رأيْ | الشيخ إمام في ذكراه : العملاق وحرّاس المعبد

بقلم سفيان فرحات

“مخزن موسيقى”؛ توصيفٌ طريفٌ كان يقوله الشاعر أحمد فؤاد نجم متحدثا عن رفيق دربه الشيخ إمام عيسى، ولعله أعلم الناس برحابة موهبته الموسيقية التي تشبه بحرا تصبّ فيها روافد كثيرة؛ من تقاليد الفنون الطربية إلى التلوينات الساخرة، مرورا بالأنماط الفولكلورية والدينية والثورية. ببساطة، كان الشيخ إمام فسيفساء موسيقية، غير أننا قلما نسمع عن الاعتراف بموهبته الموسيقية حيث يحصره الكثيرون في الصندوق الضيق للموسيقى الملتزمة والتي يجري تقبّلها بفرضية أن الرسالة السياسية هي منطلق هذا النمط الفني وغايته، ويكون ذلك على حساب الإبداع الفني.

نعرف أن أغاني الثنائي إمام ونجم كانت في معظمها مرتبطة بأحداث سياسية واجتماعية عاشتها مصر والمنطقة العربية خلال النصف الثاني من القرن العشرين. لكن كيف لهذه الأغاني أن تعبر الزمن، وتحضر في أفئدة وافوه أجيال لم يعايشوا السياقات التي تتناولها الأغاني، وهو ما حدث بشكل جليّ على صعيدين؛ الأول كان مع حركات الاحتجاج الواسعة التي عرفتها المنطقة العربية في 2011 ووقتها هتفت الحناجر بـ”شيد قصورك” و”هوما مين واحنا مين” بشكل عفوي رافعة الشيخ إمام كأيقونة من أيقونات الثورة على الرغم من أنه رحل عن العالم منذ قرابة عقد ونصف.

أما العامل الثاني الذي أيقظ الشيخ إمام فهو الإنترنت التي أتاحت تجميع تراثه الكبير في مواقع ومكتبات إلكترونية، ومرة أخرى سنجد أن تذوّق فن الشيخ إمام لا يمكن ربطه بجيل من الأجيال، فإذا كان من عاصروه يجدون أن سماعه يوقظ منظومة من ذكريات السبعينيات والثمانينيات، فليس الأمر كذلك ممن هم في العشرين من أعمارهم. هؤلاء يجدون في الشيخ إمام أنواع متعة فنية أخرى؛ إنها تلك الخلطة العجيبة بين المقولة الثورية والموسيقى الرائقة، وقبل كل شيء ذلك التمازج غير القابل للفصل بين الكلمة ولحنها، لكل مقال عند الشيخ إمام “مقامه”، ولكل نص – من نجم أو من غيره من الشعراء – قماشه وتطريزه من النغمات يفصّلها على القياس الدقيق المطلوب.

كل ذلك، ولا نجد اعترافاً فنياً بعبقرية الشيخ إمام. فأي سر وراء هذ الجحود؟

أتى الشيخ إمام من بيئة شعبية، كان يفترض أن يصبح مقرئاً، لكن كانت لديه ميولات جمالية جعلته يلتقي بعوالم الموسيقى، وهي غير بعيدة أو مفصولة بشكل كامل عن البيئة الدينية في مصر لنصف الأول من لقرن الماضي. وجد إمام عيسى في الشيخ درويش الحريري السند النفسي والفنّي، ومن ثم التقى بتجارب أخرى، زكريا أحمد بشكل مباشر، وسيد درويش بشكل رمزي، وسنجد أثر ذلك في موسيقاه، لكن بشكل متأخر، إذ لم تتوفر للشيخ إمام أية مساحة في الضوء، ومن سيلقي آذانا صاغية لموسيقي مغمور فقير؟

ربما أتاح هذا الإهمال الطويل من الوسط الفني فترة تكوين طويلة تشكّل منها عقله كـ”مخزن موسيقى”، بحسب عبارة نجم. وحين التقى بهذا الأخير، ورغم أن مقولة قصيدته سياسية بشكل أساسي إلا أنه عرف كيف يصبّ داخلها تفانين الألحان المشرقية مظهرا خيالا موسيقياً رحبا ومزاج عاليا، وهي مواهب كان من يحملونها يعدون على الأصابع في زمنه ذاك. بعبارة أخرى، نجح الشيخ إمام موسيقيا في ما توفّر أمامه، أي القصيدة السياسية لأحمد فؤاد نجم، وهي مادة قد تبدو عصية على ملحّن آخر.

تدفّقت القصائد والألحان من قريحتي الثنائي، ومضت التجربة إلى درجة من الإتقان والحرفية على الرغم من كونها لم تخرج من الهامش أبداً، وهنا نقع على بعض أسباب نكران موهبة الشيخ إمام، فأن تأتي من نقطة في الهامش ولا تبحث عن موقع بين الأضواء التلفزيونية والإذاعية، وبالتالي لا تخضع لقوانين منظومة الفن، فهذا يعني أنك قد أعلنت حربا ضمنية على العقليات والتصورات، حرباً على كبار الموسيقيين ضمن هذه المنظومة، وهم أهرامات معاصرة تمتلك أذن السامع وتستعبده. لقد كانت نجاحات هؤلاء وسطوتهم تخفي إقصاءا لكل التجارب البديلة، والنادر النادر – ومنه تجربة إمام ونجم – ممن يصل إلى آذان الناس وضمائرهم، تُستنْهضُ ضده “مطاوي” الإنكار والتعتيم لتقتل روح البديل فيه وهي لا تزال نطفة.

إذا كان إنكار عبقرية الشيخ إمام يمكن تفسيره في فترة التوهج الفني للثنائي بهذا السياق الذي حفل بالأسماء الفنية الكبرى، فلا يمكن تفسيره لاحقا وقد استمر هذا الإنكار بشكل متغطرس. فلا يزال “السميعة” يرفضون إدخال فن الشيخ إمام إلى كوكبة الكبار، ضمن تصوّر جاهز للفن الملتزم، وهو ما يشير إلى نظرة جاهزة للعالم، فالسلطة السياسية كانت تحتاج دائما إلى مثل هؤلاء، حرّاس المعبد، من جمهور وصحفيين وفنانين أيضا، بآرائهم العارفة بالموسيقى، لإبقاء فن الشيخ إمام غير جماهيري، لأنها تدرك بأن الاعتراف الموسيقي هو إسناد للاعتراف السياسي، وأن الإنكار الموسيقي يظل عاملا معطّلا لكل الرسائل التي تضمنتها أعمال الشيخ إمام.

كل هذه التعطيلات والتكبيلات جابهتها أغان مثل “حلوا المراكب” و”ممنوع من السفر” و”جيفارا مات” و”يعيش أهل بلدي” و”البحر بيضحك ليه” و”إيدو شمعة” و”إصحي يا مصر” ورغم ذلك وصلت للناس وعبرت الزمن لتصل لأجيال جديدة. بهذا المعنى فإن الشيخ إمام لم يكن معارضا سياسيا فحسب، لقد كان معارضا موسيقيا. والمعارضة هنا تحمل دلالة عميقة؛ اجتراح طريق رغم العوائق والتثبيطات ومن ثمّ الوصول بالرسالة إلى الشعب ضمن محيط معاد،

أو بعبارة وردت في أغنية “بأستنظرك”.. وصلت رسالة الشيخ إمام “رغم الشتا والبرد والرعد المخيف”.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !