رأيْ | مات اليسار التونسي، عاش اليسار التونسي

بقلم هيثم قاسمي

مضى عقد على الثورة التونسية وظل اليسار التونسي التقليدي على حاله كما قبل الثورة. كل المعطيات المجردة، والتي تنفي الاستنكار المشوب باعتزاز كذاب، تشير إلى موته السريري أو الاحتضار التدريجي، أو دعونا نقلها بصراحة، الموت الكامل. غير أن الموت لا يعني الاندثار، فلا حل لنا إلا اليسار، في تونس خاصة، في مواجهة القوى النيوكولنيالية في الداخل وفي الخارج. بعيدا عن الحلول الأحادية، والتي هي من أبرز أسباب انهيار اليسار التونسي، أريد في هذا المقال أن اطرح حلولا مكثفة لإحياء يسار تونسي جديد يعتمد على ثلاثية الكمال،الاستطيقا  والاخلاق.  

أين هو اليسار التونسي اليوم؟ قد نبحث هنا وهناك عن بعض الوهج، عن بعض الحضور البارز في الانتخابات، في البرلمان، في تطلعات التونسيين والتونسيات إلى مستقبل أفضل فلا نجد أي أثر يذكر. يرد بعض المتفائلين، لاعبي النرد، بأن اليسار التونسي موجود وحي، بأنه على الميدان، في بعض المظاهرات هنا وهناك، بعض الانتصارات بين الفينة والأخرى. قد يكونون على حق، فالنار القريبة الإنطفاء ترسل شعلة صغيرة بين الحين والأخر قبل أن تنطفئ تماما تحت رماد ثقيل في أخر الليل. 

لا رغبة لي في الغوص في الرماد، أو في ذره في عيون مواطنين منهكين كارهين لمطعم الرماد والخيبة. كثيرون من الجيلين القديم والجديد كتبوا كثيرا وبشكل واضح وبليغ عن أسباب خيبة اليسار التونسي وما وصل إليه من إحتراق وتشظي. هناك من تحدث عن الأزمة، اخرون فضلوا الخوض في العزلة، في حين إختار أكثرهم نزقا مهاجمة حالة الفصام الفكري. هذه أشياء ألفناها وتكاد تكون مفردات وتعابير خاصة بقدرة اليسار الفريدة على جلد الذات والتمعن فيه من أجل الشعور بشيء و إطالة زمن الموت السريري قبل موت رحيم. لكن الموت الرحيم تم، فالفئات المواطنية (وليست الشعبية فقط)، أساس كل شيء، تخلصت من يسار-جثة في كل فرصة سانحة، اخرها إنتخابات 2019. 

حان وقت التخلص من وجوه الرماد القديمة – الجديدة وأن أوان البحث عن خشب جديد. إن للأزمة، أي أزمة، قدرة ثورية فريدة لا يمكن لأحد تحديد قوة ومدى تجلياتها واندفاعها لأن وقيدها هي المفاجأة العفوية والإرادة الخلابة، ولا أحد قادر على تحديد مكان وزمان المفاجأة. لا أعرف من سيكون خشب اليسار التونسي الجديد، ولكن مساعي ثلاث أراها مفصلية في إنارة مسارات الخلق الجديد. 

المسعى الأول: القوة الكاملة

على اليسار الجديد أن يغير جذريا من تموقعه العقلي من الداخل وفي علاقته بالقوى السياسية المنافسة. أولا، مهم جدا أن يكف اليسار الجديد في الخوض مرة أخرى في مسائل وإشكاليات إعادة إنتاج الخطاب والأليات والإلتحام بالفئات الشعبية. على العكس تماما، عليه أن يرى ويعرف بنفسه على أنه الأساس وليس مرحلي أو ضرفي أو حل وقتي. استعين هنا بفكرة “القوى الكاملة”، وهي طرح مجرد لاديني لفكرة الإنسان الكامل لدى إبن عربي التي وطنت مصطلح “logos” لدى الإغريق. إعتمادي هنا على فكرة “القوى الكاملة” بدل فكرة “العقل” سببه ضرورة الجمع بين المادي واللامادي كأساس جيد لخلق كيان سياسي جديد عابر. إن مهمة اليسار هي مهمة الإنسان (ومهمة الكون نفسه) فمفاهيم الحرية والكرامة والحقوق هي أولا وأخيرا مفاهيم يسارية، نجحت قوى استغلالية مستبدة في احتلالها وجعلها جزأ منها. ثانيا، في تموقع اليسار التونسي والدفع بفكرة أنه هو الأساس انما هو نوع من إرجاع الأمور إلى نصابها وفي الآن نفسه فرصة لإفراغ القوى السالبة من قدرتها على الاستيلاء على كل ماهو طبيعي وعضوي.

أن يتموقع اليسار التونسي على أنه الأصل لا يعني اتباع الوصولية الفكرية. استعين هنا بفكرة “العبر” (أو ال “trans”) لأؤكد بأن على اليسار أن يكون قوة عابرة بشكل تنصهر وتتقاطع فيه كل القوى التحريرية الأخرى القائمة على العرق والإثنية والمكان (الساحل والداخل) والطبقة (بما فيها الطبقات دخل كل طبقة وكذلك الإتنماء الطبقي ألقائم على الرغبة) والجنسية والإعاقة والبيئة وغيرها بلا إقصاء أو شذرمة. اليسار الأصل هو يسار ممكن لأن يكون كل شيء منه وفيه. 


بهذا الشكل، سيتخلص اليسار التونسي الجديد من الهوس القديم وفانتازيا “الإلتحام الفئات الشعبية”. هذه “الفئات الشعبية” المتخيلة هي في الغالب مزاجية تختار من تراه الأقدر على تحقيق مصالحها اليومية. على اليسار الجديد إذن أن يكون دائما جاهزا لأن يرى فيه المواطن التونسي العاديالقدرة  على تمكينه من مبتغاه بشكل يجعله يقترب منه ويختاره بشكل نفعي. 

اليسار التونسي الأصل كقوة كاملة عليه أن يتخلص من شائبتين أراهما عائقين مهمين أمام عملية التموقع الداخلي والخارجي. أولا، على خشب اليسار الجديد أن يكف عن التتلمذ. هناك حالة من المراهقة السياسية لليسار التونسي الحالي مقترنة بالهوس بالنشاط الطلابي كقوة مركزية مما ولد هوة واسعة مابين فئة شبابية تجتر تعابير وطرق تنظيم خاصة بذلك النشاط الطلابي من صنف الهواة ودينصورات يسارية لم تنقرض بعد. ثانيا، المراهقة السياسية للشباب اليساري الحالي لها مظاهر عدة ولكن أبرزها الإفتنان السمج باللغة التقنية وايقونات اليسار العالمي. إستعمال مصطلحات يسارية تقنية كالبروليتاريا، البراكسيس، القوة التاريخية، الكومبرادور أو الإشارة إلى ماركس وغرامشي وتروتسكي يجب أن يكون محددا في دوائر خاصة، في حين يجب مخاطبة الناس بمفردات يستعملونها بشكل يومي والإحتفاء بأشخاص وأعلام من بيئتهم المحلية اليومية. 

 المسعى الثاني: اليسار الجديد كمشروع استطيقي كذلك

يجب على اليسار الأصل الجديد أن يدفع بمشروع استطيقي يقوم على الإهتمام الكامل بمفهومي التلقي والرغبة. أولا، على اليسار التونسي الجديد أن يكون منتبها وبإستمرار لكيفية ومدى تلقي المواطن التونسي العادي (من الفئات الشعبية وكذلك، وهذا مهم جدا، من الفئات الوسطى و الغنية) لافكاره ومشاريعه. هناك ضرورة بالغة في الكف من إستعمال تعابير من نوع “ثورة جديدة” أو “تغيير جذري” وغيرها لأن التونسيين والتونسيات كرهوا هذه التعابير وكل مايريدونه الأن بعض من الراحة والإستقرار. على اليسار الجديد أن يقدم نفسه على أنه قوة حامية قادرة ومتمكنة.

 مهم كذلك أن يكف اليسار التونسي على تقديم نفسه من خلال كاريكاتير المناضل اليساري ذي الشعر الأشعث والذي يتلخص عمله السياسي في دور الضحية في إضراب جوع في حالة رثة. طبعا تقديري ومساندتي المطلقة لمضربي الجوع الأحرار في كل زمان ومكان. ليست هنا المشكلة، ولكن هناك ضرورة كبرى في تفكيك هذه الصورة النمطية لليساري لدى التونسي العادي. 

ثانيا، لكي ينجح اليسار التونسي في أن يخلق من جديد عليه أن يفهم وينسجم بشكل كامل مع رغبة الشخصية التونسية العامة. أعتقد بشكل كبير بأن الرغبة، وليس فقط الجانب المادي، هي مايحدد الإنتماء الطبقي لأفراد الشعب. هطبعا لدى أي شخصية عامة، تونسية أو غيرها، رغبات فاشية نتيجة لتغلغل بذور إستعمارية فيها، لكن على اليسار الأصل أن يقترن بما يتلائم مع جوهرها الإنساني الكوني مما يمكن من جهة بأن تحقق العامة رغبتها في أن تكون ذات إنتماء وصيت عالميين ومن جهة أخرى يمكن لليسار الأصل أن يلتحم بالشخصية التونسية ويخلصها من شوائب الإرث الإستعماري ومابعد الإستعماري. 

مهم جدا كذلك أن تكون لليسار الجديد قناعة كاملة بأن رغبات المواطنين والمواطنات التونسيين هن الأساس وأن الشعب هو الذي يحكم دائما وأبدا. فعندما يرى الشعب مثلا  أن مهمة الدولة أن تجد أو تخلق فرص عمل لكافة المواطنين من الشمال إلى الجنوب، فعلى اليسار الجديد أن يجعل هذا المطلب جزأ لا يتجزأ من برنامجه الإنتخابي أو السياسي وبشكل كامل. 

أريد أن أؤكد مرة أخرى بأن أي مشروع اليسار التونسي الجديد يجب أن يكون مشروعا جامعا لا مكان فيه للإقصاء. على خشب يسارالجديد أن يكون من الفئات الشعبية وكذلك من الفئات المتوسطة/الغنية، من الساحل ومن الداخل، من نساء العاصمة وكذلك من نساء الداخل، من المواطنين في الداخل والخارج. 

هذا كله كلام جميل، غير أنه كلام عل ورق. ارى أن الحلالأهم  للإنتقال من التنظير إلى التطبيق فيما يخص المشروع الاستطيقي هو أن يمتلك اليسار التونسي الجديد أدواته الإعلامية التلفزية الخاصة به. طبعا الكتابة مازال لها تأثيرها، ومنصات إلكترونية كهذه وغيرها لها أهميتها، غير أنه يجب أن نعي بأننا في المستقبل القريب سنخاطب أجيالا ترى العالم بشكل كامل من خلال الإعلام البصري فقط لأنها نشأت على أدوات التواصل الإجتماعي.  

لا مجال ليسار التونسي أن يخلق من جديد وأن يحقق مشروعه الاستطيقي  إذا لم يمتلك قناته (أو قنواته التلفزية) الخاصة وأن يكون له حضور بصري بارز مما سيؤدي إلى توسع مجالي التلقي والرغبة بينه وبين المواطن العادي. 

المسعى الثالث: ليس على اليسار الجديد أن يكون نقيا أخلاقيا

يجب على اليسار الجديد أن يقطع مع فكرة النقاء والعلوية الأخلاقية. لا أقصد هنا أن على اليسار الجديد على يتنكر للمبادئ والقضايا الكبرى، وأولها فلسطين. على العكس، عليه أن يكون أكثر مواجهة ضد قوى استغلالية وفاشية ذات استعداد لوجيستي ومادي كبيرين. 

أولا، في علاقته مع قوة سياسية منافسة تستعمل أرخص الأساليب لتضمن لها مكان في الحكم، على اليسار التونسي الجديد أن يكثف من الإستقطاب الشعبي. هناك الكثير من مكونات المجتمع التونسي من أفراد ومنظمات مدنية التي تقدم نفسها على أنها يسارية أو ذي توجه يساري، في حين أنها تبنى خطابا وحلولا ليبرالية أو نيوإستعمارية. بدل رفضهم أو اقصائهم، على اليسار الجديد أن يستقطب هذه المكونات السلبية ويستعملها ضد نفس القوى الليبرالية. 

ثانيا، على اليسار الجديد أن يكون أكثر برجماتية في علاقته برأس المال والاستقطاب المالي. عليه أن يوسع من شبكة علاقته باليسار العالمي بشكل مكثف ودائم وليس فقط مع يسار اليسار بل مع جميع أطياف اليسار في الشمال والجنوب. إذا كان المال السياسي المتداول حاليا في تونس أغلبه ذو مصدر خارجي، فيجب إذن على اليسار التونسي الجديد أن يضمن كذلك تمويلا واسعا لأنشطته وبرامجه من خلال اتفاقيات وبرامج تعاون مع احزاب شمالية ومنظمات دولية يسارية بشكل محترف وقاطع مع مظاهر التقوقع التي نشاهدهاداخل  اليسار التونسي والعربي الأن.   


في الختام، من البديهي أن نأكد بأن لليسار التونسي مهمة إنسانية كونية، وهذه الأشياء لا تموت. وما طرحي لثلاثية الكمال و الاستطيقا والأخلاق إلا محاولة لإنارة مسارات إحياء يسار تونسي جديد. 


التحرير: الأراء التي يعبّر عنها في مقالات الرأي تلزم أصحابها، ولا يتحمّل فريق تحرير الموقع أيّ مسؤولية عنها، بغضّ النظر عن موقفه منها.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !