاهتمام المعمّق بالأزمة الاجتماعية والاقتصادية التي خلفتها هذه الجائحة.

عند دخول فيروس كورونا للبلاد التونسية، تفاجأت السلطة باكتشاف عدد المعطّلين/ات عن العمل وعدد العاملين/ات في القطاع غير النظامي وعدد المواطنين/ات من مستحقي/ات السند الاقتصادي.

وعند رجوع الفيروس في “موجة ثانية”، تبجحت السلطة بعدد الموقوفين/ات المخالفين/ات لحظر التجول ليلا وعدد رخص السياقة والبطاقات الرمادية المحتجزة في نقاط التفتيش والمعابر المنصوبة في مختلف الطرقات.

وفي المقابل، لم يتم اتخاذ أي إجراءات تفرض حجرا صحيا عاما يضمن كسر حلقات انتشار الفيروس وتوجه مساعدات مالية لمن فقدوا سندهم الاقتصادي. لم تتجرأ السلطة على أرباب الأعمال في المؤسسات الخاصة كي تجبرهم على احترام كرامة عمالها وعاملاتها بما يحفظ صحتهمن وقوت يومهمن.

فرمى هذا التعامل الأمني البحت (المقرر من قبل رئيس الحكومة الحالي ووزير الداخلية السابق) الفئات المهمشة والمكبوتة اقتصاديا بين مطرقة المرض وسندان الجوع.

الانفجار الاجتماعي:

انطلاقا من تعريف مفهوم “التعبير” وتبيان الممارسات السلطوية التي تمارسها الدولة عبر ذراعها الأمني والاقتصادي، لا نحتاج محللا نفسيا كي نستخلص أن “الكبت يولّد الانفجار سي علاء”. فمن المعروف والمتفق عليه عامّيّا وعلميّا بأن دفن المشاعر السلبية وكبتها يجعل التعبير عنها ذا طابع تنفيسي حاد يصل الى درجة الانحراف (بالمعنى النفسي). ومن غير المنطقي أن يخرج شباب ليلا كي يواجه العنف البوليسي القاتل والعنف الاجتماعي الواصم فقط من أجل “متعة العنف”. لا يحتاج الأمر كل هذه التضحية لو لم تقطّع بهم كل السبل.

فقد انخرطت الفئات المهمشة، بعد الثورة، في عملية الانتقال الديمقراطي وشاركت في جميع الانتخابات التأسيسية منها والتشريعية والرئاسية والبلدية. فذهبت أصواتهم إلى أحزاب استغلت بؤسهم فوعدتهم بجنة على الأرض وجنة في السماء ثم تمت مواجهتهم بالوصم المتعالي من قبل أحزاب لم تنجح في تحليل واقعهم واحتوائهم لتغييره.

وطالب الشباب بحقوقه بجميع الوسائل السلمية المتاحة عبر النشاطات الثقافية (خاصة بموسيقى الراب) ووجه نداءات إلى كل السلط المعنية عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

إن التحليل المادي المنطقي لا يعترف بوجود العنف من أجل العنف، كما يحتّم على كل فعل ردة فعل معاكسة. العنف المؤسساتي النظامي المسلط أمنيا واجتماعيا واقتصاديا على الفئات المهمشة هو أصل الداء. وإن لم تجمع هذه الفئات مثل عليا ايديولوجية أو هَوَوِية فإنها تجمّعت حول مشاعر الغضب والإحساس بالحڤرة الطبقية كي تواجه هذا العنف المسلط عليها يوميا.


صورة واجهة المقال : ياسين القايدي

التحرير: الأراء التي يعبّر عنها في مقالات الرأي تلزم أصحابها، ولا يتحمّل فريق تحرير الموقع أيّ مسؤولية عنها، بغضّ النظر عن موقفه منها.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !