عن مخاطر النزعة الجهويّاتيّة للتحرّكات الاحتجاجية وآفاقها الممكنة

ما يجري من تشنّج بين بعض الجهات (مثال صفاقس وڨابس) نتيجة لاحتجاجات المعطّلين هنا وهناك، أمر ينذر بالخطر بتقديري. لكن لا يجب أن يؤدّي ذلك الى الاكتفاء بالمراقبة والتعليق المتشائم عن بعد. بل يجدر بنا محاولة فهم وتحليل ما يجري والعمل على استخلاص الاستنتاجات السياسية والعملية الضرورية.

بداية، لا يمكن لوم المعطّلين عن العمل لأنّهم يضغطون على الدولة من أجل ايجاد حلول لهم، خاصّة وهم يرون كيف يحقّ لقطاعات مهنيّة محسوبة على “النخبة” تعتصم وتضرب عن العمل من أجل تحسين ظروفها (مثال القضاة مؤخرا) دون أن يثير ذلك أدنى استهجان من قبل وسائل الاعلام البرجوازية. كما لا يمكن السكوت على التهجّم الرخيص على الطبقات الشعبية عندما تتحرّك وتحتجّ حسب حدود وعيها واحتياجاتها المباشرة. وتحديدا عندما يأتي هذا التهجّم من قِبل أبواق البرجوازية المسيطرة، سواءٌ كان في شكل خطاب ليبرالي تافه يكرّر معزوفة “تشجيع المبادرة الخاصة” و”تحويل التحدّيات الى فرص” والخ. أو في شكل خطاب دَوْلاني ذي ميول فاشيّة، مستنكرًا “ضعف الدولة” ومطالبًا باسترجاعها “هيبتها” عبر الأجهزة القمعيّة دون تقديم أيّ حلول لأصول المشكل. إلّا أنّه لا يجب بالمقابل السقوط في مطبّات تملّق كلّ حراك احتجاجي أو في تقديس “عفويّة الجماهير”. بل على اليسار الجذري أن يقرأ تزايد “العفوية الجماهيرية” كدليل إدانة إضافي له على ضعفه وعجزه عن الانغراس وسط حاضنته الاجتماعيّة الطبيعيّة.

صحيح أنّ التجربة أثبتت أنّه وحده الضغط على مصادر الثروة يؤتي ثماره مع هذه السلطة (جمنة، قرقنة، الكامور والخ)، التي لا تعبأ بالاعتصامات المطوّلة في مقرّاتها بقدر هلعها عند المسّ بما له علاقة بالثروات. وجيّد أنّ الحراك الاحتجاجي يستفيد أكثر فأكثر من تجارب بعضه البعض، كما أنّه بصدد اجتراح أشكال احتجاجيّة جديدة وتكتيكات ميدانيّة مبتكرة. فاعتصام الكامور، الذي رواح بين نقاط اعتصام مؤقّتة تديرها لجان أحياء داخل مدينة تطاوين، واعتصام مركزيّ قارٍ على تقاطع طرق شاحنات نقل المحروقات وسط الصحراء، ومن ثمّة تصعيده بالانتقال الى المضخّة واغلاقها، وصمود المفاوضين في وجه مماطلة السلطة وقمعها، فضلا عن تشويه الإعلام البرجوازي، يمثّل تجربة هامّة وتستحقّ أن تُدرس بعناية. يجب اذن تثمين ما سبق ذكره من نقاط إيجابية عند محاولة فهم تطوّر مسار الصراع الطبقي والوطني بالبلاد. لكن من واجبنا أيضا كإعلام منحاز إلى الطبقات الشعبيّة الإشارة إلى ما يشوب هذا التطوّر من سلبيّات:

 أوّلها نزعة الأنانيّة الجهويّة – وأحيانًا القبليّة – التي بدأت تميّز بعض الحركات الاحتجاجيّة. وهي تتمظهر في خطابٍ مضمونه: “نحن أولى بالتشغيل في منطقتنا من أبناء الجهات الأخرى”. ورغم ما في هذا الخطاب من معقوليّة نسبيّة، الاّ أنّه قد يفتح الباب إلى الانحياز المناطقي وتقديم الانتماء الجغرافي على الأهليّة أحيانا. كذلك استسهال المسّ بمصالح أبناء الجهات الأخرى، كما جرى مؤخرا من خلال تعطيل وصول الغاز السائل من قابس الى صفاقس (أو قطع الماء السنة الماضية من بعض المحتجّين في جلمة على نفس المدينة). وما قابل ذلك من قطع بعض شباب منطقة الصخيرة – بولاية صفاقس – الطريق على شاحنات نقل المحروقات إلى ولايات الجنوب. إنّ هذا التمشّي خطير وينبئ بتحويل تمظهر الصراع الطبقي بمجتمعنا من صراع ذي انقسام أفقي من أجل العدالة الاجتماعية وذي تمفصل جهوي (بحكم أنّ أغلب الفلاحين المفقّرين يعيشون بالجهات المهمّشة، ولارتباط مهمّشي الأحياء الشعبية بالمدن، وجزء هامّ من الطبقة العاملة بتلك الجهات) يكون الخصم فيه هو السلطة المنحازة إلى الطبقات البرجوازية، إلى تمظهر ذي انقسام عمودي يطغى عليه خطاب جهويّاتي انعزالي ولا مكان فيه للمطالب المشتركة بين مُهمَّشي مختلف الجهات. والأخطر هو أنّ الخصم هنا لم يعد فقط السلطة، وما وراءها من طبقات وفئات مستفيدة، بل جزءًا من الطبقات الشعبيّة، بما في ذلك في جهاتٌ لا تقلّ تهميشًا عن تلك التي يحتجّ شبابها.

 ثانيًا، افتقار جلّ هذه التحركات الاحتجاجية ذات المنحى الجهويّاتي إلى تصوّر ملموس ومعقول لشعار “التنمية والتشغيل”، بما يضمن تحقيقه بشكل جذريّ، ولجميع التونسيين. إذ تكتفي هذه التحركات بالضغط على الدولة كي تتدخّل وتجد لها حلاً يضمن تشغيل العدد الأقصى من المعطّلين بهذه الجهة أو تلك. وهنا يجب التأكيد برأيي على ضرورة التفرقة بين شكلين من الضغط الاحتجاجي:

  • الأوّل هو الضغط على رأس المال الخاصّ، من خلال الشركات (تحديدا الأجنبية منها) التي تراكم الأرباح من استغلالها للأرض المملوكة للدولة (حالة جمنة أو الشويقي مثلا) أو للثروة الباطنية للبلاد (بتروفاك في قرقنة وشركات النفط في الكامور وغيرها) ولا تعطي سوى فتات للدولة (بتواطؤ من مسؤوليها طبعا)، وبالتالي لما سيصل الشعب من خدمات اجتماعية (تعليم، صحّة، ثقافة، نقل والخ)؛
  • والثاني هو الضغط على المؤسسات العمومية للدولة (المجمع الكيميائي بڨابس، أو شركة فسفاط ڨفصة، أو شركة استغلال حقل الدولاب في الڨصرين) التي يعاني أغلبها أصلا من صعوبات مالية وانتاجيّة ضعيفة ولا يمكن اثقال كاهلها بالمزيد من اليد العاملة.

الضغط الأوّل مطلوب بلا شكّ ومن إيجابياته أنّه يوجّه سهام الاحتجاج للمستفيد الحقيقي من حالة التهميش الجهوي والاستغلال الطبقي السائدة، وبالتالي يضع الصراع على سكّته الصحيحة. أمّا الثاني فيمكن أن يزيد في مفاقمة الأوضاع، إن لم يندرج ضمن خطّة تهدف إلى تغيير جذري وشامل يأتي بسياسات جديدة أكثر عدلاً للطبقات الكادحة والجهات المُهمَّشة. فرغم مشروعيّة مطلب التشغيل الفوري لمن طالت بطالتهم وحرمانهم من أسباب العيش الكريم، إلّا أنّه يجب الوعي أنّ هذا “الحلّ” قصير الأمد ولا يمكنه معالجة مطلب “التنمية” وتحسين مستوى عيش الناس بالجهات المُهمَّشَة بشكل جذري.

اذ أنّ إثقال المؤسسات العمومية بالمزيد من الموظفين والعمّال الزائدين على حاجتها سيؤدّي لا محالة إلى مزيد من التضخّم، وإلى التسريع بإفلاس هذه المؤسسات والتفويت فيها لرأس المال الخاصّ (وهو ما تريده هذه السلطة وتدفع إليه المؤسسات المالية الامبريالية والبرجوازية المحلّية السمسارة). وهو ما يعني ارتفاع فاتورة الاقتراض الخارجي والمزيد من سياسات التقشّف وموارد أقلّ للدولة، بما سيؤدّي إلى المزيد من الحرمان للجهات المُهمَّشة والطبقات المحرومة. اذن الاكتفاء بالضغط على المؤسسات العمومية من أجل التشغيل الفوري لن يغيّر شئيا جوهريًا في الواقع الملموس، بل سيعمّق الأزمة العامة للبلاد والشعب عوض التقدّم نحو حلّها.

هل يعني ذلك أن تمتنع الحركات الاحتجاجية عن الضغط على الدولة؟ قطعا لا.

بيْد أنّ هذا الضغط يجب برأيي أن يكون أكثر منهجية وأن تكون له أهداف مرحليّة قصيرة الأمد، وأخرى استراتيجية طويلة الأمد. وفيما يخصّ الأهداف قصيرة الأمد: ينبغي أن يتمّ رفع مطالب من شأنها تحسين أوضاع الطبقات الشعبية والجهات مهمّشة ولا تؤدّي في نفس الوقت إلى مزيد إغراق المؤسسات العمومية للدولة والتفويت فيها. فذلك سيصعّب من محاولة انقاذ البلاد مستقبلا. وهو ما يعني منهجيًا كذلك عدم الاكتفاء بمطالب التنمية (هكذا في المطلق دون تفصيل لاحتياجات كلّ جهة من المرافق والخدمات العمومية) وبالتشغيل الآني لشباب جهة بعينها بمعزل عن باقي الجهات، أو دون التفكير في مصير البلاد برمّتها. بل أن يتمّ التعامل مع مسألتيْ البطالة والاستفادة من الثروات كقضية وطنيّة تهمّ جميع الجهات (فحتى الجهات “المحظوظة” تعجّ بالمُعطّلين والمُهمّشين في الأرياف والأحياء الفقيرة)، لكن مع ضرورة ممارسة نوع من “التمييز الإيجابي” لصالح الجهات الأكثر تهميشًا وأقلّ استفادة من الثروات (مثل الڨصرين والقيروان وجندوبة وتطاوين وغيرها). خلاف ذلك سيخدم أصحاب الخطاب السطحي المعادي لهذه الاحتجاجات المجادلين بأنّ مطلب التمييز الإيجابي يعني أن تحتكر كلّ جهة عوائد ما لديها من ثروات وخيرات (مثلا المحروقات للجنوب وزيت الزيتون لصفاقس والبرتقال للوطن القبلي والحبوب للشمال الغربي والفسفاط لقفصة وهكذا دواليك).

ولعلّ أحد مداخل بناء هذا التصوّر المنهجي للحراك الاحتجاجي يبدأ من خلال تواصل ممثّلين عن مختلف هذه التحركات وعملهم – بالاستعانة ان شاءوا بمن يرونه جدير بالثقة من “المجتمع المدني” أو المناضلين السياسيّين النزهاء – على وضع لائحة مطالب تنموية وتشغيليّة معقولة وتهمّ كافة الجهات المُهمَّشة. وعلى سبيل المثال، أذكر أنّ أحد النقاط التي سبق نقاشها مع ممثّلين عن اعتصام الكامور (خلال زيارة تضامنية شاركت فيها مع رفيقيْن من حملة “إسناد” النضالات الاجتماعية سنة 2017) هي فكرة تحويل مطلب الاستفادة من “الثروة الطاقية” إلى تصوّر ملموس قائم على التعامل مع مجمل هذه الثروة على المستوى الوطني، ثمّ توزيع نسبة مُحدّدة من مداخيلها على مشاريع تنموية (تحسين المرافق العمومية في الصحّة، التعليم، النقل، الثقافة والخ) تكون متناسبة مع ترتيب كلّ جهة في جدول الجهات الأكثر حرمانًا. إلّا أنّ هذه الفكرة – وغيرها – لم تلق تفاعلاً إيجابيا من قبل محاورينا، الذين بدا لنا واضحًا – إلى جانب شجاعتهم وصمودهم المثير للإعجاب – مدى اصرارهم على التركيز حصرًا على مطالب جهتهم، وعلى قضيّة التشغيل بالأساس.

كذلك، لا مناص من أن تضع هذه الحركات الاحتجاجية القطاع الفلاحي نصب عينيها. فالدولة مازالت تمتلك حوالي 500 ألف هكتار من أخصب الأراضي الزراعية تحت مُسمّى “الأراضي الدوْليّة”، التي تؤجّر جزءًا هامًا منها لمستثمرين لا همّ لهم سوى تطوير الزراعات المستنزفة للمياه والموجّهة للتصدير بهدف مراكمة أرباحهم الخاصّة. لماذا لا يفكّر المُعطّلون الشباب في المطالبة بتوزيع هذه الأراضي عليهم في شكل تعاونيات إنتاجية، بما يساعد على تنشيط قطاع الفلاحة على أسس مستديمة تحافظ على الثروة المائية، وتستعيد البذور التونسية الأصيلة ويكون هدفها وقف التبعية المتزايدة من خلال تحقيق السيادة الغذائية للبلاد؟ وهناك تجارب ناجحة في هذا الصدد حول العالم.

أمّا فيما يخصّ الأهداف الاستراتيجية طويلة الأمد، فهي تتمثّل بالتأكيد في التفكير في الإطاحة ثوريًا بالسلطة الحاكمة وتحالفها الطبقي (بمختلف أحزابه التي تداولت على الحكم خلال العشرية الأخيرة) الذي أجهض ثورة المُفقّرين والجهات المهمّشة عبر “انتقال ديمقراطي” زائف لا يخدم سوى النخب البرجوازية السمسارة وأولياء أمرها بالخارج. فمن دون ذلك لن تكون هناك سياسات وقوانين جديدة تنحاز للطبقات الكادحة والمفقّرة والجهات المهمّشة كنقيض للسياسات النيوليبرالية الحالية. ومن دون التفكير في تشبيك هذه الاحتجاجات الجهوية وتنظيمها ضمن هيكل وطنيّ، له مطالب موحّدة وجامعة وممثّلون أكفّاء، لن يكون هناك خلاص فعلي للجميع، بل المزيد من أوهام الخلاص الفردي من غرق السفينة بكلّ من فيها.

أخيرًا، من نافلة القول التأكيد على أنّ دور اليسار الثوري وموقعه الطبيعي يتمثّل في الوقوف المبدئي الى جانب هذه التحرّكات والعمل على مزيد فهم آلياتها وعلى تطويرها من الداخل بالأفكار والنصح والتأطير، وليس الخوف منها أو مراقبتها من بعيد.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !