رأيْ | “كورونا ” الرأسمالية سطوة المال على المجتمع والدولة زمن الوباء

بقلم ثامر الزغلامي  صحافي تونسي

تضغط القوى المالية في العالم لتحرير أكثر من نصف البشرية من الحجر الصحي الإجباري “المطلوب طبيا لاحتواء جائحة كورونا” بحجة تعطل الإنتاج  وتراجع النشاط التجاري المؤدي حتما “حسب خبراء صندوق النقد الدولي ” إلى أزمة اقتصادية لم يعرفها العالم منذ الكساد الكبير في ثلاثينات القرن الماضي. 

  بدت هذه الضغوطات منطوقة على لسان المسؤوليين الحكوميين في الأقطاب الرأسمالية الذين أطلقوا صيحات فزع محذرين من طوابير العاطلين والفقراء يطلبون الشغل والمؤونة أمام المقرات الحكومية والمدنية إذا ما تواصل تعطيل الاقتصاد الحر لفترة أطول. اعتاد النظام الرأسمالي عبر التاريخ إن يجد نسقا من بين تناقضاته يحول الأزمات إلى انتصارات جديدة ترسخ نظرية الإنسان الأخير وتؤكد نجاعة المنظومة الحرة التي أطلقت قدرات الفرد والمجموعة إلى أفاق من الرفاهة والتقدم الاجتماعي.

لكن يبدو أن “حالة كورونا” مختلفة في ظل مناورات مكشوفة للمنظومة الرأسمالية للاستفادة من الأزمة على نطاق واسع بهدف إنقاذ نفسها على حساب حقوق الأفراد في الحياة الآمنة والحماية من الأمراض وبناء على ما كشفته “أزمة كورونا”من نزعة غير إنسانية لعقود من السياسات النيوليبرالية  القائمة على بيع أوهام الصحة والسعادة والرفاهة للمستضعفين. ولعل العالم مقدم “ما بعد الكورونا “على السير في طريق ثالث ينتهي بإعادة نفوذ الدولة وإسعاف المضطهدين من أخطار الأسواق والشركات العابرة “دون رقيب” للقارات والعقول.

الاستثمار في الخروج من الحجر الصحي الشامل

في أزمة كورونا بدت الرأسمالية وهي في أوج عنفوانها أكثر سطوة على المجتمعات تدفع دفعا الفقراء والمهمشين إلى الخروج إلى الشارع معزولين في العراء أمام انتشار الوباء وكأنها توجه المرض ليستبيح فقط تلك المجموعات البشرية المتراكمة في المصانع والمناجم والمزارع وشوارع المدن المكتظة بالباحثين عن فرص العيش , الكثير من هؤلاء قد يكون خارج دائرة الإنتاج مما يحتم حسب أدبيات الاقتصاد الكلاسيكي خروجه أيضا من دائرة الاستهلاك لتحافظ الاقتصاديات الرأسمالية على  إنتاجيتها العالية.

في الولايات المتحدة الأمريكية تخبطت السلطات السياسية في فرض الحجر الصحي و علق “ترامب ” سوء إدارته للازمة على شماعة منظمة الصحة العالمية التي قال إنها تقاعست في مده بالمعلومات الضرورية لمجابهة الوباء و رغم تواصل حصد ألاف الأرواح جراء “كوفيد 19″ فان ترامب مازال يلح في ظهوره الإعلامي اليومي على ضرورة العودة إلى العمل في اقرب الآجال لإنقاذ انجح اقتصاد في العالم على” حد تعبيره “من الانكماش الحاصل لا محالة بعد  الأزمة . وتسير في الاتجاه نفسه حكومات الاتحاد الأوروبي والقائمون على شؤون البلدان الدائرة في فلك الاستهلاك والإشهار والمناولة.  

يجري ذلك تحت ضغط “لوبيات”  اقتصادية تسعى إلى إرغام السلطات السياسية على المضي قدما في خطوة يرفضها المختصون في الطب الوقائي ستقود حتما إلى محرقة قد تأتي على شعوب بأكملها في ظل غياب إجراءات جدية لحمايتهم من العدوى . و ما تحذيرات منظمة الصحة العالمية من انتشار الفيروس على نطاق واسع في إفريقيا إلا دليل على ذلك.

الخروج الجزئي أو الكلي المنتظر في أوائل الشهر المقبل و الذي يلح عليه العقل الاستثماري سيراكم أرباحا إضافية  من خلال إثقال كاهل المستضعفين (أفراد و مجموعات) بحاجيات جديدة تؤمن وقايتهم من الإصابة بالفيروس أثناء أدائهم لمهامهم الإنتاجية وانطلقت بعد في عديد الدول  حروب الكمامات الطبية ومواد التنظيف والتعقيم ومستلزمات المستشفيات من أدوية وأجهزة  إنعاش أسواق جديدة للمضاربة والاحتكار واستغلال النفوذ فتحت أبوابها لمجموعات تدفعها غريزة البقاء للإقبال على الاستهلاك بشكل فوضوي.

هذا وسترافق العودة التدريجية لدورة الإنتاج عطايا الدولة لكبار المستثمرين المتباكين ليلا نهارا في وسائل الإعلام على الخسائر التي لحقتهم أثناء تطبيق إجراءات الحجر العام , في الولايات المتحدة مثلا ضخت الدولة أكثر من 2 تريليون دولار لمؤسسات خاصة في مواجهة التباطؤ الاقتصادي. هذا فضلا عن غنائم مفترضة تستعد الدوائر المالية الكبرى لكسبها بعد التوصل الى لقاح لفيروس “كوفيد 19”.

في الحقيقة عقل استثماري يدير الأزمة بكفاءة عالية نجاحه او فشله سيبقى رهين قدرة القوى المضادة على كشف زيف عقود من سياسة اقتصادية عالمية لا تعبئ بمصائر الناس و تحرص فقط على مزيد تكديس الأموال في خزائن الأغنياء.

 سياسة نيوليبرالية فاسدة و فرصة عودة الدولة

لعقود طويلة ألغت الشركات العابرة للحدود سلطة الدولة” القطرية ” وسيطرت على مقدرات الشعوب ونشرت أوهام السعادة و الرفاهية عبر أدواتها الإعلامية واستسلم العالم لنظام يحمي القطاع الخاص على حساب الخدمات العامة لكن أزمة كورونا التي أغلقت الأجواء المفتوحة وعطلت حركة الإنتاج كشفت عورة هذا النظام الذي يقف متفرجا اليوم على مشهد مقاومة انتشار الوباء من قبل مرافق صحية عمومية عاجزة منزوعة الأسلحة ومتطوعين تنقصهم الخبرة و الإمكانيات. انتشار الوباء كشف عن زيف خدمات طبية استثمارية تقدمها بنايات ضخمة وشاهقة منتشرة في أرجاء الأرض واظهر تواضع مخصصات الدولة للسياسات الصحية مما جعلها تستجدي جيوب المواطنين لمجابهة الأزمة.

 

السياسة الصحية التي تديرها لسنوات عديدة كبرى شركات الأدوية و التامين الصحي و المنتجعات الاستشفائية الباهظة  تغاضت عن الحقوق المبدئية لعامة الناس في الحماية من الأمراض وتبنت اتجاهات طبية مفرغة من المفاهيم الإنسانية  وحولت الصحة إلى سلعة تباع فقط إلى من استطاع إليها سبيلا وكان حتميا نتيجة لهذه السياسات ان تعجز الدولة الآن في لحظة الوباء عن مجابهة انتشاره في ظل تواضع إمكانيات المستشفيات الحكومية لاستعاب الأعداد المتزايدة من المرضى الذين هم في حاجة إلى عناية مركزة .

هذه السياسة أفرزت حسب تقارير منظمة الصحة العالمية ثغرات في مجالات العدالة الصحية والأبحاث العلمية و الخدمات الطبية العمومية مما ادى الى تفاوت في الرعاية الصحية بين الاغنياء والفقراء خلال الثلاثين سنة الماضية حيث “يتمتع الأغنياء بأفضل أنواع الرعاية و يترك الفقراء لوقاية أنفسهم “.

ما بعد “كورونا” يحتم استعادة دور الدولة لكبح الرأسمالية المنفلتة في قطاعات الصحة والتعليم البيئة فهي الضامنة لتنشئة متوازنة وعادلة لكل الأفراد وهي القادرة على حماية البشر زمن الجوائح والكوارث  دون تمييز.تحقيق هذه الأهداف سيبقى مرهونا بمجهود مدني وحراك شعبي يضغط في اتجاه إصلاح الأنظمة السياسية والاجتماعية لتنتصر للإنسان أولا فوق كل المصالح .

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !