معارك “الهُويّة” : السلاح القديم المتجدّد لحزبيْ الغنوشي وموسي للتغطية على الإفلاس والإفلات من غضب الناس

رأي – سياسة وطنيّة

بدايةً، كامل التضامن مع أعضاء الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري (الهايكا)، ورئيسها المحترم النوري اللجمي، في وجه ما حصل لهم اليوم من حصار من سعيد “صاحب الشياه الضائعة” وأنصاره، الذين قدموا لتكفير الهيئة والدفاع عن قضيّة باطلة. فهذه الهيئة، رغم كلّ ما يمكن أن يُوجّه لها من انتقادات، هي من المؤسسات العمومية القليلة (إلى جانب مثلا محكمة المحاسبات وهيئة الحقيقة والكرامة وهيئة النفاذ للمعلومة وهيئة الوقاية من التعذيب) التي صدّق المشرفون عليها أنّنا فعلا في حالة “انتقال ديمقراطي” وحاولوا تحصيل بعض المكاسب الديمقراطية الليبرالية التي تهمّ كلّ طبقات الشعب وفئاته. لكن فاتهم أنّه لا يمكن الحديث عن ديمقراطية فعليّة في بلاد شبه مستعمَرة وتحكمها أو تتنافس على حكمها عصابات برجوازية سمسارة…

وعلى ذكر هذه العصابات البرجوازية السمسارة المسيطرة على مفاصل الدولة والمشهد السياسي (ويمثلها اليوم في السلطة: حركة النهبة، قلب المقرونة، وائتلاف البهامة، وفي المعارضة حزب الزغراطة الأحرار… وليعذرني القارئ على “التنابز بالألقاب” الحزبيّة، فهؤلاء قومٌ لا أخلاق لهم رغم ادعائهم التخلّق)، يجدر الانتباه إلى ما تحاول القيام به اليوم.

هذه العصابات البرجوازيّة تعرف جيّدًا أنّ الوضع الاجتماعي بصدد التصاعد وأنّه قد يصل لحالة الغليان في الأسابيع القادمة كنتيجة منطقيّة لسياساتهم الاقتصادية والخارجية الفاشلة والعميلة خلال العشرّية الأخيرة. وهو ما قد يؤدّي الى انتفاض الطبقات الشعبية ضدّهم وضدّ “ديمقراطيتهم” الزائفة التي لا تخدم سوى مصالحهم كأقلّية طبقية مسيطرة اقتصاديا وسياسيا. وهي غير قادرة حاليا لا على الوصول إلى توافقات جديدة داخلها تحت عناوين “الوحدة الوطنية” و”إنقاذ البلاد” (مثلما حصل قبل سنوات بين النهضة ونداء السبسي) بسبب تعنّت حزب عبير موسي ورغبته في استغلال اهتراء النهضة لتحصيل حصّة أكبر من السلطة والمنافع الاقتصادية، ولارتهانها بأجندات محور إسرائيل/السعودية/الإمارات الذي يفضّل نظاما استبداديًا حليفا يسهُل توقّع تصرفاته واتجاه تطوّره أو هكذا يعتقدون (مثل نظام السيسي في مصر). كذلك، لكون المبادرة السياسية (داخل السلطة) ليست بيَدهم تماما في ظلّ خروج موقع رئاسة الجمهورية عن السيطرة مع قيس سعيّد الذي يسعى الى “انقاذ البلاد” وحماية “الانتقال الديمقراطي” عبر الوسائل القانونية والدستورية (مقتنعا بنفس الوهم الإصلاحي للمؤسسات المذكورة أعلاه، لكن بنكهة مختلفة تنحو إلى منح هذه “الديمقراطية” عمقًا قاعديًا ومحلّيا، لكن دون توضيح آليات ذلك ولا ربطه باستحقاقات تغيير السياسات الاقتصادية والخارجية للبلاد أوّلا). وهو وإن خسر جزءًا هامًا ممّا كان له من هامش المناورة (بسبب إحاطته نفسه بمستشارين “قانونجيّين” سُذّج وليبراليين اختاروا له حصان طروادة رئيسًا للحكومة)، فإنّه مازال يلعب دور حجر العثرة ويحاول المناورة مع أطراف أخرى مثل اتحاد الشغل…

أمام هذا المشهد المتأزّم ماذا بقي للنهضة وتوابعها (ائتلاف الكرامة، وحزب الجزيري) وكذلك غريمها (حزب عبير موسي) لتفعله؟ الإجابة سهلة ومعروفة وقد جُرّبت سابقًا بنجاح: التغطية على العناوين الاقتصادية والاجتماعية لغضب الطبقات الشعبية واحتجاجات جزء منها بعناوين “هويّاتية” (ثقافية ودينية). ولذلك رأينا كيف انبرى جماعة مخلوف في البرلمان يدافعون عن “الإسلام” عبر مهاجمة النساء والمثليّين جنسيا ويزلزلون الأرض بسبب حرمان المصلّين من ارتياد المساجد بسبب “كورونا” (ومطلبهم محقّ مبدئيا برأيي)، لكنهم لا ينطقون حرفًا عن عجز الحكومة التي يساندون في انقاذ التونسيّين من الموت بسبب كورونا ولا في انقاذ الصحّة العمومية ولا في تقديم سياسات اقتصادية بديلة عن سياسات نظام بن علي الذي يدّعون معارضته ثوريًا. ولنفس السبب رأينا صباح اليوم سعيد الجزيري (المعروف بـ”صاحب النعجات الضايعة”) يحاصر مقرّ “الهايكا” ويكفّر أعضاءها ليمنع هيئة تعديل الاعلام السمعي والبصري من انفاذ القانون واغلاق إذاعته التي لا نعرف الى اليوم كيف ومن أين يموّلها ويموّل حزبه (والجمع بين رئاسة حزب وامتلاك إذاعة خاصّة أمر غير قانوني في حدّ ذاته)، والتي حوّلها إلى منبر لبثّ الجهل والتكفير باسم الدين. فالنهضة تحتاج لذلك للوصول إلى “حوار وطني” جديد يسمح لها بتوافق جديد مع غريمها الجديد الدستوري الحرّ، وكذلك لضمان عدم انشقاق حليفها الانتهازي نبيل القروي (الذي يمكن أن يقفز من عربتها في أيّ لحظة ليلتحق بعبير موسي). وهي تسعى لتقطيع الوقت إلى أن يتسلّم الحزب الديمقراطي الحكم في واشنطن، بما قد يعني عودة تعويل الأمريكان أكثر على محور تركيا/قطر/الإخوان والحدّ من سطوة الحليف المنافس (إسرائيل/الإمارات/السعودية)، وهو أمر غير مضمون في كلّ الأحوال.

وبالمثل، لا تملك عبير موسي وحزبها بدائل تُخرج البلاد من أزمتها والشعب من بؤسه. ولذلك لا حلّ لديهم سوى الاكتفاء بنقد فشل حركة النهضة والاستثمار في نفس سوقها: الدفاع عن “الهوية الحداثية” لتونس ومكتسباتها الاجتماعية وتقديم نفسها كسدّ منيع أمام هيمنة الإخوان (مثلا اعتصامها الأخير أمام جمعية “اتحاد العلماء المسلمين”) والخ. وهذا تكتيك، على بساطته، قد يسمح لها باكتساب دعم قطاع واسع من البرجوازية السمسارة – ذات الميولات الليبرالية ثقافيا والاستبدادية سياسيا – وجزء هامّ من الطبقات الوسطى الخائفة دومًا على مصالحها الهشّة والمستعدّة دومًا لتصديق “كلاب الحراسة” في الإعلام البرجوازي الخائفين باستمرار على “النمط” التونسي.

أمام هذا الواقع المُزري ما الذي يمكن للطبقات الشعبيّة والقوى السياسية التي تزعم التعبير عنها وحلفاؤها القيام به؟

بتقديري، هناك دائمًا حلول “تكتيكيّة” أو قصيرة الأمد، وأخرى استراتيجية أو بعيدة الأمد.

تكتيكيًا ومرحليًا، لا مناص من تشكيل تحالف ثالث مضادٍ لكلا القطبيْن الآنف ذكرهما. تحالف مؤقت يجمع ما بقي من أحزاب الجبهة الشعبية المأسوف عليها مع أحزاب وسط اليمين واليسار كحركة الشعب والتيار الديمقراطي. ولا قيمة أو معنى لمثل هذا التحالف إذا لم يضمّ أيضا قيس سعيّد واتحاد الشغل. هذا التحالف المؤقت (لعدم تجانسه) إذا عرف كيف ينسّق ويقدّم مقترحات عملية تتسمّ بالحدّ الأدنى من الجذريّة (مثلا دفع الحكومة نحو قرار تسخير المصحات الخاصّة، أو نحو قرار تجميد سداد الديون أو تعليق استقلالية البنك المركزي، أو صرف منحة قارّة للمعطلين عن العمل، الترفيع في الأجر الأدنى، تجميد الأسعار أو غيره) يمكنه أن ينجح في كسب تأييد الطبقات الشعبية وتحويل غضبها ضدّ النهضة وغريمها/الحليف الموضوعي الحزب الدستوري الحرّ. أمّا إذا لم ينجح في ذلك فالوضع مرشّح فعلا نحو انفجار اجتماعي غير مؤطّر سياسيا ولا يمكن التنبؤ بمآلاته الممكنة هذه المرّة. والأرجح أنّها ستكون، في “أفضل الأحوال” تقديم فرصة جديدة للنهضة وعبير موسي لترتيب السلطة بينهما… في أسوئها حالة من الفوضى تُفسح المجال لانقلاب عسكري أو لفوز عبير موسي في الانتخابات (مع التخلص بطريقة أو أخرى من قيس سعيّد)، بما يعني إمكانية جدّية للعودة إلى مربّع الاستبداد الغاشم.

هذا فيما يخصّ قوى اليسار الإصلاحي وقوى “الوسط”. أمّا فيما يخصّ قوى اليسار الثوري فإنّ هامش التأثير سياسيا في المدى القصير مازال محدودًا بسبب استمرار ضعفها وتشرذمها ولاختلال ميزان القوى لصالح قوى اليمين والقوى الاصلاحيّة. لكنّ هذا لا يعني قطعا الاكتفاء بمراقبة صراعات ومناورات أعداء الشعب، بل يستوجب من جهة: إيجاد الآليات والأطر النضالية الجماهيرية المناسبة للاقتراب من حراك الشارع والعمل قدر الإمكان على تطوير مضامينه وأهدافه، ومواصلة الجهود لتأسيس بديل سياسي ثوري حقيقي يمتلك شروط تغيير ميزان القوى في أقرب وقت ممكن.

أمّا استراتيجيًا، فإنّه لا يمكن التفكير بالنسبة لقوى “القطب الإصلاحي” أكثر من اقتراح أن تشكّل تحالفًا انتخابيًا وازنًا يقطع الطريق على النهضة وتوابعها وحزب عبير موسي، ومحاولة تقديم بعض قوانين لصالح الشعب. وفيما يخصّ قوى البديل الثوري المنحاز فعليا للطبقات الشعبيّة وللسيادة الوطنيّة، فإنّ الطريق الوحيد والأوحد هو وضع خطة جدّية للانغراس وسط هذه الطبقات، أكبر ضحايا المنظومة وأكثرها مصلحة في اسقاطها، وبناء إطار حزبي قويّ قادر على مقارعة أعداء الشعب والانتصار عليهم في مختلف الساحات.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !