رأيْ | بين سياسة الضمّ في فلسطين المحتلّة وثقافة الغمّ(ـة) في تونس شبه المستعمرة

بقلم غسّان بن خليفة

على سيرة تاريخ اليوم 1 جويلية، وهو التاريخ المفترض لبدء تنفيذ خطة الضمّ الرسمي الصهيونية لمنطقة غور الأردن بـ الضفة الغربية المحتلّة . وبغضّ النظر عن الارتباك الاسرائيلي والأمريكي الواضح في تنفيذ هذه الخطّة (على الأرجح خشية منهم على انهيار سلطة أوسلو العميلة)، لا حاجة لنا للحديث عن دور الأنظمة العربية في وصول شعوب الأمّة وقضيّتها المركزية إلى هذا الهوان. بل فلنتوقّف قليلاً أمام دور فئة من المثقّفين، المنتشرين في مختلف بلدان الوطن العربي، ممّن يعملون عن قصد أو عن غير قصد على نشر ثقافة الهزيمة والاستسلام عبر تنميقها بخطاب أجوف عن القضية الفلسطينية، يحتفي بـ”التسامح” و”العقلانيّة” و”الحداثة”. ولا نتيجة ملموسة لهذا الخطاب غير تسهيل سياسات العدوّ الصهيوني تجاه شعبنا في فلسطين وتجاه كلّ شعوب منطقتنا. ولنتحدّث عن تونس تحديدا.

فعلى سبيل المثال، الحبيب الكزدغلي، الأستاذ المؤرّخ المعروف بجولاته وصولاته في مجال التطبيع الأكاديمي مع العدوّ (والبطل المزيّف لـ”موقعة كلّية منوبة” التي انخرط فيها بعض اليسار المندفع قبل سنوات)، نشر اليوم على صفحته مقالا لمجلّة فرنسية أرفقه بسطور غاضبة ومحتجّة على “الضمّ”، تخلّلتها بعض الأسئلة “المحرجة” التي وجّهها “بكلّ شجاعة” إلى “قوى السلام حول العالم” و”الشعوب والقوى المتمسّكة بالشرعية الدولية” حول قدرتها على “توحيد جهودها من أجل تحقيق حلّ عادل” لهذه القضية من أجل… “دولة فلسطينية على الأراضي المحتلّة سنة 1967 “. أمّا الأراضي والمدن المحتلة قبل 1967 (أي حوالي 80 بالمائة من فلسطين) فلا تدخل في اعتبارات السيّد المؤرّخ … وذلك، على الأرجح، لأنّ له زملاء محترمين “اسرائيليين” يعيشون فيها (يشترك معهم في بعض الدوريات الأكاديمية ويلتقيهم من حين لآخر في بعض المؤتمرات)، وقد لا يريد جرح مشاعرهم الرقيقة.

هذا الموقف “الثوري” لا ينبع عن فراغ. بل هو مجرّد محاولة مضحكة للتغطية على مواقف مخجلة أخرى معروفة للجميع، ولا حاجة للعودة اليها الآن. يكفي التذكير بأحدثها. اذ نظّم الكزدغلي مؤخّرا، إلى جانب آخرين من “مثقّفي التطبيع”، ندوة كرّموا من خلالها المفكّر الصهيوني ذي الأصل التونسي ألبر ممّي (الذي تخّلى على ما يبدو عن جنسيته التونسية على عكس ما يزعمه بعض المطبّعين) الذي رحل قبل أسابيع عن عالمنا.

طبعا، ليس هناك إشكال في تنظيم ندوة لنقاش أعمال مفكّر بارز يستحقّ أن يُدرسَ فكره وما قدّمه من إسهامات هامّة في علم الاجتماع من مختلف الجوانب. لكن المشكلة تبدأ – أو تستمرّ للدقّة – عندما نرى كيف أنّ هؤلاء “المثقّفون المحتَفون” لم ينبسوا ببنت شفة عن التناقض الصارخ – حدّ الفضيحة – بين كتابات ممّي ومواقفه المناهضة للكولونيالية وبين دعمه وتبريره المستميت للمشروع الصهيوني الاستعماري العنصري في فلسطين المحتلّة عبر زعمه أنّه مشروع “تحرّر قومي لليهود”. ولا عن تناقضه الصارخ في نقد هيمنة الفكر الديني على المسلمين ودعوته ايّاهم إلى تبنّي “الحداثة” العلمانيّة، في الوقت الذي يعتبر فيه الديانة اليهودية انتماءً قوميًا يبرّر تأسيس دولة “اسرائيل” على أساس التراث الأسطوري والغيبي لهذه الديانة (مقولة أرض الميعاد). وتجدر للإشارة إلى أنّه لم يُعرف عن ممّي، الذي ما انفكّ، ومعه المُعجبون به عندنا، يؤكّد على عمق انتمائه لتونس، أيُّ مواقف علنية ضدّ ديكتاتورية بن علي طيلة ربع قرن. وهو ما لم يمنعه من الخروج في الاعلام اثر انتفاضة الشعب التونسي ليبديَ رأيه ويعبّر عن “تشاؤمه” بخصوص “الربيع العربي”. فهذا الحدث التاريخي – رغم مآلاته اليوم – وما تميّز به في أوجه من امتداد “قومي” ونفس وحدويّ، لم يتوافق مع الخطاب الذي طالما روّج له ممّي عن ضرورة أن يتخلّى العرب عن سرديّتيْن: أنّهم سيكونون أقوى بتوحّدهم وأنّ “اسرائيل” هي كيان سرطاني يمنع المنطقة من النهوض والتوحّد. فهو يفضّل – حتّى ينجح في المواءمة الشكلية بين مواقفه السابقة حول الكولونيالية ومعتقداته ومصالحه الشخصية – التصويب حصرًا على المشاكل الداخلية للمجتمعات العربية من “فساد، وضعف في التصنيع، وبطالة، وتشدّد ديني”، كما سبق أن عبّر في أكثر من اطلالة اعلاميّة.

لا يريد طبعًا “أكاديميونا الأفاضل” رؤية هذه الجوانب المظلمة في مسيرة ألبير ممّي، فهي لا تخدم على الأرجح أجندتهم السياسية، التي لا يضيّعون في اطارها أيّة فرصة للاحتفاء بأيّ علم تونسي يهودي، ولو كان صهيونيًا أو داعمًا سابقًا للديكتاتورية (يكفي التذكير مثلا بموقف هؤلاء من الفرنسي، ذي الأصل التونسي، ميشال بوجناح قبل سنوات قليلة). بل هناك من وصلت به الجرأة والابتذال إلى كتابة مقال طالب فيه وزارة الثقافة بإعطاء اسم المفكّر الصهيوني الراحل إلى المكتبة الوطنية أو مدينة الثقافة!

وفي افتتاحها للندوة المذكورة، ألقت المثقّفة العلمانيّة التنويريّة العظيمة رجاء بن سلامة (مديرة “دار الكتب الوطنية” وما أدراك!) كلمة مؤثّرة، ازدانت بالعبارات الفلكلوريّة المعتادة عن تنوّع تونس وتسامحها “وأنغام طبولها ومزاميرها وبياض جدرانها وياسمينها” والخ. لكنّها عبّرت فيها كذلك مجدّدا عن رؤيتها “العلمانية” الثاقبة للصراع العربي الصهيوني. وممّا جاء فيها:

“الثّقافة بكلّ ألوانها تجمعنا، والدّين مخلوطا بالسّياسة يفرّقنا. الدّين إذا لم تكن تجربة روحانيّة فرديّة لا يجمع إلاّ ليفرّق. يجمع بعضا ضدّ بعض، المؤمنين ضدّ غير المؤمنين، والمسلمين ضدّ النّصارى، واليهود، والإسرائيليّين ضدّ العرب والمسلمين. إنّها القسوة المجنونة العابرة لكلّ العصور.”

فرغم اشارتها إلى خطورة خلط الدين بالسياسة (وهذا أمر لا يمكن معارضته وإن ببعض تنسيب) وما في ذلك من اتّصال وثيق بالإيديولوجيا الصهيونية – لم تتحدّث عنه طبعا، الّا أنّها تسكت تمامًا عن، وربّما تنفي ضمنيًا، الجذور الاستعماريّة/التحرّريّة العميقة للصراع بين “الاسرائيليّين والعرب والمسلمين” على حدّ تعبيرها. بل تكتفي بتحميل المسؤولية إلى “القسوة المجنونة العابرة لكلّ العصور”.

هكذا هم مثقّفو(نا) الليبراليون، ممثّلو البرجوازية الصغيرة الملتصقة مصلحيا وسياسيا بما يُسمّى بـ”دولة الاستقلال”: إمّا انتهازية وتحيّل فاقعيْن، أو فهم سطحيٌّ انتقائيّ لـ”الحداثة” واختزال كلّ شيء في ثنائية الدين/العلمانيّة.

مقاومة السياسة الاستعمارية للصهاينة لا تنفصل عن مقاومة السياسة الاستحمارية لعملائهم والمطبّعين معهم وأدعياء “الحداثة” الليبراليّة المنبتّة عن ثقافة شعبها، في تونس وغيرها من الأقطار العربية.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !