رأيْ | الحجْر الصحّي يعيد”توطينَ” الشباب اليساري في تونس

بقلم مطاع أمين الواعر

تقديم

لطالما حدّثتنا أدبيّاتُ اليسار[1] التونسيّ خصوصًا، والعربيّ[2] عمومًا، عن معضلة “الالتحام بالجماهير.” ويَندر أن يخلو خطابٌ تقويميٌّ لأسباب “أزمة اليسار” من إشارةٍ إلى هذه المعضلة. ويَفترض الإقرارُ بوجود هذه المعضلة الإقرارَ بضرورة ذلك الالتحام كوضعٍ مثاليٍّ يجب أن تكون عليه علاقةُ اليسار بـ”الجماهير الشعبيّة،” خصوصًا أنّ اليسار يقدّم نفسه مُدافعًا عن هذه الفئات الاجتماعيّة، بل ناطقًا رسميًّا باسمها أحيانًا.

وإذ أطرحُ مسألةَ “الالتحام” هذه للتمحيص، فذلك ليس بهدف تناولها من ناحيةٍ نظريّةٍ مجرّدة، بل اعتمادًا على تمظهرها لدى اليسار التونسيّ، وخصوصًا شبابه، وبغاية البحثِ في واقع الانعزاليّة الذي يعيشه. وقد كان الحجْرُ الصحّيُّ العامّ الذي عاشتْه تونس خلال شهريْن ونيّف مناسبةً غيّرت الفضاءَ الاجتماعيَّ لليسار بشكلٍ أعاد طرحَ هذه المسألة من جديد. وقد دفعني ما سبق إلى التساؤل عن قدرة أجزاءٍ من هذا اليسار على تثمينِ ما حصل من تجارب خلال هذه الفترة من أجل المراكمة عليها بغرض إحداث تغييراتٍ في أدائه السياسيّ.

لكنْ من المهمّ، بادئَ ذي بدء، التأكيدُ أنّ انقطاعَ اليسار التونسيّ عن الفئات الشعبيّة ليس مطلقًا. ولعلّ نجاحَ رفاقٍ أعرفُهم شخصيًّا،[3] وآخرين بلغتْ مسامعي رواياتٌ عنهم، في أن يكونوا جزءًا طبيعيًّا من مجتمعهم المحلّيّ، هو الذي يشجّعني على كتابة هذه الأسطر. إلّا أنّ التنافر يبقى السمةَ البارزةَ لعلاقة اليساريّين بمحيطهم.

انعزاليّةُ اليساريّين

إنّ رصدَ هذه النزعة الانعزاليّة[4] يتطلّب بحوثًا معمّقة. ولهذا سأكتفي بمؤشِّراتٍ محدودة.

تعني هذه الحالة ضعفًا مزمنًا في إشعاع التنظيمات اليساريّة داخل الفئات الاجتماعيّة التي تدّعي هذه التنظيماتُ الدفاعَ عنها. وهذا الضعف يتزامن مع الانحسار التدريجيّ لشبكة علاقات الشباب اليساريّ خارج حقل المناضلين والنشطاء. ويَفترض هذا النصّ أنّ اليسار لا يمكنه إحداثُ تغييراتٍ جذريّةٍ دائمةٍ في بنى السلطة إنْ لم يرتكز إشعاعُ تنظيماته إلى علاقاتٍ قويّةٍ مع مَن هم خارج هذا الحقل.

لن يعزَّ على أيّ مُلاحظ رصدُ بعض السمات الأساسيّة لنسق عيْش اليسار في كبرى مدن البلاد.[5] ويمكن نعتُ هذا النسق بـ”الانطوائيّ.” وتتجلّى انطوائيّتُه في أبعادٍ أساسيّة:

– أوّلُها، نزوعُ اليساريين إلى تمضية أغلب الوقت معًا. ويكتسب الشبابُ اليساريّ هذه العادةَ خلال سنوات الدراسة الجامعيّة،[6] ولا تفارقُهم بعدها حتّى عند دخولهم عالمَ العمل المأجور.

– وثانيها، أنّ هذا الميْل يتفاقم مع مرور السنوات وتَرَسُّخِ الفرد في النضال اليساريّ. قد يبدو ما سأقولُه غريبًا، غير أنّ ارتباطَ الشخص بمَن هم خارج حلقة الرفاق والرفيقات يتقلّص بازدياد الوقت الذي يقضيه داخلها. وذلك يعني أنّ الديناميكيّات الجماعيّة المهيمنة بين اليساريين واليساريّات لا تكتفي بعدم دفعهم إلى تعزيز ارتباطهم بمحيطهم الاجتماعيّ، بل تقلّص أيضًا الارتباطَ الذي كانوا يمتلكونه قبل انتمائهم إلى اليسار.


الديناميكيّات الجماعيّة المهيمنة بين اليساريين تقلّص ارتباطَهم السابق بمحيطهم الاجتماعيّ المباشر

– ثالثُ أبعاد الانطوائيّة هو بناءُ المجموعات اليساريّة عوائقَ أمام مَن هم خارجها، وتجعل انتسابَهم إليها عسيرًا. في الجامعة مثلًا، نرى أنّ الجهدَ النفسيّ والذهنيّ المبذول من أجل الانتماء إلى اليسار كبيرٌ لدى مَن لم يتلقّوْا تنشئةً عائليّةً تؤمِّن لهم أبجديّاتِ المعجم اللفظيّ والسلوكيّ الساري في “الاتحاد العامّ لطلبة تونس” وبقيّةِ التنظيمات السياسيّة اليساريّة والقوميّة. ويكمن سببُ ذلك في أنّ مجموعات المناضلين تُنتج أطرًا جماعيّةً تَستخدم مصطلحاتٍ خاصّةً، ومزاحًا ذا رسائلَ مشفّرة، وذوقًا لباسيًّا وفنّيًّا متقاربًا، وقراءاتٍ بعينها. ويتحوّل هذا الإطارُ إلى حدٍّ فاصلٍ بين مَن هم داخل المجموعة ومَن هم خارجها، ويصير مصدرَ تنفيرٍ للطالب الجديد المفتقِرِ إلى رأسمالٍ نضاليٍّ عائليّ. ومع أنّ كلفةَ الانتماء قد قلّت بشكلٍ واضحٍ منذ العام 2011 جرّاء تقلّص القمع الأمنيّ، فإنّ هذه العوائقَ أمام المنخرطين الجدد لم تتغيّرْ كثيرًا، بل أصبحتْ أكثرَ إبهامًا وتجريدًا.[7]

– أمّا رابعُ الأبعاد وآخرُها، فهو النظرةُ العموديّةُ إلى الفئات الاجتماعيّة الموجودة خارج حدودِ مَن عَرّفوا أنفسَهم بأنّهم “نُخبة.”[8] وهذه رؤيةٌ ورِثها اليسارُ (كما العائلاتُ السياسيّة والفكريّة الأخرى) عن “الفكر التحديثيّ” التونسيّ (المرتبطِ بالفكر اليعقوبيّ الفرنسيّ)، وهو مجموعةٌ هجينةٌ من التصوّرات التي تجتمع حول بديهيّاتٍ، أبرزُها: 1) أنّ “النخبة” قوّةُ تغييرٍ نحو الأفضل، في حين أنّ “العوامّ” قوةُ ركودٍ وجذبٍ إلى الوراء؛ 2) أنّ تصنيفَ الفئتيْن مرتكزٌ إلى معاييرَ ثابتة واعتباطيّة (وراثيّة في أغلبها) لا تتيح إلّا قدرًا ضئيلًا من الحركيّة الفرديّة والجماعيّة؛ 3) أنّ للنخبة “مهمّةً تاريخيّةً” عليها إنجازُها عبر قيادة العوامّ قسرًا نحو الأفضل لأنّ هؤلاء “عاجزون” عن إدراكه بمفردهم.

وبالرجوع إلى اليسار الطلّابيّ، وعلى عكس الفكرة الرائجة عن ضرورة “تبسيط الخطاب اليساريّ” لأنّ الطالبَ “العاديّ” غيرُ قادرٍ على فهمه، فإنّ تبنّي اليساريّين لخطابٍ معقّدٍ (حتّى بالنسبة إلى جلّ عناصرهم) يمكن أن يُعتبر سعيًا محمومًا إلى الانتماء إلى “النخبة،” ومصدرَ تميّزٍ اجتماعيّ مِن عموم الطلبة.ويعني ما سبق أنّ اليساريّين مدعوّون، إنْ كان الاندماج في الفئات الشعبيّة هدفًا حقيقيًّا لهم، إلى التوقّف عن محاولة إبعاد الناس عنهم.

أثرُ هذه الانعزاليّة في العمل السياسيّ اليساريّ في تونس

أشرتُ إلى أنّ الانتماء إلى اليسار يقلّص في عديد الأحيان شبكاتِ العلاقات الاجتماعيّة السابقة له. والحقّ أنّ تراجُعَ مكانة تلك الشبكات في حياة الفرد محطّةٌ ضروريّةٌ في مسار التنشئة الاجتماعيّة لكلّ أفراد المجتمع؛ بيْد أنّ ما يجعله استثنائيًّا في حالة اليسار الطلّابيّ هو حدّتُه والآثارُ السياسيّةُ التي يتركها.

من ذلك، مثلًا، أنّه عندما تَفْتر علاقةُ الطالب اليساريّ الفتيّ بشبكة أصدقاء الطفولة أو بالعائلة الموسَّعة (لقلّة الوقت الذي يخصِّصه لهما)، فذلك يترافق مع شبكة علاقاتٍ جديدةٍ تنفتح أمامه، وهي شبكةٌ فريدةٌ من نوعها وغيرُ متاحةٍ لبقيّةِ مَن هم في حاله. إذ من الاستثنائيّ أن تجتمعَ لدى طالبٍ في العشرين صداقاتٌ طلّابيّةٌ واسعة، من مؤسّسته الجامعيّة ومن مؤسّساتٍ أخرى (في مدنٍ كثيرة)، وعلاقاتٌ بنشطاءَ في جمعيّات المجتمع المدنيّ ونقابيّين من مختلف الشرائح العمريّة، إضافةً إلى معارفَ من المناضلين الحزبيّين ذوي الارتباطات المهنيّة المتعددة. صحيح أنّ هذا الشاب خسر جزءًا من شبكته الاجتماعيّة المرتبطة بمجالٍ محلّيّ (الحيّ، القرية، المعهد،…)، لكنّه كسب في المقابل شبكةً جديدةً من المناضلين والمناضلات والنشطاء والناشطات من ذوي الارتباط المجاليّ “العائم”[9] من مراكز المدن الكبرى وفضاءاتها المختلفة.

ما يميّز الشبكتيْن أنّ الثانية تضع هذا الشابَّ (أو الشابَّةَ) في علاقةٍ بمُحترفي النشاط السياسيّ، وتنمّي لديه التعلّقَ بالفضاءات الحميمة،[10] مساهِمةً في المزيد من عزله عمّا يوجد خارجَ هذا الفضاء، وموفّرةً له في الوقت ذاته شبكةً أكثرَ فائدةً له من الناحية الشخصيّة. مقابلَ ذلك، ترتبط الشبكةُ الأولى بالديناميكيّات المحلّيّة، وهي المجالُ الحيويّ الذي يُفترَض أن تُستلهمَ منه وتخاضَ فيه أيُّ سياسةٍ يساريّةٍ تهدف إلى التغيير الاجتماعيّ.

ليس هذا المسارُ الاجتماعي قدَريًّا؛ إذ بمقدور هؤلاء الأفراد نسجُ علاقات اجتماعيّة جديدة منغرسة مرتبطة بالمكانَيْن معًا: مكانِ عيشهم، ومكانِ نشاطهم التطوّعيّ الجديد. بيْد أنّ قوّةَ الارتباطات الجديدة، وحجمَ ما تستهلكه من وقتٍ وجهد، يجعلان العلاقاتِ المنغرسةَ في مكان العيْش أعسرَ.

من بين كلّ الآثار الممكنة لنسق العيش هذا، فإنّ ما يعنيني في هذا النصّ هو الآثارُ في السياسة اليساريّة.

– أحدُ هذه الآثار يتمثّل في جهل اليسار بمحيطه. وهذا يعني حرمانَ اليسار معرفةً حقيقيّةً بما يَشْغل الناسَ وبما يقترحونه من حلول، فيُعوِّضُ ذلك بإسقاطاتٍ يَغْلب عليها المتخيَّلُ والأحكامُ المسبَّقةُ والتأثّرُ بقراءاتٍ مستقاةٍ من المصادر المهيمنة لإنتاج المعرفة. وهو ما يترجَم على شكل “برامجَ سياسيّةٍ” متكرّرة، لا تجري مراجعتُها طوال عقود، بذريعةِ “أنْ لا جديدَ تحت الشمس” بحسب القائمين عليها. وتكون النتيجة اجترارَ الخطاب الإعلاميّ المهيمن، وتبنّي مواقفَ لا تَخدم الفئاتِ الشعبيّة.

– أثرٌ آخر ينجم عن انغلاق اليساريّين واليساريّات بعضِهم على بعض، هو العجزُ عن إحداث تغييراتٍ على مستوى ممارسات فردٍ أو مجموعةٍ أو دولة. لا أريد أن أبخسَ الدعايةَ والاتصالَ عبر وسائل الإعلام التقليديّة والحديثة قيمتَها، لكنّجعْلَ التغييرات راسخةً، لا انفعاليّةً أو ظرفيّةً، يَشترط قوّةَ الارتباط الشخصيّ المباشر والاتصال اليوميّ (أو المتواصل على الأقلّ) بالمجال الذي نروم إحداثَ التغيير فيه.

المفارقة هنا أنّ التنظيمات الانتخابيّة السلطويّة تعي ذلك جيّدًا، ما يدفعها إلى تكوين شبكة متعاونين محلّيّين يمثّلونها أمام الأهالي بمناسبة كلِّ انتخابات، مقابلَ أجرٍ أو مكافأةٍ ما. أمّا الأحزاب والقوائم المستقلّة اليساريّة فتحاول، بدورها، الاعتمادَ على مناضلين محلّيّين في هذه المناسبات، لكنّ “المناسباتيّة” ونقصَ الجدّيّة في التعامل مع هؤلاء يُفْشلان محاولاتِها تلك في العادة. ولمّا كان يستحيل على اليسار الحقيقيّ اعتمادُ الزبائنيّة آليّةً للانتشار، فإنّه مطالَبٌ بأن يكون مناضلوه ومناضلاتُه موجودين في أحيائهم كعناصر مندمجة في نسيجها الاجتماعيّ المحلّيّ كي يرتفعَ منسوبُ ثقة الناس به وبتصوّراته. لكنّ هذا الانغراس يتطلّب عملًا دؤوبًا لا يترقّب نتائجَ آنيّة.

– ثالثُ الآثار يمسّ خطورةَ انعدام مسؤوليّة اليسار السياسيّة تجاه فئاتٍ واسعةٍ من المجتمع. فاليساريّ المنعزل لا مسؤوليّةَ ميدانيّةً له في ما يقرِّر وما يصرِّح به سياسيًّا؛ بمعنى أنّه يستطيع اتخاذَ موقفٍ اليومَ ثمّ الانقلابَ عليه بعد برهة، أو يستطيع قولَ شيءٍ وفعلَ نقيضِه، من دون أن يكونَ لذلك انعكاسٌ ميدانيٌّ فعليّ. فالمصرِّح بموقفٍ ما مطالَبٌ بتبريره، أوّلًا وقبل كلّ شيء، للأطراف التي يدين لها بوجوده. فإذا لم يكن اليسار مدينًا بوجوده للطبقات الشعبيّة والمجتمعات المحلّيّة التي يَنْشط فيها، فإنّ التزامَه بمصالحها لا يَخْضع لرقابتها المباشرة، بل يبقى رهينَ النوايا الطيّبة لقياداته – – وهذا غيرُ كافٍ.


اليسار التونسيّ اليوم يَنْدر أن يوجّه خطابَه مباشرةً إلى الفئات الشعبيّة

والحال أنّ اليسار التونسيّ اليوم يَستهدف، في جلّ خطاباته، وسائلَ الإعلام وبقيّةَ الفاعلين السياسيّين وبعضَ الداعمين من أجل إقناعهم بمواقفه، ويَنْدر أن يوجّهَِ خطابَه مباشرةً إلى الفئات والطبقات الشعبيّة. ويَنجم عن هذا الغياب افتقادُ اليسار التونسيّ إلى المِحْرار (ميزان الحرارة) الاجتماعيّ والطبقيّ لمواقفه، وهو محرارٌ يتيح له تقويمَها بمقاييسَ أكثرَ صرامةً من الاكتفاء بالنقاشات المجرّدة والمتعالية على الواقع.

إضافةً إلى ما سبق، فإنّ حرصَ الفئات الشعبيّة والمجتمعات المحلّيّة على التصويت لأحزابٍ وقوائمَ ذاتِ ممثّلين وممثّلاتٍ محلّيين يُخْفي ذكاءً عمليًّا لطالما فشل اليسارُ في إعطائه حقّه. ذلك أنّ التصويتَ لمن تربطُك به علاقةٌ شخصيّةٌ مباشرةٌ يجعل القدرةَ على التأثير فيه ومحاسبتِه أكبرَ. ونرى هذا بوضوحٍ في مناطق عديدةٍ من البلاد، حيث يجد ممثّلو حزبٍ لم يلتزم بوعوده الانتخابيّة أنفسَهم أمام خياريْن أحلاهما مُرّ: التبرّؤ من الحزب الذي خان ثقةَ الأهالي، أو التشبّث بالرباط الزبونيّ وخسارة ثقة الأهالي. على خلاف ذلك، لا تثق الفئاتُ الشعبيّة، عادةً، بخطاباتِ تنظيماتٍ لا تَعْرف ممثِّليها ولا تراهم إلّا في الحملات الانتخابيّة.

بقي اليساريّات واليساريّون في تونس على حالهم تلك إلى أن قرّرت الحكومةُ إعلانَ الحَجْر الصحّيّ العامّ يوم 22 مارس تفاديًا لانتشار فيروس كوفيد-19. وقد قلب الحجْرُ نسقَ حياتهم رأسًا على عقب، كما فعل بغالبيّة التونسيين.

رُبَّ ضارّةٍ نافعة؟

أربك الحجْرُ “رتابةً أليفةً” كان يعيشها جزءٌ مهمٌّ من الشباب اليساريّ. أمّا “الرتابة” فلأنّهم كانوا يلتقون بشكلٍ شبهِ يوميّ في حلقاتٍ صغيرةٍ لتكرار الحديث في مواضيعَ مجترَّة، وللتنازع حول خلافات سياسيّة ونظريّة عويصة وكأنّها مشاكلُ شخصيّة.[11] وأمّا “الألفة” فمصدرُها الاستقرارُ النفسيّ والاجتماعيّ الذي تقدّمه الحلقاتُ الضيّقةُ إلى عناصرها عبر تصدير المشاكل باستمرارٍ خارجها (إمّا لأفرادٍ أو لمجموعاتٍ يساريّةٍ أخرى “خانت” أو “انحرفتْ،” وإمّا للفئات الاجتماعيّة المستهدفة “التي ينقصها الوعي”)، والهروب من مواجهة واقع عزلتها وعبثيّة وجودها السياسيّة.

وحصل الإرباكُ لأنّ الحجْر مَسَّ مجالاتٍ واسعةً من حياة الشباب اليساريّ. فإغلاقُ المقاهي والحانات، في العاصمة وبقيّة المدن الكبرى، حَرَم ذلك الشبابَ، مثلًا، فضاءاتٍ كانت تجمعه، وأفقده الأنشطةَ الثقافيّةَ والسياسيّةَ التي كان قسمٌ منه يواظب على المشاركة فيها. ومع توقّف الدارسة وسقوطِ جزءٍ من الالتزامات المهنيّة التي كانت تشغل عناصرَه سابقًا، تقلّص عددُ ساعات انشغالهم. هكذا تزامن تعاظمُ وقت فراغ الشباب اليساريّ مع تقلّص مجال تنقّله، الذي صار مقتصرًا (كجُلّ التونسيين) على الأحياء التي يقطنها.

أصابت البهتةُ الجميعَ خلال أيّام الحَجْر الأولى. وبلغ ارتباكُ بعض الشباب اليساريّ حدودَ الاكتئاب المزمن، جرّاءَ شعوره بالعزلة. لكنّ هذا الوضع لم يدم طويلًا، إذ سرعان ما انتشرت المبادراتُ المواطنيّةُ بشكلٍ عفويٍّ مذهل. وتراوحتْ هذه المبادراتُ بين النزعات الخيريّة من ناحية، والتضامن الذي يُعْلي المسؤوليّةَ المشتركة والعدالة في تقاسم تكاليف الأزمة من ناحيةٍ أخرى.

ولم يتخلّفْ قسمٌ من الشباب اليساريّ عن هذا الموعد. فمثلًا، أسّستْ عناصرُ منتميةٌ وغيرُ منتمية (مع غلبة القسم الثاني) “المبادرةَ الشعبيّةَ للتصدّي لوباء الكورونا”[12] وغيرَها من المبادرات تحت يافطة العدالة الاجتماعيّة وواجبِ التضامن الشعبيّ المسيّس. وبرز ذلك في حرصهم على جمع المساعدات العينيّة وتوزيعِها على مَن يحتاجها، بالتوازي مع وضعِ ما يقومون به (وإنْ بشكلٍ استعجاليّ) في أفقٍ سياسيٍّ أعمّ، ومع نقد السياسات التفقيريّة للحكومات المتعاقبة. ولعلّ ما يجعل هذا الخيارَ استثنائيًّا هو إعراضُ اليسار التونسيّ عادةً عن جمع المساعدات والتبرّعات لأنّه يعتبرها إعفاءً للدولة من مسؤوليّتها في توفير الاحتياجات الأساسيّة، وفتحًا للباب أمام تعويد المحتاجين على انتظار المساعدة واعتبارها “منّة” ممّن يمنحُها، بدلًا من أن يطالِبوا بحقوقهم التي قد تكون الدولةُ نفسُها مسؤولةً عن سلبهم إيّاها.

عنصرٌ آخر كان حاضرًا بقوّة في عمل “المبادرة الشعبيّة” وهو التعاملُ النقديّ المنهجيّ مع قرارات الحكومة. فهذا النقد يعزِّز البعدَ السياسيَّ لتدخّلها، ويميِّزها من مبادراتٍ أساسُها العملُ الخيريّ، ومِن أخرى ركّزتْ خطابَها على مناكفة الحكومة والأحزابِ المكوِّنةِ لها. وقد تميّزتْ منشوراتُ “المبادرة الشعبيّة” بجدّية مقارباتها ودقّتها، مقارنةً بما اعتاد اليسارُ تقديمَه. ولا سرّ في ذلك، إذ إنّ جزءًا من العناصر النشيطة منتمٍ إلى “المنظّمة التونسيّة للأطبّاء الشبّان” ذاتِ الاطّلاع الدقيق على واقع الصحّة في البلاد، ما جنّبها السقوطَ في الشعارات والتعميمات. كان هؤلاء اليساريّون واليساريّات مدفوعين أيضًا بالرغبة في “عدم ترك الميدان شاغرًا،” أيْ مفتوحًا للجمعيّات القريبة من التجمّع الدستوريّ الديمقراطيّ (المُنْحَلِّ) ومن التيّارات الإسلاميّة، التي يروْن أنّها تستثمر في معاناة الناس عبر تقديم المساعدات من أجل استتباعهم.

كما برزتْ على الساحة مبادراتٌ محلّيّةٌ في عددٍ من مدن البلاد، كان الشبابُ اليساريُّ فاعلًا في بعضها. وقد نشطتْ هذه المبادراتُ اعتمادًا على القرب الجغرافيّ، والمعرفةِ الشخصيّة المباشرة، مدخلًا لبناء الثقة وإعادةِ الاعتبار إلى قيم التضامن بين الأهالي. وانخرط غيرُهم في العمل التطوّعيّ الذي مركزتْه أجهزةُ الدولة في بعض المدن عبر التنسيق بين المعتمديّات والبلديّات، وفتح البابَ أمام الجمعيّات التي لها فروعٌ في المجال الترابيّ المعنيّ وأمام المتطوِّعين كي يشاركوها مسؤوليّةَ جمع التبرّعات وتوزيعها.

دفع انحسارُ مجال الحركة خارج الأحياء، والانخراطُ غيرُ المسبوق في العمل الميدانيّ المحلّيّ، قسمًا من الشباب اليساريّإلى إعادة اكتشاف المحيط المجاليّ المباشر والعلاقاتِ الاجتماعيّة التي تؤطِّره. فتمكّن عددٌ منهم من إحياء علاقاتٍ قديمةٍ، وخلقِ أخرى جديدةٍ، زادت من ارتباطهم بهذا الفضاء الاجتماعيّ الأوّليّ. كما هيّأ لهم الانخراطُ المباشرُ في الأحياء الطريقَ لبداية فهم علاقات الهيمنة والارتباط المحلّيّة كما هي، لا كما يتخيّلونها، وكشفَ لهم جوانبَ كثيرةً كانوا يجهلونها عن عيش جيرانهم.[13] ومن فضائل هذا العمل الميدانيّ إخراجُ اليساريّين من سجن “التمثّل الإحصائيّ” للناس (أيْ بوصفهم أرقامًا أو معطياتٍ مجرّدةً)، ورؤيةُ معيشهم اليوميّ الحقيقيّ، وكيف أثّر الحجْرُ الصحّيُّ العامُّ فيهم، والتواضعُ لمشاركة الناس في تصوّر حلولٍ مباشرةٍ لوضعيّاتهم المستعجلة، من دون أن يتناقض ذلك مع النضال من أجل تغييراتٍ بنيويّةٍ ضروريّةٍ للقضاء على علاقات الاستغلال والهيمنة.

هل يعيد الحجْرُ الصحّيّ العامّ تشكيلَ العقل اليساريّ التونسيّ؟

يبقى السؤالُ الأهمّ عن مدى قدرة العقل اليساريّ التونسيّ على هضم هذا الدرس العمليّ المجّانيّ الذي قُدّم إليه على طبقٍ من فضّة: كيف يمكنه تحويلُ المكاسب البسيطة إلى تغييراتٍ تدوم ولا تتبخّر بانتهاء الحجْر الصحّيّ العامّ؟

من المؤكّد أنّ التحدّيات كبيرة، خصوصًا بعد عودة الجميع إلى التزاماتهم المهنيّة والدراسيّة التي سبقت الحجْرَ. ومن المؤكّد أنّ ما أقترحُه مختلفٌ عن الدعوة إلى الاستقرار حيث يوجد الكادحون، مثل التوجّه الذي انتشر بعد العام 1968 في عددٍ من الدول الغربيّة، وبخاصّة في فرنسا (تجربة les établis)، حين توجّه مُجازو السوربون وغيرِها من أعرق الجامعات الفرنسيّة للعمل في مصانع بيجو ورينو؛ ذلك أنّ مثلَ هذه التجارب أفضى إلى نتائج غيرِ مشجِّعةٍ في أغلب الأحيان بسبب عجز جلّ هؤلاء المثقفين عن رأب المسافة الاجتماعيّة الكبيرة التي تفصلهم عن العمّال.

المهمّ في هذه المرحلة هو أن نَقْدر على طرح الإشكال، والتعاملِ معه بصفةٍ نقديّة. لكنّي أرى أهمّيّةَ أن يثمِّنَ اليسارُ علاقاتِه المندمجةَ في نسيجها الاجتماعيّ، بحيث تصبح المحافظةُ على الارتباطات الاجتماعيّة المنغرسة في بيئتها التي سبقت الالتزامَ السياسيَّ وبناءُ علاقات جديدةٍ منغرسةٍ في أماكن الإقامة والعمل الجديدة قيمةً مهمّةً لدى اليساريّين تضاهي (أو تَفُوق) سعةَ المعرفة النظريّة أو السياسيّة.

أمّا من الناحية التنظيميّة، فتُمْكن ترجمةُ هذا بتقديم التمركز المحلّيّ على الحضور الوطنيّ والجهويّ. وهذا يعني ألّا تُولي مجموعةٌ صغيرةٌ من المناضلين، المتناثرين على عددٍ من الأحياء في الولاية نفسها، الأولويّةَ لتأسيس هيكلٍ تنظيميّ لهذه الولاية أو للبلاد عامّةً، وألّا يُغْرقوا أنفسَهم في مهامَّ تستنزف قواهم المحدودةَ وتُبْعدُهم عن أحيائهم. نقطة الانطلاق يُستحسن أن تكون في السعي إلى تقوية الحضور في كلّ حيٍّ يوجد فيه عناصرُ يساريّةٌ. وكلّما قوي الحضورُ في منطقةٍ ما (المدينة أوّلًا، ثم الولاية، ثمّ الجهة، وأخيرًا المستوى الوطنيّ العامّ)، تأسّسَ هيكلٌ ينظِّم الحضورَ فيها. والشكل التنظيميّ الذي قد يلائم هذا التصوّرَ هو “التأسيس من تحت،” أي إنّ المؤسّسات التي تنظِّم مجالاتٍ أوسع تكون نتيجةً لانتخاباتٍ بين هياكل المستويات الأدنى.

على أنّ هذا التصوّر التنظيمي يطرح تساؤلاتٍ جدّيّةً تتعلّق بالوحدة التنظيميّة والخطّ السياسيّ والمنطلقات النظريّة، وهو مجال سأعود إليه في نصوصٍ لاحقة. غير أنّ نقاشَ هذه الإشكاليّات يجب أن يسبقه تَفَكُّرٌ ذاتيّ من اليساريّين الذين عاشوا هذه الانعزاليّةَ الاجتماعيّة. وهذا التَفَكُّرُ فرديّ لأنّه يتعلّق بقضايا يشتبك فيها الحميميُّ (الصداقات، العلاقات العاطفيّة والعائليّة،…) بالسياسيّ. وهو، في الآن نفسه، جماعيّ لأنّه يتعلّق بوضعٍ يشترك فيه عدد كبير جدًّا من اليساريّين واليساريّات، ويتطلّب نقاشًا وصراعًا علنيّيْن داخل المجموعات السياسيّة وفي الفضاءات المشتركة بين اليساريين.

لا نتيجةَ حتميّةً لهذا المسار. المهمّ هو الاستفادةُ من أخطاء الماضي بعدم إعادة إنتاجها، والوعيُ بحدودنا الشخصيّة والجماعيّة. وهذا ما قد يَكْفل لنا بناءَ علاقة مختلفة مع بقيّة فئات شعبنا، ملؤُها التواضعُ والاحترامُ المتبادل. كما أنّه سيقينا من رفع سقف توقّعاتنا بشكل إرادويّ واهم، ومن التعسّف على موازين قوى الصراع الطبقيّ. وقد يتيح لنا إنتاجَ معرفةٍ وبرامجَ وأشكالٍ تنظيميّةٍ نابعةٍ من واقع شعبنا، كفيلةٍ بترجيح كفّة الفئات الشعبيّة في الصراع الطبقيّ الذي تخوضه ضدّ المستفيدين من استمرار واقع الاستغلال والتمييز.


[1] اليسار المعنيّ بالتحليل هنا هو، أساسًا، اليسار الماركسيّ، أو الذي تأثّر بالماركسيّة.

[2] ينطلق النصّ من تجربة الشباب اليساريّ في تونس، لكنّي أعتقد أنّ جزءًا منها تُمْكن الاستفادةُ منه لقراءة واقع الشباب اليساريّ في بقيّة الدول العربيّة.

[3] كمثال على هذا الانغراس، أورد التجربةَ النموذجيّة لـ”جمعيّة حماية واحات جمنة” وتجربة “جيل ضدّ التهميش” في الكبّاريّة.

[4] أنا معنيّ بهذه الانعزاليّة شخصيًّا. غير أنّي آثرتُ عدمَ شحن النصّ ببعدٍ ذاتيّ لأنّ الهدف هو التركيز على المشترَك في هذه النزعة، ممّا تقاسَمْتُه مع أعدادٍ كبيرةٍ من شباب اليسار التونسيّ.

[5] يكتفي التحليلُ هنا بواقع العناصر اليساريّة النشيطة في المراكز الجامعيّة الكبرى الموجودة في المدن التونسيّة الكبرى، ولا يشمل مَن يعيشون في المدن الصغرى غير الجامعيّة أو القلّة القليلة التي تعيش في بعض القرى التونسيّة. كما أنّ هذا المقال لا يأخذ في  الاعتبار عديدَ المحدّدات التي تؤثّر في تجارب الأفراد (كالنوع الاجتماعيّ، ورأس المال الثقافيّ،…)

[6] تُعتبر الجامعة محطّةً شبهَ إجباريّة داخل اليسار التونسيّ. ويَندر أن تجدَ يساريّةً أو يساريًّا لم يدرسا في الجامعة.

[7] كانت هذه الممارسات قبل العام 2011 من قبيل الممارسات غير المحمودة التي اتّخذناها بسبب القمع. أمّا اليوم، وبحكم التقلّص الكبير للقمع السياسيّ، فقد تحوّلتْ إلى ممارسات شبه طبيعيّة، وصار رصدُها أعسر.

[8]قد يتوافق مدلولُ “النخبة” أحيانًا مع ما يُعرف في التراث الشيوعيّ بـ”الطليعة.” لكنّ المعنى المقصود هنا أكثرُ ارتباطًا بالمحدِّدات الاجتماعيّة والجهويّة والثقافيّة، وهو مستقلّ عن الانخراط “الطليعيّ” في المنظّمات الثوريّة.

[9] أي الارتباط المتحرّك والرخو.

[10] “الحميمة” هنا تعني فضاءاتِ الألفة والثقة والصداقة والعلاقات العاطفيّة. وإذا كانت العائلة فضاءً حميمًا أيضًا، ونِيط بعهدته إعدادُ الأفراد للتعامل مع فئاتٍ واسعةٍ من المجتمع، فإنّ الفضاءات التي نحن بصددها، على شكلها الحاليّ، لا تؤدّي هذه المهمّة.

[11]لا أنفي هنا أهمّيّةَ البعد الشخصيّ في الصراعات والخلافات. لكنّي أجزم أنّ العجزَ عن خوض الصراع الطبقيّ داخل الأطر الجماهيريّة، والبقاءَ في الهامشيّة السياسيّة، يجعلان كلّ الخلافات السياسيّة والنظريّة والتنظيميّة تتعفّن لتأخذ شكلَ صراعٍ أنانيّ بين مجموعةٍ من الذوات المتضخِّمة.

[12] رابط صفحة المبادرة على الفايسبوك: https://vu.fr/L0Ee

[13] لا تعتمد هذه الفقرة على ملاحظةٍ منهجيّة، بل على ما ساقه لي بعضُ الرفاق والرفيقات من تجاربهم الشخصيّة. لذلك وجب الحذرُ من تعميم الاستنتاجات الواردة فيها قبل إجراء بحوثٍ ميدانيّةٍ جدّيّةٍ في الموضوع.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !