رأيْ | تونس : دولة فاشلة لنظام ناجح

الدكتور محمد لسود أكاديمي وناشط سياسي مولود سنة 1962 بالجنوب التونسي. حاصل على شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتونس. ناشط في صفوف اليسار التونسي منذ بداية الثمانيني له عديد المؤلفات الأكاديمية نذكر منها “الانتحار” – “الدولة والوباء”. كتب الكثير من الكراسات السياسية والنظرية منها “نقد الخط الوطني الديمقراطي” – “الخط الـلباني والتنكر السياسي” – “ما هي الاشتراكية؟” – “فلسطين طبقيا”. يدرس مادة علم الاجتماع بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالقيروان.

بعد ثماني سنوات من حكم الأمر الواقع دونما أي غطاء شرعي مهما خف وشف، وبعد نحو السنة على التجديد للهيئتين التشريعية والرئاسية في قفزة جديدة نحو المجهول، يجد الشعب التونسي نفسه حيال وضع سياسي مبهم الملامح يتعب الباحث تحليلا ولا يجديه فتيلا من حيث التعريف والتصنيف. تتساءل: ما هذه الكارثة المتجسدة دولةً؟ أي مسار تختطه، أهو الانتقال الديمقراطي كما يقال أم هو الانتقام البيروقراطي كما ينبئ واقع الحال؟ من يحكم من؟ لصالح من وضد من؟. لهذه الأسئلة وأخريات من جنسها مشروعيتها في دولة يقول البعض أنها قد ارتقت حد الديمقراطية المباشرة بحكم التنسيقيات على حين يبدي الواقع استمرار حفل تقاسم المناصب والامتيازات كما كان الأمر من قبل. كل يجذب الغطاء ناحيته ولكل فئة مهنية أو جهة جغرافية مطالبها. هذه الدولة تبدو تارة قوية كمارد أسطوري حتى أنها قد حققت مرة ما لا سابقة له في التاريخ وما يرجح أن لا تكون له لاحقة: اعتقال مرشح للرئاسة، بل وصاحب حظ وافر لأن ينجح، وتظهر تارة أخرى واهنة حتى أن كل من عن له أن يقطع الطريق أو يوقف ضخ النفط أو أن يبني جدارا فوق السكة الحديدية يمكنه أن يفعل ذلك دون حسيب أو رقيب. إن ما نرومه هنا هو محاولة استجلاء هذا المنظر الغائم بدْأً بالتحقق من أمرين وهما ما إذا كنا حيال دولة فاشلة ونظام ناجح، ثم الإجابة عن الإشكالية التي تطرح نفسها عند هذا الجمع بين الفشل والنجاح، وكيف لهذه المفارقة أن تتجسد في أرض العجائب المعروفة باسم الجمهورية التونسية.

لا بد لنا من إلمامة سريعة بالتاريخ القريب لفهم ما آلت إليه الأمور حاضرا. يكفينا أن ننطلق من انتفاضة 17 ديسمبر التي أجهضت بعد حمل لم يستكمل الشهر. الذي حدث حينها واضح لا التواء فيه، فقد تمت التضحية برئيس النظام لإنقاذ النظام، وعندما علت الأصوات مطالبة بحل الحزب الحاكم تم ذلك بشعوذة عز مثيلها في التاريخ إذ أعلن عن خروج رئيسي الجمهورية والحكومة من الحزب وقد كانا من أركانه الركينة وكأن ذلك كان هو المطلب. وبعدها تم استهلال مسار الانتقام من الانتفاضة الجهيضة بتنظيم انتخابات “حرة” تحت إشراف رئيس الجمهورية إياه. وفي الأثناء تم إسعاف النظام كلما تعثر برقية جديدة كانت أنجحها استدعاء وزير داخلية بورقيبة بطل “صباط الظلام” وجلاد مناضلي الحركة الوطنية قايد السبسي الذي أفتى بأن طاعته واجبة حين ختم أحدى خطبه باستشهاد قرآني: “فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً”، ثم جاء بنظرية سياسية جديدة عفت على كل تفسير نخبوي أو طبقي أو غير ذلك في فهم السياسة حين زعم أن تونس إنما تسير ببركة الأولياء الصالحين، وهذا سبق لا يجادل أحد في ملكيته الفكرية له ولورثته أن يطالبوا بنصيبهم منه…سيما والرجل توريثي بامتياز.

ما حدث للانتفاضة بعد تعطيلها ثم تطويقها برموز النظام السابق قد مكن بعد ذلك من تحويل المجلس التأسيسي إلى ساحة للمناطحة وتفويت فرصة أدائه للمهمة التي انتخب من أجلها وهي إصدار دستور للبلاد، دستور يستفتى عليه الشعب ويمكن أن تبنى على أساسه دولة ذات شرعية قانونية شكلية. لم يحدث شيء من ذلك بل استمر المجلس التأسيسي حاكما لسنتين إضافيتين دون أي غطاء شرعي مهما يكن واهيا، ثم ختم أعماله بالداهية الدهياء حين أصدر أعضاؤه الذين لم تعد لهم أي صفة ما أسموه دستورا لم تواتهم الشجاعة ليعرضوه على الاستفتاء الشعبي. وبذلك أصبح هذا النص المسقط أدنى مكانة، حتى على المستوى الشكلي، من دستور بورقيبة ومن تعديل بن علي للدستور، حيث عرض النصان على الاستفتاء. إن كل من سكت وهادن، وكل من لجلج في كلامه ولم يصدع عاليا بّأن ما يسمى الدستور ليس بدستور يتحمل مسؤوليته عما آلت إليه الأوضاع اليوم.

وما آلت إليه الأوضاع مزر حقا وعصي على التصنيف القانوني والسياسي. إنه الفوضى الوظيفية وحكم يذكر بحكم المماليك. ومع أننا لا نعتقد أن هناك من لا يزال يجادل اليوم في فشل الدولة فإننا نقول، إخراسا لكل مماحك وإفحاما لكل صاحب مصلحة: أجب عن هذه الأسلة التقريرية وإن وجدت واحدا من سواد الشعب يدعم إنكارك فستكون مصيبا ونحن على خطأ.  قل لنا:

1. دولة لا حديث لشبابها إلا عن الهجرة بكل ثمن ومع تحمل خطر الغرق وهوان الوضع اللاقانوني في المهجر إن وصل الواحد منهم إلى هناك، أفاشلة هذه الدولة أم لا؟.

2. دولة يهجر فيها مائة أـلف تلميذ سنويا مقاعد الدراسة دون أن يحرك أحد ساكنا، فاشلة كما نقول وكما يقول كل ذي منطق أم هي ناجحة بزعمك؟.

3. دولة يرى فيها الفقر عيانا حتى ليلمس باليد وتستشري فيها جرائم النشل والاعتداء بمختلف صنوفه في وضح النهار، أليست هي الفشل عينه؟.

4. دولة من أيام عطلها الرسمية عيد الاستقلال (وعيد الجلاء أيضا) ورئيسها يزعم أنها لم تكن أبدا مستعمرة، أليس هذا رئيسا فاشلا لدولة فاشلة؟.

5. الرئيس إياه للدولة إياها حين يقيل ممثلهما في الأمم المتحدة لا لجريرة إلا أنه قد أخذ الأمور جديا وحاول ترجمة رفض الرئيس للتطبيع إلى تحرك دبلوماسي، أفاشلان معا، الدولة كالرئيس، أم عير فاشلين؟.

وهذا قليل من كثير في دولة تنهار فيها الخدمات العمومية ويستفحل فيها ثراء المضاربين والمهربين. وبعد ذلك يوجد من يتعجب من صعود أسهم دعاة العودة إلى ما يسمى النظام القديم مع أنه لا غرابة في أن يحدث ذلك لأن النظام لم ينهر أصلا وما يريده أنصاره وعلى رأسهم جماعة عبير موسي ليس سوى إلقاء الأقنعة أرضا والتوفيق بين الظاهر والباطن. إن بعض الناس بما فيهم سياسيون يعتبرون أنفسهم محنكين، يشككون في واقعية نتائج سبر الآراء ويتهمون القائمين بها بالتزييف والتوظيف. إن كاتب هذه السطور، كمختص في علم الاجتماع ومطلع على تقنيات سبر الآراء، لا يشك في صحة الأرقام والنسب التي تضع حزب موسي في الطليعة، وإذا كان هناك من انحراف عن الحقيقة فهو، ربما، باتجاه الأدنى. فمن خلال استقصاءاتنا وملاحظاتنا المرتكزة على ما نعيشه يوميا وما نسمع الناس يلهجون بذكره يبدو لنا أن مجموع القوى المتمسكة برموز عهدي بورقيبة وبن علي يمكنها بسهولة أن تحوز على الأغلبية لو جرت أي انتخابات اليوم، نعم أي انتخابات، تشريعية كانت أم رئاسية أم بلدية. ولا غرابة في ذلك إذا عرفنا أن ما يهم أغلب المواطنين هو تكلفة المعيشة وتسهيلات الحياة اليومية وهما مؤشران قد هويا سحيقا منذ 2011. يكفي بهذا الصدد أن نستحضر حقيقة تمهد الطريق أمام كل خطاب يمجد ديكتاتور تونس السابق وأباه (ثم ضحيته) العميل الأكبر. هي حقيقة من الممض الإقرار بها ولكن الحق يعلو ولا يعلى عليه، ومفادها أن الربح الوحيد على صعيد الميزانية العائلية الذي حققه التونسيون قد انجر عن التخفيضات الطفيفة التي أجراها بن علي في أيامه الأخيرة ومست جملة من السلع الاستهلاكية. في المدة التي استمر فيها العمل بتلك التخفيضات قبل أن تعاود الأسعار تغولها ربح رب العائلة التونسية بضع عشرات أو مئات من الدنانير، كل بحسب حجم عائلته ووتيرة إنفاقه. أما بعد ذلك فلم ير الناس سوى زيادات في الأسعار إثر زيادات. ومع غلاء المعيشة جاء انعدام الأمن وهذا ليس بالأمر الغريب لأن الأنظمة التسلطية دائما ما تكون الأكثر نجاحا في مجال الأمن العام.

إن فشل الدولة من تماسك النظام وذاك من هذا أيضا. انهيار الدولة يدعم المدافعين عن سياسة الأمر الواقع ويجعل الناس يهجرون كل حلم بتحقيق الأفضل بل يجعلهم يندمون على أنهم قد هتفوا يوما بإسقاط النظام. هذا ما تريده القوى المحافظة وما هو متحقق لها بعدُ. أما قلب المسار وتحقيق مطلب تغيير النظام وتغيير الدولة معا فلا طريق إليه إلا باستئناف المسار من حيث توقف. يجب أولا الاتفاق بصدد المضمون الطبقي للنظام القائم وتحديد مرتكزاته السياسية قبل المناداة بتغييره وقبل تحديد فحوى هذا التغيير. المفروض أن الشعب يريد نظاما شعبيا ودولة شعبية، أي نظاما ودولة يخدمان مصلحة الأغلبية على نحو واضح ومقنن لا لبس فيه. والخطوة الأولى على هذا الطريق هي إصدار دستور شعبي ينص دون مواربة على سيادة الشعب وعلى أولوية القطاع العام وعلى الحقوق الاجتماعية والاقتصادية وعلى رأسها الحق في الصحة وفي الشعل وفي التعويض عن البطالة وفي تعليم مجاني حقا وإلزامي فعلا.

من يقول أن قطع الطرق وإغلاق شبكات نقل النفط أو الغاز أو الفسفاط يحقق سلطة الشعب كاذب أو مكذوب عليه لأن النظام، بما هو مجموع القوى الطبقية ذات المصلحة في بقاء تونس شبه مستعمرة ومتخلفة، لن يتضرر من ذلك، كما لن يتضرر  من تراكم الديون التي ستُسلخ جلود الفقراء لدفعها وفوائدها حتى آخر مليم. وهذا التلهي بالديمقراطية الجماهيرية المباشرة في ظل النصوص القانونية الحالية وعلى رأسها دستور 2014 يصب في مصلحة النظام. ومن يتوهمون أنهم يستطيعون فرض مطالبهم على هذا الوجه وجعل السلط المبنية على النظام الحالي تحقق انتظاراتهم لا يختلفون غباءً وسوء مصير عن ذلك الشخص الذي أراد قطع الغصن وهو يجلس فوقه.

يقال أن جحا هو من فعل ذلك، وجحا شخصية تاريخية أضيفت إلى تاريخها حكايات شتى لعل منها هذه، أما الجالسون على الغصن والرائمون قطعه في نفس الآن فهم اليوم كثيرون في تونس. لدينا من جحا اليوم نسخ بالآلاف وبالملايين. يروى أيضا أن جحا قد عاند واستمر بنشر الغصن حتى وقع على الأرض، ولم يفهم مع ذلك شيئا بل قال لمن تنبؤوا له بالسقوط: “ما دمتم تعلمون الغيب، فهل تستطيعون أن تقولوا لي متى سأموت”. ربما تتكرر مهزلة جحا في شكل مأساة في تونس وحين يسألنا الساقطون عن موتهم سنقول لهم أن سقوطهم هو عينه موتهم لأن النظام بعد أن يدعم نفسه ويعيد ترميم دولته لن يبقي منكم باقية.   

هذه خلاصة ما أردت قوله بصدد السيرك السياسي المنتصب اليوم في بلاد إفريقية، وأختم بهذا البيت الشعري معتذرا من المتنبي عن تغيير اسم باسم:

وكم في تونس من المضحكات *** ولكنه ضحك كالبكاء

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !