رأيْ | ملاحظات حول خطاب الابتزاز البوليسي

مقال لمازن بن مبروك

هنالك فكرة مرعبة بصدد الرسوخ تدريجيا في الاذهان . ما أسماه الكثيرون ” مكاسب الانتفاضة ”  مهدد أكثر من أي وقت مضى عبر حزمة من التشريعات يناقشها نواب البرلمان هذه الأيام .و في الواقع فان المحاولات المتكررة لضرب الحريات  المكتسبة لم تتوقف يوما واحدا منذ 2011  الى حد اللحظة . و الآليات المعتمدة في ذلك من قبل النظام و اجنحته و من عززوا صفوفه اثر قدومهم من منافيهم ,تتراوح بين تقنيتين : الاولى هي القمع المباشر باستعمال اجهزة الدولة المحتكرة للسلاح او تنظيمات ميليشوية موالية للسلطة . و قد تجلى ذلك بشكل واضح في احداث تسعة أفريل و في قمع احتجاجات حركة مانيش مسامح و استعمل اليوم امام مجلس المستشارين . و الثانية هي تعويم حرية التعبير و اغراقها في سيل من المعلومات و الرموز فتختنق الفكرة اثر محاولتها التجلي ضمن اسهال رمزي من المعلومات الصادرة من وسائل الاعلام , فيحدث تشويش كامل في ترتيب اولويات الحركة و ردود الافعال .  الطريقة الثانية تمثل تكميما لا يستوجب الاحتجاج عليه او العقوبة وفقا لما بني عليه مفهوم حرية التعبير منذ انطلاق “الانتقال الديمقراطي ” . و بين القصف الرمزي الناعم و العصا الغليضة  يتبدى لنا بشكل واضح ان هذا النظام لا يمكنه ضمان استمرار قيامه دون اللجوء الى القمع بكل اشكاله .  فالخيارات الاقتصادية و الاجتماعية للحكومات المتعاقبة ما بعد الانتفاضة بصدد ضرب كل امكانية للعيش الكريم لشرائح واسعة من الناس . هذا يؤدي في الوضع الطبيعي الى الاحتجاج . لا يجب السماح لهذا الاحتجاج بالتطور و التحول الى تهديد لمؤسسات النظام . حرية التعبير و التنظم و غيرها من المكاسب تساهم في ذلك . اذن منطقيا لا يجب السماح بأن يتجاوز استغلال هذه الحريات حدودا معينة . و اينما امكن الهجوم عليها و التقليص منها يكون ذلك افضل و اضمن من اجل البقاء . نحن اذن لسنا امام وضع مطمئن فيه مكاسب محصنة بل امام فجوة حريات مؤقتة مادامت الطبقات المهيمنة مازالت في موقعها رافضة الهزيمة , بل و أقدر اليوم على عكس الهجوم و تطوير آلياتها مقارنة بحقبة بن علي .

و الدفاع عن هذه الحرية المكتسبة يتم الرد عليه بخطاب قائم على عملية ابتزاز مركبة تختلف عادة في صياغتها وفقا لمواقع مستعمليها . و لكن الخطاب البوليسي يحافظ دائما على مضامينه المدافعة على خيار القمع .

يستعمل الابتزاز عادة من قبل الحرس القديم الذي كان ينعم بسلطات غير محدودة في زمن بن علي . و هم العائدون بقوة الآن مستغلين مزاجا ايديولوجيا عاما لدى جزء من الناخبين يرى ” الثورة المهزومة ” عبئا ثقيلا يجب التخلص منه عبر الارتداد لزمن ” السلم الاجتماعي “. هؤلاء هم من قدموا مشروع القانون الأخير المتعلق بتحصين الأمنيين من اي تتبعات تطالهم حتى ان قاموا بتجاوزات تمس من حقوق المواطنين . و هم يدافعون عنه في هذه اللحظة داخل قبة البرلمان . و لا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبار مواقف الحزب الدستوري الحر او الدساترة عموما مثيرة للدهشة . سردية هذه القوى و دعايتها مبنية بشكل واضح و منذ البداية على العودة الى مؤسسات نظام فاشستي. و حجة هؤلاء ناجعة و مكثفة في هذا الشعار: يجب اعادة الهيبة للدولة كي تشتغل بطريقة افضل . و ترجمة هذه الجملة بالنسبة لنا هي :يجب اعطاء مزيد من حرية القمع كي نمرر الخيارات التي ندافع عنها بالوكالة في الاقتصاد و السياسة.

يستعمل الابتزاز ايضا جزء مهم من جهاز البوليس الذي لم يتغير في عقيدته شيء جوهريا . كما ان هذا الجهاز صار قادرا على الدفاع عن نفسه عبر خلقه لمؤسسات خاصة به تبث دعايته و تشارك في صياغة تفاصيل المشهد السياسي الرسمي . و نعني هنا اساسا النقابات الأمنية . ان بعض الأحزاب اليسارية أو التي سمت نفسها اجتماعية طرحت أكثر من مرة في برامجها منذ 2011 تغيير عقيدة جهاز الأمن كي يتحول الى ” امن جمهوري ” . لكن هذه الحيلة البلاغية لا يمكن أن تنطلي على من يسأل نفسه ” هل نحن فعلا في نظام جمهوري أو في ديمقراطية حتى بمقاييس التعريفات التي تقدمها العلوم السياسية التي تدرس في الجامعات ؟ ”

ان الاذرع الأمنية لجهاز الدولة متضخمة من الزاوية العددية . و هذه الاذرع ترزح تحت كلكل جهة واحدة تمارس داخلها احتكارا  للدعاية و للهيمنة الفكرية . قد يفسر لنا هذا استقتال عدد كبير ممن يعملون داخل هذه المؤسسات في الدفاع عن مشروع القانون . فهم واقعون تحت طائلة خطاب قائم على المظلومية و المغالطات المنطقية .خطاب يجعل الأمني على حق في كل ما يفعله و جديرا بالحصانة . يبقى ان نشير في نفس السياق لنقطتين مهمتين: الأولى تتعلق باللعب على ” الفانتازم ” الذي يسترجع أمني بن علي مهاب الجانب, كمشهدية-هدف. و الثانية هي أن دراسة اشكالية السلطة ( لا بمعناها السياسي بل كمفهوم مجرد )و تجلياتها في مجتمعنا ككل و بكل تفصيلاتها و جوانبها و تمظهراتها من ايديولوجيا الرجولة و الطغيان الأبوي الى جهاز اللغة وصولا للبنى الهرمية في  مؤسسات و اجهزة الدولة الخ الخ .. دراسة من هذا النوع يجب أن تحتل مكانا مهما في عملية البحث لدى كل من مازال متمسكا بالمقاومة . فنحن بصدد مواجهة هذه التفاصيل بشكل ضبابي و دون فهمها جيدا في كل مرة نواجه  فيها اعداء الحرية . و طبعا نحن نتحدث عن الفهم لا التفهم ولا المهادنة .

المبتزون الجدد عن قصد أو عن غير قصد هم شريحة واسعة ممن اسميناهم في كثير من اللحظات ( و بطريقة تخلو من الدقة أحيانا ) البرجوازية الصغيرة او الطبقة المتوسطة . في لحظات أخرى كان هؤلاء يحملون اسم ” الاغلبية الصامتة ” . ان جبن هؤلاء و انخراطهم في جوقة باثي الرعب من الفوضى ليس جبنا بالمعنى العاطفي .بل هو يجد أصوله في مصالحهم بالذات او بالاحرى في تضررها منذ الانتفاضة الى حدود اللحظة . ان هؤلاء يرون أي حركة ” مبالغ ” فيها في سيرورة الصراع الطبقي و الوطني أمرا محفوفا بالمخاطر . انهم يعتبرون انهيار اعمالهم الصغيرة او مقدرتهم الشرائية نتيجة مباشرة “للثورة” و الحرية . هم من ذوي المزاج المحافظ بالمعنى الحرفي للكلمة . اي هدفهم الحفاظ على الوضع كما هو عليه . و في العادة يقوم خطاب هذه الشرائح على مقولتي التهديد الارهابي و  التحركات الاجتماعية و اضرارها بالاقتصاد . فتبني المقاربة الأمنية التي اعتمدها بن علي في التسعينات و العقد الأول من الالفية الثانية يمثل بالنسبة لهم الحل الوحيد . و هم بذلك يلتزمون برؤية اختزالية لمسألة الارهاب و لا يرون جذورها الحقيقية التي لم يكن من الممكن القضاء عليها باعتماد العنف فقط .هاته الفئات لها ممثلوها السياسيون و لها أحزاب يسيل لعابها حين تجد تقاطعا بين مصالحها و هواجس الشريحة التي نتحدث عنها . و لعل تذبذب العديد من الأحزاب “الوسطية ” ازاء مشروع القانون الأخير دليل على ذلك . كما ان القوة الضاغطة التي تسلطها على المشهد السياسي الرسمي تجعلنا اليوم و للمرة الألف نرى كاريكاتور التقاء الدساترة مع الاسلام السياسي و حركة النهضة في مشهد يعكس كل التشوهات التي انتجها النظام في شكله الجديد بعد 2011 .

و لكن اليس غريبا ان تدافع حركة النهضة رفقة الدستوري الحر عن مشروع قانون الزجر ؟ نحن نقول ان ذلك ليس غريبا على الاطلاق . مادامت الحركة لاعبا رئيسيا في السلطة فهي فستكون دائما مع تفعيل بسط نفوذها الى اقصى درجة حتى عبر استعمال الجهاز الذي بنت على ممارساته خطاب الضحية الذي اعطاها نوعا من المشروعية و مدخلا للتلاعب بأنصارها و مريديها و بالبلاد بأكملها .

ان خطاب الابتزاز يجد اليوم مقاومة . و هذا جيد . لكن هذه المقاومة مازالت بصدد استعمال تقاليد قائمة على ردود الافعال لا التخطيط , و على التنفيس لا توجيه دعاية مدروسة , و على رفض التنظم و رفع درجات التنسيق بحجج لا سلطوية تنطلق من سلطوية لا تريد قيودا . و مازالت حركة المقاومة لم تكمل فرزا واضحا بين المقتاتين من الحدث السياسي و بين من يتبنون فعلا قضايا و أفكارا , المستعدين للدفاع عنها الى الحد الأقصى . لكن هذا حديث آخر ليس اليوم توقيته المناسب . اليوم سنصمد أكثر و سنعلن رفضنا بصوت أعلى . و حين ترتفع  موسيقى الرفض من كل مكان , و ان بشكل غير متناسق, سيكون ذلك خطوة في اتجاه عرض جدي لاوركسترا المقاومة الشاملة .  


أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !