رأي | وزارة ثقافة أم وزارة مناولة؟ يتساءل مُهمّشو التنشيط الثقافي والشبابي …

بقلم خالد الطبّابي

باحث وطالب دكتوراه في علم الاجتماع

إنّ ظاهرة التشغيل الهش ليست وليدة أحداث 14 جانفي 2011، وإنما هي سيرورة تكاملية منذ الدولة الوليدة في 1956، التي عملت على التغيير الاجتماعي بعد عمليات التجريد التي قام بها الاستعمار وتحطيمه للتوازنات القديمة من أجل التسرّب في خلايا النسيج المحلي[1]. الّا أنّه ” إذا كانت الإصلاحات الماكرو اجتماعية والمؤسساتية لدولة الاستقلال تبدو تقدمية وتنويرية، فإنّ هذا يعكس صورة النخبة الحاكمة التي يمكن وصفها بالاستبدادية.  ذلك أنّ عملية التحديث قد اتخذت شكلا من أشكال الاستبداد المستنير.”[2]  وبالتالي كانت هذه التحولات فوقية دون قراءة سوسيولوجية وموضوعية في المحاور والحقول الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ساهمت هذه المعطيات في حدّة الأزمة السياسية والاقتصادية، خاصّة بعد انهيار تجربة الاشتراكية الدستورية في أواخر ستينات القرن الماضي “وبدأ الإعداد لسنّ تشريعات اقتصادية تعطي أولويّات وأفضليّات للبرجوازية الخاصّة من أجل تدعيم الصناعات التصديرية القادرة على تعديل الميزان التجاري.[3]” هكذا تحوّل العديد من إطارات الدولة إلى مقاولين، وبالتالي دخول تونس للعمل وفق هندسة المؤسسات المالية العالمية ليتواصل هذا المسار النيوليبرالي التابع خاصّة في منتصف الثمانينات. وذلك في “إطار تطبيق برنامج إصلاح هيكلي سنة 1986 طبقا لإملاءات وتوصيات المؤسسات المالية العالمية، وعلى رأسها صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، المكلّفة بنشر الاختيارات النيوليبرالية التي وقع تصميمها في إطار ما يسمى  ” بوفاق واشنطن”[4].

ومنذ ذلك التاريخ انخرطت الدولة في عملية التفويت في العديد من القطاعات العامة لصالح الخواص أو خوصصة جزء منها. وهو ما سرّع في حدّة الأزمات الاقتصادية وساهم في بروز فاعل جديد هو الشباب المعطّل. كما عمدت من ناحية ثانية إلى سلوك نهج المناولة والمناولين، ومن أبرز الأمثلة على ذلك “إنشاء صندوق إعادة توجيه وتنمية المراكز المنجمية   سنة 1991، ذلك بغاية تمويل المشاريع الصغرى وتعويض الأعداد العمالية التي كانت تستقبلها شركة الفسفاط، ولكن ظلّ نشاط هذا الصندوق هامشيا، حيث استفاد منه حوالي 1500 مستفيد واعتبروا أنّ الاعتمادات لا تلبّي الحاجيات الاجتماعية”[5].  كما هيمنت على هذا الصندوق أقلية من الفاعلين المرتبطين مباشرة بالسلطة السياسية، فأصبحت الاعتمادات توزع عن طريق الولاء والزبونية. تواصل وتزايد كذلك هذا النوع من النشاط الاقتصادي الهشّ خاصّة منذ أن عرفت البلاد بداية انفجار الاحتجاج الاجتماعي سنة 2008 وبلوغ ذروته سنة 2011.  وبالتالي فإنّ ثورة 14 جانفي 2011 كانت حدثا سمح بمزيد صعود آليات التشغيل الهش، التي ارتبطت أساسا بقطاع الحضائر وشركات البيئة والبستنة والغراسة.  وذلك خاصّة بمناطق الصناعات الاستخراجية أو التي تعيش على واقع كارثة بيئية: أي بكلّ من القرى المنجمية وصفاقس وقابس وقبلي وتطاوين بعد حراك الكامور، وبالتالي التحايل على المطالب الاجتماعية للمحتجين. ولكن وجب الإشارة إلى أنّ هذا النوع من التشغيل لم يقتصر على المناطق السالفة الذكر أو عمّال الحضائر فحسب، بل إنّ انخراط أساتذة التنشيط الثقافي والوساطة الثقافية[6] المُعطلين عن العمل في حركة احتجاجية تنادي بالحق في التشغيل والحياة أنتج أيضا مسارا من مسارات التشغيل الهشّ.

 فبعد حركات الرفض والاحتجاج وعقد العديد من الاجتماعات مع وزير الشؤون الثقافية السابق محمد زين العابدين، اتفق المُعطَّلون مع سلطة الإشراف (وزارة الثقافة) على بعث عقود عمل واتفاق مع المؤسسة الوطنية لتنمية المهرجانات والتظاهرات الثقافية الفنية سنة 2017 يتمكنون من خلالها من العمل بدور الثقافة أو بالمؤسسة الوطنية لتنمية المهرجانات. الّا أنّ هذه العقود خلت من الضمانات والتغطية الاجتماعية ولا تهدف إلى تحسين ظروف العمل ماديا وقانونيا، كما أنّ الأجور لا تُصرف في وقت محدد. بل على النقيض من ذلك، برزت حركات احتجاجية عديدة لهؤلاء المتعاقدين ينادون فيها بصرف أجورهم ومستحقاتهم المالية، وبالتالي صاروا ضحيّة لسياسة التشغيل الهش والتحايل على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.

وقد قبل المعطلين بهذا النوع من التشغيل نتيجة لسببيْن: الأول هو الدور المجتمعي لهؤلاء الفاعلين المحتجين الذين عبّروا عن استعدادهم للتضحيات وتكثيف الجهود   في وقت تعيش فيه البلاد أزمة اقتصادية وسياسية حادّة، ومن هنا يمكن القول أنّ ” التونسي ليس فقط سليل النوابغ والعلماء والملوك التجّار ورجال الدين ورجال الحرب والأدباء والفنانين… بل هو أيضا _ كما يقول التيمومي_ وريث الكادحين المهمّشين المغيّبين المغمورين الصامتين الذين استجابوا لنداء التاريخ فنحتوا روح البلد وهويته الحميميّة، سواء كانوا واعين بذلك أو غير واعين”[7] . أما السبب الثاني فيندرج ضمن إستراتيجية عمل بها المعطلون في حركتهم الاحتجاجية وهي الحصول على الحدّ الأدنى من ناحية، ثمّ مواصلة الحركة وابرام الاتفاقيات الكتابية والأخلاقية بينهم وبين وزير الشؤون الثقافية السابق من ناحية أخرى، وذلك بهدف إلى تحسين أوضاعهم  وانتداب 50 معطلا بصفة رسمية خلال الميزانية العامّة لعام 2020 ورسم جدولة وطريق واضحة في عملية الانتداب.

لكنّ هذه الاتفاقيات ظلّت عالقة مثلها مثل غيرها من الاتفاقيات التي وقع التوصل اليها بين الطرف النقابي (اتحاد الشغل) والحكومة. غير أنّ الوزير تراجع عن وعوده، ما سهّل بالتالي من صعود ديناميكية الاحتجاجات في وقت تعيش فيه البلاد على وقع انتشار وباء كورونا.

بناء على ما تقدّم، وبعد أن حاولنا الاتصال والقيام بالمحادثة التفهّميّة مع بعض الفاعلين في هذه الحركة، استنتجنا بأنّ هذا القطاع مازال يعاني من التهميش والإقصاء. فقد أفادنا الفاعلون بأنّ سلطة الإشراف تنكرت لكلّ الاتفاقيات وأنّ العمل بهذا العقد لا يلبّي الحاجيات الاجتماعية والقانونية، فهُم محرومون حتى من التغطية والحيطة الاجتماعية. وبالتالي يمكن القول أنّ هذه الفئة تنخرط ضمن التشغيل غير الرسمي ، أو ما يمكن أن نطلق عليه قطاع “اللامرئيّين” الذين يمثلون 54% من الناتج المحلي الإجمالي[8]،فهذه الظاهرة لم تعد تشمَل أصحاب الأعمال اليومية وأصحاب الأراضي الفلاحية غير المهيكلة قانونيا ولا حركة التجارة غير الرسمية فقط، بل يمكن القول أنّ المسار الحكومي والسياسات التنموية انخرطت هي بدورها في هذا المسار سواء كان ذلك بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. ويعود الأمر في أصله إلى المنوال التنموي بتونس الذي ظلّ  منحصرا بين حالتين: “الحالة الأولى وهي تحقيق النمو دون التنمية أو ما يعبّر عنه بتنمية التخلّف، إذ لا تتحقق التنمية بمجرد حصول تطور اقتصادي واجتماعي، لأنّ ذلك ارتبط باحتكار الثروة الوطنيّة وثمار التنمية من طرف أقليّة محظوظة وتفقير الريف وتكديح الطبقات الوسطى وبؤس الأحياء الشعبية في المدن الكبرى وانتشار الجهل والأميّة…  والحالة الثانية هي حالة التنمية بدون نمو من خلال وجود منوال تنمية تابع ومرتبط بما تفرضه المؤسسات الماليّة العالميّة التي تحبس بلدان الجنوب في فخّ التبعية والتخلّف في حين أنّ تنمية حقيقيّة تفترض أن يحتفظ كلّ بقدرته على التحكم في الشروط المادية لإعادة إنتاج مجتمعه[9]“.

إذًا، في سياق التبعية والتخلف يكون هذا النوع من التشغيل حتميًا. ذلك أنّ الخيارات ليست من ابتكارنا وأنّ الديون الخارجية تفرض التوصيات التي تجعلنا خارج دائرة التحولات النوعية.

ختاما، حاولنا في هذه الورقة أن نؤكد على أنّ ظاهرة التشغيل الهشّ ليست مقتصرة على قطاع أو قطاعين، بل توسّعت لتشمل قطاعات عديدة أخرى وُلدت من رحم الدولة وسياساتها الحكومية والتنموية.  اذ تحوّلت الدولة بدورها إلى مُناول أو مُقاول ينتدب عمّالا دون أن يمنحهم ضمانات أو حيطة اجتماعية وبدخل شهريّ بخس لا يلبي حاجياتهم الاجتماعية. فهؤلاء العاملين بقطاع الثقافة يساهمون، بل يبتكرون طرقًا وتقنيات ثقافية تحاول قدر الإمكان مواكبة ديناميكية المجتمعات، وذلك من خلال التظاهرات والأعمال الفنية على الرغم من المحدودية الماديّة واللوجيستية. الّا أنّه من المؤسف فعلا أن تتجاهل السياسات الحكومية مطالبهم وتكتفي بسداد أجور يصفها المحتجون بأنّها تُسلَّم ” تحت الحيط“.

لهذه الأسباب أجمع العاملون بهذا القطاع، والبالغ عددهم حوالي 350 عاملة وعامل، أنّ وضعيتهم الحالية غير إنسانية ولا قانونية ولا تستجيب للأدنى من حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية. اذ يصفون هذه العملية بأنّها نوع من الحيلة الاجتماعية التي تساهم في تصدير وتعزيز مشاعر اليأس والخيبة والإحباط. ولذلك هم مستمرّون هذه الأيام ( جوان 2020) في حركتهم الاحتجاجية التي تعرف نقلة تصعيدية تمثّلت في إضراب عن الطعام بمقر الإتحاد العام لطلبة تونس.

فهاهم اذن يحتجون من أجل حقوق ومطالب وينخرطون في فعل جماعي لتغيير واقع مغرق في الهشاشة والإقصاء. من هنا يمكن القول في سياق التوصيات أنّه إذا ما ظلّت نفس الخيارات، فإننا سنعيش على وقع صفيح ساخن من حركات الرفض والاحتجاج.” فالاحتجاج والحركات الاجتماعية ما هما إلاّ سياسة بمعان أخرى، فالجماعات الفقيرة في مواردها أو التي يكون موقفها ضعيفا بحيث تكون قادرة على ممارسة تأثير على القرارات السياسية، يمكن بالرغم من ذلك، أن تنخرط في عملية سياسية عن طريق النزول إلى الشوارع، وأحيانا المشاركة في العنف الجمعي”.[10] أو وقد ينخرط العديد من منها في الحلول الفردية أي الخلاص الفردي ومن بينه مشروع الهجرة غير النظامية.


[1] Les transformations actuelles des sociétés rurales du Maghreb, Actes du colloque organisé en avril 1993, série :7 Volume 5. Faculté Des Sciences Humaines Et Sociales De Tunis. Tunis 1996.

[2] Boukraa Ridha , Acteurs sociaux et changement social en Tunisie ( 1956- 1986),  « Les changements sociaux en Tunisie 1950- 2000, Sous la direction de : Laroussi Amri, Editions L’Harmattan, Paris 2007, P 183_ 190 ».         P 187 .

[3]  المولدي قسّومي، المنظّمة النقابية لأرباب العمل التّونسيّين الأطوار والأدوار، تقديم: الهادي التّيمومي، (دار نقوش عربية، تونس 2018)، ص 121، 125.

[4]  عبد الجليل البدوي، الإشكاليات والتحديات الاقتصادية والاجتماعية في ظلّ مرحلة الانتقال الديمقراطي بتونس، من أجل بديل تنموي، تونس: الانتقال الديمقراطي العسير، (مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، سلسلة قضايا الإصلاح 36، 2017، ص،ص 61_103)، ص 62

[5] Allal Amine, Réformes néolibérales, Clientélismes et protestations en situation autoritaire. Les mouvements contestataires dans le bassin minier de Gafsa En Tunisie (2008), « Politique africaine, 2010/1 N 117/ Pages 107 à 125 » P 117_ 118.

[6] Médiation Culturelle

[7]  المولدي قسّومي، قواعد لغة علم الاجتماع في مدونة المؤرخ الهادي التيمومي، تقديم: فتحي ليسير، دار نقوش عربية، تونس، 2019، ص 424.

[8] Frida Dahmani, « Economie informelle en Tunisie : la république de la débrouille. Le 20 Mars 2018 » site : « orientxxi.info ». Le 28/04/2020 A 11 :00 H

[9]  المولدي قسّومي، ” استئناف البناء الوطني من منظور العقد الاجتماعي أيّ دور للإتحاد العام التونسي للشغل؟”، ” الإتحاد العام التونسي للشغل في مسار البناء الوطني (2014- 1946)”، جامعة منوبة، منشورات المعهد العالي لتاريخ تونس المعاصر بالاشتراك مع الاتحاد العام التونسي للشغل، 2018، تنسيق وجمع النصوص وتقديمها: مروان العجيلي، محمد فوزي السعداوي، مولدي قسّومي، عبد المجيد بالهادي، ص، 105، 145، ص 131.

[10]  هانك جونستون، الدول والحركات الاجتماعية، ترجمة: أحمد زايد، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2018، ص 51

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !