إخترنا لكم | ألبير ممّي : تناقضات الحالة الاستعمارية

في يوم 22 ماي الماضي توفّي بباريس ألبير ممّي، الشّخصيّة المعروفة في حركة مناهضة الاستعمار، وهو من مواليد تونس سنة 1920 وكان غادرها نهائيّا بعد الاستقلال سنة 1956.

يكشف هذا النص المترجم تناقضات ممّي الذي كتب ضدّ الاستعمار، لكنّه كان صهيونيًا (باعترافه)، ولم يرَ في الصهيونية النظام الاستعماري العنصري الذي يشاهده العالم كلّ يوم، بل مجرّد “حركة تحرّر قومي لليهود”.

نُشر على موقع الحملة التونسية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل بتاريخ 1 جويلية 2020.

ديفيد لويد

لقد بات من المعهود والشّائع في النّظرية الأدبية أن لا يكون لنيّة الكاتب أو لسيرته الذّاتية السّلطة النّهائية في تأويل أثره، فهو منفصل عنهما حتّى وإن كان لهما إسهام في تشكّله وفي بنيته. ومن باب أحرى أن لا يكون لحياة الكاتب وآرائه اللاّحقة القدرة على تحديد مصير أثره أو تصحيح معناه. وما يصحّ بشأن الأثر الأدبي يصحّ أكثر بخصوص الكتابة في علم الاجتماع النّقدي: فقيمته تتمثّل في الدّأب على وجاهة التّحليل والقدرة على تفسير الظّواهر الاجتماعية والثّقافية والإخبار عن تطوّر اتّجاهاتها بل والتّنبّؤ بها أحيانا؛ وإنّ ما يأتي به الكاتب لاحقا من توسّعات أو مراجعات لا يمكنه أن يُبْطِلَ الآفاق النّظريّة للأثر أو قدرته التّفسيرية، حتّى فيما يتعلّق بالحالات التي لم يتمّ التطرّق إليها أبدًا عند الكتابة. وينطبق ذلك خاصّة على الآثار المتولّدة عمّا يستشعره مؤلّفوها من تناقضات، وهي تناقضات مستعصية عن الحلّ وقد تصبح المحرّك للتّفكير النّقدي بل موضوعه ذاته. وهكذا تُطارد لعبة العمى والإدراك التّفكير النّظري بينما تُولّدُ في الحين ذاته شروط ذلك التّفكير.

ولا يوجد سوى قلّة من الكتّاب تنطبق عليهم هذه الملاحظات مثلما تنطبق على ألبير ممّي (1920 ــــ 2020) الذي توفّي أخيرا وكان صاحب تحليل أساسي للنّفسية الاستعمارية  في كتابه ” صورة المستعمِر وتليها صورة المُسْتَعْمَر” (Portrait du colonisé, précédé du Portrait du colonisateur)؛ وقد كان المؤمنين بذلك الاقتران المستحيل الذي يتضمّنه ما يسمّى “الصّهيونية اليسارية” (1). فكيف يمكن المواءمة بين التزام ممّي من أجل شرعنة إسرائيل والدّفاع عنها وبين استمرار كتاب “صورة المستعمر”، وهو عمل تأسّس  أوّلا على تجربة الاستعمار الفرنسي بشمال إفريقيا، في الاحتفاظ بقوّة تفسيريّة استثنائية لفهم طبيعة الدّولة الاستعمارية الصّهيونية وتطوّرها ؟ لقد اعتمد كُتّاب صهاينةٌ على السّلطة المرجعية لممّي، أحد كبار المنظّرين لمناهضة الاستعمار، لإنكار البنية الاستعمارية لتلك الدّولة ولقولبة تاريخها في استعمار فلسطين وضمّها، ضمن “إطار المشكلة الأوسع للشّعوب المضطهدة”، ويقدّمون الصّهيونية على أنّها “ليست أكثر ولا أقلّ من حركة تحرير وطني للشّعب اليهودي” (2). ولا يهمّ إن كان هذا القول ليُفاجئ الصّهاينة الأوائل الذين تصوّروا الصّهيونية صراحة كمشروع استعماري في زمن  كان فيها الاستعمار نشاطا مشرّفا في نظر القوى الأوروبية التي كان أولئك الكتّاب يسعون إلى نيل مساندتها. وكما لاحظ إدوارد سعيد منذ زمن طويل فإنّه “من المهمّ التذكّر أنّ الصّهيونية بالتحاقها بالغرب في خضمّ حماسه لامتلاك أراضي ما وراء البحار، لم تكن تتحدّث عن ذاتها بوضوح كحركة تحرير يهودية وإنّما كاستيطان استعماري في الشّرق” (3). والواقع أنّ الصّهاينة الأوائل، رغم التأكيد بأنّهم وجدوا ” أرضًا بلا شعب لشعب بلا أرض” فقد كانوا أميل إلى الاعتراف بالبعد الاستعماري للصّهيونية وأقرب إلى الاعتراف، في موازاة ِذلك، بواقع وجود الشّعب الفلسطيني، من المدافعين المعاصرين عن إسرائيل. إنّ القراءة المتأنّية لكتاب “صورة المستعمر”، إذ لا يُفهم منها قطّ إمكان تحويل الصّهيونيّة إلى حركة تحرير، وإذا ما تمثّلنا ما مصير فلسطين والشعب الفلسطيني، تُظهر مدى ما كان لكتاب ممّي من تنبّؤ ــــ وإن كان لا إراديّا ـــ بتطابق ممارسات إسرائيل مع ما يُنْظَرُ إليه الآن على نطاق واسع كنماذج استعمارية نمطيّة.

لقد تصوّر هرتزل أنّ دولةً يهودية يسكنها مستوطنون أغلبهم من أوروبا “ستكون جزءا من سور حامٍ لأوروبا يفصلها عن آسيا، وموقعًا أماميّا في مواجهة البربريّة” (4). وكما اعترف به ممّي في الصّورة الكلاسيكية التي رسمها للمُستَعْمِر، فإنّ الاستعمار بحث في البداية عن شرعنة غزوه متذرّعًا بمُثُلِ نشر الحضارة والالتزام بتنمية المستعمرات وترقية المـُسْتَعْمَرين وإحياء أراضيهم. غير أنّ قدر تلك المُثُل سواء كانت صادقة أو انتهازية، قد تبيّنت حقيقتُه في النّهاية ــــ كما أوضحه ممّي ــــ جرّاء ظهور “ذهنيّة مُحاصَرين” متصلّبة، كانت ممّا يميّز منذ البداية وعلى النّحو ذاته المجتمعات الاستعمارية التي يحدّد ملامحها الوجود المستمرّ للسكّان المحلّيين؛ ومهما كان أولئك السّكّان مُطوَّقين من كلّ جانب فهم يبدون لتلك المجتمعات كجِوَاٍر يهدّدها ويُشعِرُها بالإحباط لعدم قدرتها على التّخلّص منه. ويظلّ المستوطن دائم الحذر متهيّئا لمقاومة حقيقية أو وهمية خلفّ”جدار حديدي” يحمي ذهنيته كمقاتل ضمن هياكل الدّولة ذاتها.

فعوض أن يكتسب مجتمع المستوطنين، إذن، المزيد من الثّقة والانفتاح على إمكانات التغيير والتّعديل باكتسابه المزيد من السّلطة والأمن، تراه يخضع بمرور الوقت لتصلّب متدرّج في بناه الدّفاعية والنّفسيّة والتّأسيسية؛ وعوض أن توسع الدّولة من الحريّات الديمقراطية وفرص الاندماج، تراها تتّجه إلى مزيد من الاحتكار بذريعة الأمن والتّنمية وتصبح أكثر فأكثر عسكرة وتسنّ المزيد من القوانين المـُشَدَّدَة والمعوقات للحدّ من حقوق المـُسْتَعْمَرين. وقد لاحظ ممّي (صفحة 92)  قائلا: ” هكذا تحمل كلّ أمّة استعمارية في ذاتها بذور الإغراء بالفاشية”. إنّ عرضه باختصار وسخرية وموضوعية عميقة لتناقضات الاستعمار تقدّم توصيفا حادّا وتفسيريّا لانعطاف إسرائيل نحو اليمين وتخلّيها عن القشرة التّقدّمية التي تنكّرت تحتها قديما لمشروعها الاستعماري بدءا بإعادة تشكيل صورة الفلسطينيين على امتداد أرضهم التّاريخية كـ “قنبلة ديموغرافية موقوتة” وصولاً إلى قانون الجنسية الأخير الذي يثبّت نظام الفصل العنصري ونيّتها في ضمّ الضّفّة الغربية. ولا تفتأ الوجاهة النّظرية لأفكار ممّي تكتسب المزيد من الصّحّة كاشفة الغطاء بمنتهى الوضوح عن التّناقض الأساسي في مقولة إنّ إسرائيل “دولة يهودية ديموقراطية”، وهي مقولة جعلت منها الصّهيونية نفسها “جمعًا لِما لا يجتمع” يثير السّخرية.

ويواصل ممّي القول إنّ تناقضاتٍ من هذا القبيل تحدث عند “المـُسْتَعْمِرِ الذي يقبل بصفته” ردّة فعل “غضب وحقد تتحفّزُ دائما للانفجار ضدّ المـُسْتَعْمَر، وهي حادث بريء غير أنّه مُهْلِك ضمن مأساته”. وفي مواجهة صمود الأهالي المحلّيين الرّافضين للاختفاء، يظهر غضبُ المستوطن على أشدّه في ما سمّاه إيلان بابي “الغضب الفضيل” وهو “ظاهرة ثابتة مستمرّة في العمليات التي تمارسها إسرائيل والحركة الصّهيونيّة من قبلها، لتجريد فلسطين من حقوقها وأرضها”.

لطالما شهِدنا تكرار ذلك الاهتياج الغاضب تِباعًا في الاجتياحات العسكرية خلال ردود فعل إسرائيل المـُشِطّة على نحو بربري ضدّ السّكان المحاصرين والمسجونين في غزّة. وبالنسّبة للمستعمر “الذي لا يقبل بصفته” فإنّ ردّة الفعل النّفسية هي شائكة بالقدر نفسه، إذْ “يخامره شكّ، رغم غياب ما يدينه فرديّا، في أنّه قد يقتسم مع غيره مسؤولية جماعيّة  من حيث كونه عضوا ضمن مجموعة مُضطهِدَةٍ ظالمة” (صفحة 69). وإزاء هذه المعضلة، هناك من يرغب في أن يكون ودودًا، أو، على الأقلّ، “منفتحا أو مستعدّا للحوار” (ولنذكر هنا صناعة الحوار التي لا نهاية لها في مسيرة السّلام المزعومة) ولكنه يعجز عن التّخلّي على الامتيازات التي تتيحها صفة المستوطن، أو عن المشروع الشّامل للدّولة الاستعمارية التي يستند إلى قيمها الحضارية المزعومة لتأسيس أخلاقيات تسمح برفض ما تنزلق إليه الدّولة من “شطط”. وفي النّهاية، وكما يُلاحظ ممّي بسخرية ـــ مهما كانت رغبته في أن يكون لطيفًا ومتفهّمًا ـــ فإنّ “المـُسْتَعْمِرَ اليساري” جزءٌ من المجموعة المـُضطَهِدَة ومحكومٌ عليه أن يقاسمها قدَرَها في الضّراء، كما قاسمها السّرّاء” (صفحة 68).

وفي الانتظار، وسواء شعُر المـُسْتوطِنُ بالغضب العارم أو استسلم إلى الأسى لشعوره بالذّنب، وسواء عمد إلى السّباب والشّتم أو مال إلى الاعتدال، فإنّه يُجابِهُ “وضعا تاريخيّا مستحيلاً”؛ وهو وضع “تُحدّدُ العلاقات الاستعمارية فيه (…) كأيّ مؤسّسة أخرى، موقعَه وموقع المـُسْتَعمَر مبدئيّا، كما تحدّد في النّهاية علاقاتهما الحقيقية” (68). إنّ التّناقضات التّاريخية للمجتمع الاستعماري تستمرّ، إنْ طوعًا وإنْ كرهًا، في التّقهقر تدريجيا دون توقّف إلى حالة أقلّ فأقلّ مرونة، سواء كان ذلك للمـُستَعْمِرِ أو المـُسْتَعْمَر اللذين يخضعان لها معًا. ولا يمكننا تصوّر توصيفًا لمسار المجتمع الإسرائيلي حتّى الاختطاف الأخير لمؤسّساته السّياسية من قِبَلِ منظّري اليمين،  أفضلَ من التّحليل الذي يقدّمه لنا ممّي بهذا الرّؤية الاستشرافية الباهرة.

لم يكن ممّي أكثر حصانة من أيّ واحد منّا ضدّ التّناقض. إنّه يهوديّ عربيّ ينكر تلك الهويّة، ملقيا اللّوم على عدائية إسلاميّة تهدّد بمحو الهويّات، بينما يشكّل ذلك التّهديد عنصرا جوهريّا في السّياسة الصّهيونية؛ وهو منظّر لامعٌ لمناهضة الاستعمار دافع حتّى النّهاية عن الاستيطان الإسرائيلي، و”صهيونيّ يساري” اعترف بأنّ الاحتلال الإسرائيلي سيّئ سياسيّا وأخلاقيّا مع العلم أنّ كتاباته تنتهي إلى أن منطق ذلك الاحتلال لا مفرّ منه، وهو أحد رعايا مستعمرة فرنسية يصرّح أنّ “وطنه الحقيقيّ ليس البلد في ذاته وإنّما هو اللّغة الفرنسية”، واصفا مدوّنته بأنّها “محاولة مصالحة بين أجزاء ذاته المختلفة” وتراه في النّهاية قد سكن ما يعرّفه بتميّز “وضعًا تاريخيّا مستحيلاً”. ولئن بلغ ذلك درجة عالية من الجلاء في انعطافه نحو اليمين كمـُسْتَعْمِرِ يقبل بصفته، فإنّنا نلمس منطق ذلك المسار في تحليله الذي لا يُضاهى للعلاقات الاستعمارية. وإن كان قد اضطر إلى السّقوط هو ذاته في تناقضات الحالة الاستعمارية الذي قد فهمها بتمام وضوح، فذلك لا ينقص شيئا من الوجاهة المستمرّة لأعماله بالنّسبة إلى الدّولة التي انتهى به الأمر إلى مبايعتها.

ديفيد لويد أستاذ اللغة الإنجليزية في جامعة كاليفورنيا بريفر سايد يشتغل أساسا على الثّقافة الإيرلندية وعلى نظرية ما بعد الحداثية والثّقافية. وهو عضو مؤسّس للحملة الأمريكية من أجل المقاطعة الأكاديمية والثّقافية لإسرائيل (USACBI).

(1) ألبير ممّي، “صورة المستعمِر وتليها صورة المُسْتَعْمَر” Portrait du colonisé, précédé du portrait du colonisateur ، تقديم جان بول سارتر نشر كورّيا Corrêa ، 1957 ؛ أرقام الصّفحات الواردة هنا هي من نشرة دار بايو Payot ، 1973) وقد أنجز هوارد غرينفيلد ترجمة للكتاب عنوانها The Colonizer and the Colonized نُشِرت ببوسطن بدار Beacon Books سنة 1967.

(2) سوزي لينفيلد Susie Linfield، “حفير الأسود” : الصهيونية واليسار من حنّا أريندت إلى ناعوم تشومسكي : The Lion’s Den : Zionism and the Left from Hannah Arendt to Noam Chomsky (نيوهافن : نشر  Yale University Press, 2019) صفحتا 176 و 179.

(3) إدوارد سعيد : “الصّهيونية من وجهة نظر ضحاياها”‘Zionism from the Standpoint of its Victims’ . نشر Social Text , 1 (1979) صفحة 23.

(4) حول المواقف إزاء الفلسطينيين والمشروع الاستعماري من حاييم وايزمان وزيئيف جابوتينسكي إلى ديفيد بن غريون، ارجع إلى كتاب آفي شلايم : “الجدار الحديدي : إسرائيل والعالم العربي  ـــ (نشر New York : Norton, 2000) صفحات 7 ـ 9.

نشر الأصل الإنجليزي لهذا المقال في Mondoweiss بتاريخ 25 جوان 2020 وترجمته للفرنسية CG و ترجمه للعربية علي اللواتي.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !