رأيْ | المدارس التونسیة بالمناطق الریفیة : واقع تعیس في القرن الواحد والعشرین


سارّة الزيدي : طالبة علوم قانونية وسياسية و إجتماعية بتونس
ومدونة مقالات

لغو النخبة الذي لا ینتهي: “الوضع على ما یرام”، قال أحدهم، و”لا داعي للوقوف على الأطلال” ردّد آخر.

هذه الثقة العمیاء في أنّ الوضع تحت السیطرة هي إمّا محاولة شاقة لنسیان الواقع والإنفصال عنه كلیا أو ضرب من الجهل.

في السیارة وعلى الساعة 12 أغادر المدینة لأقضي أیام العید في مسقط الرأس. أقضي ساعات طویلة مصحوبة بأغاني فیروز التي یحبّها الوالد. ولعلّ أكثر ما یشدّ إنتباهي منذ صغري هو الأطفال الذين ببیعون الخبز على حافة الطریق: صغار لم یتجاوز سنهم السادسة أو السابعة، أصحاب النظرة الثاقبة وسلسلة الدعاء اللامتناهیة والحرّ الذي أنهكهم أو البرد الذي نخر عظامهم… فأبلغ الوجهة لتظلّ وجوههم مطبوعة في ركن من أركان الذاكرة. ظل هذا المشهد عالقا ومتواصلا منذ 13 سنة، أي منذ أن غدوت ألاحظ وأتساءل عن معاني الأشیاء… ومازلت إلى اليوم أتساءل عن حال تلك الطفلة بائعة الخبز – لا الكبریت – عن السخط الذي ربّما تحمله في أعماقها أو عن الحزن الذي إتّخذ الصمت أنجع دواء… في كل رحلة عودة أتساءل هل حفظت الأبجدیة وجدول الضرب صمّ؟ 

حالة یندى لها الجبین : كورونا زادت الطین بلّة 

زعزعت جائحة كورونا الوضع الاقتصادي و السیاسي والاجتماعي وغدت القرارات مبهمة: من دعوات الى الدراسة عن بعد إلى الدراسة لمدة ثلاثة أیام في الأسبوع… وأغلقت نتیجة للحالة الراهنة مختلف المدارس… ولعلّ القطرة التي أفاضت الكأس هي الصور المنتشرة في الفایسبوك لمدارس في حال یرثى لها من بنیة تحتیة متآكلة وأقسام على وشك السقوط ومدارس قد تنهار قريبا. 

طرق ملتویة شائكة وضیّقة، على یمینها وادٌ قد رحل بأرواح الأطفال الطاهرة: أولاد وبنات القلم والكراس.. سبيلك الوحید للحلم بعالم أفضل ولنسیان واقع مرّ بالرغم من صغر السنّ. فمنهم من یرید أن یصبح طبیبا یعالج أبناء القریة بالمجان، ومنهم من یرید أن یصیر محامیا لیفضح المظالم… وتبقى كلّها أحلام … 

المرحومة مها القضقاضي 

مها القضقاضي أصیلة مدینة فرنانة. ماتت الملاك غرقا بعد أن جرفتها السيول في بلدتها شمال غرب تونس حین كانت بصدد عبور طریق غمرتها میاه الأمطار… و غیرها من الأطفال الأبریاء الذین لقوا حتفهم جراء مثل هذه الظروف. وجدیر بالذكر البؤس الاجتماعي الذي تغرق فیها ولایة جندوبة، وهي المصنفة من بین أفقر الولایات التونسیة لجهة ضعف البنیة التحتیة وغیاب المشاریع الاستثماریة… وما إلى ذلك من فوارق إقتصادیة واجتماعیة تشق” البلاد وسیاسة المركزیة التي نخرتها وولَّدَت لدى السكان نقمة واحتقان. ففي الوقت الذي تحظى فيه العاصمة والولایات الساحلیة بكل مرافق العیش الكریم، لم تلتحق بقیّة الولایات بالركب. 

تغزو الرطوبة الأقسام ولا تحميها النوافذ من تسلّل الأمطار الغزیرة. ساحات المدارس هي مكان إحتماء هؤلاء الاطفال من الحرّ والبرد. وتتجول من حین لآخر الكلاب والذئاب في محیط المدارس. 

مدارس لم یتمّ صیانتها منذ تأسیسها. فالتربیة والتعلیم مجال قد إضمحّل لیغدو مهمشا، فكأنّ التعلیم في تونس أصبح لمن استطاع إلیه سبیلا أو بات ترفًا… وبعد أن كان حقًا مضمونا لكلّ مواطن صار من الإمتیازات.

مدرسة بولاية سليانة

“درستُ في ببّوش بعین دراهم”، صرّحت إحدى اللواتي قبلن الإدلاء بدلوهنّ في هذا المقال. “أمضیتُ كلّ المراحل الدراسیة من الإبتدائي إلى الإعدادي بالمبیت نظرا للمسافة المضنیة إلى البيت. المبیت بحد ذاته لا يطيب فیه العیش… 250 تلمیذة في قاعة كبیرة واحدة وأكل لا یُسمن ولا یغني من جوع. نقضّي ستة أیام بعیدین عن الأهل وحضن الأمّ. ولا نعود إلّا في آخر الاسبوع أو العطل، وبطبیعة الحال في الصیف.”

فكرة الدراسة بحد ذاتها في تلك الظروف عسیرة، فالطفل منذ نعومة أظافره یتشارك غرفة مع حشد من التلامیذ ولا يعي مصیره. الخوف من المجهول ومن الاعتداءات لا یریح البال. لو وفرت الدولة حافلات لنقل التلامیذ من بیوتهم للمدارس لكان الأمر أیسر بكثیر ولكن یبقى العائق هو البنیة التحتیة والطرق الوعرة التي یمكن أن یروح العديدون ضحایا لها.

غیاب الحاجیات الأساسیة : هل لا یزال الدستور التونسي یعني المساواة الفعلیة بین المواطنین ؟ 

مدارس من دون میاه صالحة للشرب، في الوقت الذي تؤكد فیه الدولة على البروتوكول الصحي والتباعد الجسدي، وفي حين یبلغ الحد الأقصى للقاعات خمسة أقسام لا أكثر. في المدرسة الابتدائیة بقریة سردینة، من معتمدیة السبیخة في ولایة القیروان، صرّح مدیر المدرسة بإطلاق مبادرة في أواخر جوان لبناء سور یحمي التلامیذ من الغرباء والحیوانات. وهو سور لم تشهده المدرسة منذ ثلاثین سنة، مدرسة تجمع، بالرغم من صغر حجمها، ما یقارب الـ 186 تلمیذ موزعین على 5 قاعات… فكیف بإمكان التلامیذ تطبیق هذا البروتوكول في مثل هذه الأوضاع المهترئة؟

حالات العائلات الریفیة رثة. ظروف قاسیة لا تمكّن الأولیاء من توفیر الحاجیات الأساسیة بسبب انعدام الموارد المالیة، لیذهب التلمیذ مُمَزَّقَ المحفظة أو المیدعة، تنقصه الكراريس والكتب، خاوي المعدة، بارد الأطراف، قد يكون مازال عالقًا في أحلام نومه المبتور، وهو المفتقر للاحلام… قد یضیق ذرعا ويسأم النهوض فجرا لیسلك طریقا وعرة قد غمرتها برك وحل، فأمامه مسافة طویلة تبلغ الـ 15 كم یومیا… ولذا قد یختار الإنقطاع عن دراسة أثقلت كاهله ویتخلى عن أمنیة حملها سرا في فؤاده… كمثلاً أن یغدو رئیس جمهوریة یوما ما… ولكن من رحم المعاناة یولد هذا التلمیذ مجدّدا لیصیر عاملاً بالحضائر أو تاجرا متجوّلاً أو مجهول المصیر. 

مشهد هزّ موقع فایسبوك و أزمة وجودیة بین صفوف الرواد

إناء بلاستیكي یحتوي هریسة و سردینة لتوضعا فیما بعد وسط شطيرة خبز. هذا المشهد حقیقي ولم یُقتَطَف من مسلسل درامي، وهو من مدرسة هنشیر بقر من ولایة القصرین. جيث تتمثل لمجة التلامیذ في قطعة خبز يعدّها لهم المعلّم لیسدّ رمقهم. و لئن إستغرب رواد موقع فیسبوك من مثل هذه الصورة الصادمة، إلّا أنّ الإطار التربوي في المدرسة والأولیاء لم یتفاجأوا قطّ. فهذا هو واقعهم المریر البائس.

من ولایة القصرین 
البیاضة – غار دماء 

تتوزع المدارس بطریقة غیر متكافئة، وكذلك تختلف الظروف من ولایة لأخرى وبين المدینة للریف. اذ بلغ عدد المدارس غیر المزودة بالمیاه النظیفة من قبل الشركة الوطنیة لإستغلال وتوزیع المیاه والمجامع المائیة حوالى 300 مدرسة، من جملة 2735 أخرى موجودة في مناطق ریفیة وتتمتع بآبار أو صهاریج میاه كبیرة وفق الإحصائیات سنة 2014، ممّا یسفر عن تفشي الأمراض كالبوصفیر و الالتهاب الكبدي الفیروسي والجرب. 

وما يزيد الطین بلّة أنّ الأستاذ الواحد قد یُدَّرِسُ أكثر من مادّة، من الریاضیات إلى العربیة والفرنسیة… وكثيرا ما یتغیّب هؤلاء المعلّمون إمّا لعدم توفر وسائل النقل أو لأسباب صحیة… لیغدو التلامیذ إمّا بعهدة أستاذ معوّض أو يبقون بانتظار عودة معلّمهم. كلها ظروف غیر مساعدة على نشأة سليمة للطفل وصقل شخصیته، بل هي عوامل معرقلة لنجاحه. وعدیدة هي الأُسَر التي لاحظت تراجع مستوى أطفالها الدراسي وحاولت جاهدة إنقاذ الوضع. 

“درستُ في مدرسة تقع في قریة لودیات من ولایة مدنین”، صرح أحدهم. وهي مدرسة شیّدها السكان بتظافر جهودهم ومن مالهم الخاص. ويضيف: “صدقًا، كانت هي المتنفس الوحید. نقیم فیها الحفلات في الوقت الذي تتكون فیه من قاعتین فقط. لم تتوفر لنا الموارد المائیة بل فسقیّة یسقي منها الجمیع عطشه وعطش أشجار الساحة. الأستاذ الواحد یُدَرِّسُ العدید من المواد من ریاضیات وفرنسیة والخ. كانت المعاملة قاسیة وانجرّت عنها أضرار نفسیة جسیمة… بالنسبة للمجة كانت عبارة عن خبز بالهریسة وزیت الزیتون أو بالشاميّة والزيت. ورغم الظروف الصعبة أنجبت هذه المدرسة المحامین و الأساتذة والاطباء.” 

قسم من مدرسة البیاضة 

لا ننفكُّ في كلّ عودة مدرسیة أو حادثة مروّعة عن التكرار المضني للشعارات الفضفاضة والوعود البالیة. فيقسم الجمیع بالإصلاحات الضخمة من تمویل وإعادة بناء… لكن في نهاية المطاف، بین المنشود والموجود یبقى المواطن مُمَّزَقًا .

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !