قضية “صفقة الكمامات” تكشف عن تسهيل الدولة لتضارب المصالح وانحيازها للشركات الكبرى

خاص -إنحياز- مريم البريبري

أثارت قضيّة “صفقة الكمامات” غير الطبية التي عقدها وزير الصناعة مع النائب جلال الزياتي جدلا واسعا، بين من يتهمّ الوزير بعدم احترام شروط الشفافية والتنافس النزيه، وبين من يدافع عن حسن نيّته ويبرّر ما يجرى بالظروف الاستثنائية.الّا أنّ المثير للانتباه هو أنّ وسائل الاعلام السائد تحاول حصر الموضوع في خرق الوزير والنائب للفصل 25 من النظام الداخلي للبرلمان الذي يحجّر على أعضاء مجلس نوّاب الشعب “التعاقد مع الدولة بغاية التجارة أو مع الجماعات العمومية أو المؤسسات والمنشآت العمومية”.

لكنّ التدقيق في مختلف جوانب وتفاصيل القضية يكشف أنّ هذه المسألة هي بمثابة الشجرة التي تحجب الغابة.وقبل المرور للاستنتاجات، هذا تذكير بالوقائع.

نشرت اللجنة المشتركة بين وزارات الصحة والصناعة والتجارة يوم 11 أفريل الجاري كراس شروط صناعة الكمامات غير الطبية والموجهة إلى العموم. وبعد أيّام قليلة تمّ تداول خبر شبهة تضارب مصالح فيما يخصّ النائب جلال الزياتي، عن حزب البديل التونسي لصاحبه مهدي جمعة، الذي يُفترض أنّه ممنوع من المشاركة في الصفقات العمومية، وكذلك صناعي النسيج حسني بوفادن رئيس الجامعة التونسية للنسيج والملابس، وهو عضو باللجنة المشتركة. اذ تشير عديد المؤشرات الى أنّه تم تسريب معلومات مميّزة من هذا الكراس قبل فترة من نشره. وعلى ما يبدو فإنّ الأمر لا يقترص عليها بل يشمل أعضاء آخرين من الهيئة المديرة للجامعة التونسية للنسيج والملابس، التي تضمّ فئة أصحاب الشركات الكبيرة في صناعة النسيج والملابس.


تضارب المصالح شبهة ثابتة لكنّها تخفي ما وراءها

لا يحتاج المرء لاثبات شهبة تضارب المصالح فيما يخصّ حسني بوفادن، صاحب شركة “بروموتاكس”، ورئيس الجامعة التونسية للنسيج. فالرجل عضو باللجنة المشتركة التي أصدرت كراس الشروط. ولذلك كان من الطبيعي أن يبادر إلى فتح مصانع شركته الإثنين 13 أفريل لصناعة الكمامات، بعد يومين فقط من اصدار كراس الشروط، كما علم موقع انحياز. إذ فوجئ العمال والعاملات بوجود كميات كبيرة من القماش التي تم شراؤها من السوق ولم يقم المصنع بنسجها. وتمّ اعلامهم أنّه سيتم غسل هذه الكميات ثم تضاف لها بعض المواد قبل تمريرها إلى الخياطة.كما ثبت الآن أنّ النائب جلال الزياتي قد تحصل على صفقة مليوني كمَّامة، باتصال مباشر من وزير الصناعة صالح بن يوسف. علمًا وأنّ الزياتي هو نائب رئيس الجامعة التونسية للنسيج والملابس. وهذا يعني باختصار أنّ الحكومة قرّرت تكليف قيادة الجامعة التونسية للنسيج بصناعة الكميات المطلوبة من الكمامات الطبية.

وهذا ما يعزّز الخبر المتداول حول احتكار الأقمشة الخاصة بصنع الكمامات إلى جانب تسريب كراس الشروط. فوجود الأقمشة بالمصنع يومان فقط بعد نشر كراس الشروط لا يمكن أن يعني سوى شيئا واحدا : هو أن الأقمشة تم احتكارها قبل نشر كراس الشروط وأنه قد تم الإستعداد للبدء في التصنيع. هذا وقد أفادنا بعض تجار الأقمشة أن الشخصيِن المذكورين قد احتكرا الأقمشة منذ فترة. ومن بين هذه الأقمشة popeline polyester ، الذي تبين لاحقا أنه القماش المتواجد لدى مصنع بروموتاكس، وهو الذي تم استعماله لصناعة الكمامات.

كما علم موقع انحياز أنه تم أيضا احتكار مواد خاصة تضاف إلى القماش لجعله عازلا للماء. ويذكر أن شركة بروموتاكس هي مجموعة مصانع نسيج وصناعة أقمشة عازلة للماء وخياطة.الاّ أنّ السؤال الذي يطرح نفسه تعليقا على ما سبق ذكره هو التالي: لماذا يضطرّ رئيس الحكومة، ومعه وزيره للصناعة، إلى تبرير ما ارتكباه من خطأ قانوني بـ”الظروف الاستثنائية” في الوقت الذي كان بامكانهما اتخاذ قرار يرفع اللبس ويعفيهما من تبرير أخطائهما؟ والقرار المقصود هو تسخير الشركات الخاصّة المعنيّة لخدمة الصالح العام.

فعندها لن يستطيع أحد محاسبتهما بناءً على قواعد الشفافية وقوانين التنافس الرأسمالي. الإجابة تكمن في الخيارات السياسية والاقتصادية التي تبنّتها الدولة التونسية منذ عقود. فهي اختارت منذ البداية أن تنحاز لكبار شركات النسيج على حساب صغار الشركات والحرفيين.

الفساد المسكوت عنه: انحياز الدولة لكبار المصنّعين

في اتصال له بموقع انحياز، صرّح لنا أحد أصحاب المؤسسات الصغرى المختصة في الخياطة، أنه تنقل إلى المنستير وتونس العاصمة قصد شراء كمية من القماش وعرضها على الإختبار، إلا أنه كان يجد نفس الجواب: إنقطع هذا النوع من السوق نهائيا.تثبث هذه الواقعة البسيطة الانحياز المذكور أعلاه. ويتجلّى الأمر أكثر في الدور المنوط بما يسمّى بـ”المركز الفنّي للنسيج”. وهو مركز أسسته الدولة سنة 1991 بغاية دعم صناعة النسيج. اذ نصّ كراس الشروط الخاصّ بتصنيع الكمامات على ضرورة عرض المصنّعين أقمشتهم على هذا المركز قبل البدء في التصنيع، حتى يقوم بالاختبارات اللازمة.

وتُعتبر هذه الإختبارات عادة ذات تكلفة مشطّة بالنسبة لصغار الحرفيين وللمؤسسات الصغرى، إذ يمكن أن تبلغ الـ10 الآف دينار.

وقد اتّصل موقع انحياز بالمركز الفني وطلبنا معلومات حول التكلفة المقدّرة لاختبار قماش الكمامات، فكانت الإجابة أن وزارة الصناعة ستحددها لاحقا لوجود اختبارات لا يمكن للمركز القيام بها. هذا مع العلم أنه، تقنيا، لا يمكن القيام بالتصنيع قبل موافقة المركز الفني في حين أن مصنع السيد بوفادن، على سبيل الذكر، قد اشترى بعد المواد اللازمة منذ فترة. وهو ما يؤكد وجود قرار مسبق غير مُعلَن بتكليف كبار المصنّعين بهذه الصفقة وحرمان صغار المصنّعين منها.وبالتمعّن في القانون الأساسي للمركز الفنّي للنسيج. يتضّح لنا أنّ هذا المركز قد أُنشأ منذ البداية لخدمة مصالح الشركات الكبرى في القطاع، تحديدا المتجّهة منها نحو التصدير.

اذ لا غرابة في ذلك اذا علمنا أنّ هذا القانون الأساسي ينصّ على أن يكون ثلاث أرباع أعضاء مجلس ادراته ممثّلين عن الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، ممثّلا في الجامعة التونسية للنسيج والملابس. كما يتضّح الأمر أكثر عندما نقرأ في النقطة السابعة من الفصل الرابع أنّ من أهداف المركز: “إعداد كل دراسة أو بحث لتنمية الصادرات”.وهو ما يعني أنّ 823 من مؤسسات صناعة النسيج (أي 40% منها حسب أرقام الموسوعة التونسية المفتوحة)، التي تتنج للسوق الداخلية، مقصيّة من اهتمامات هذا المركز. وعليه فلا غرابة في أن تكون مقصية أيضا من أيّ صفقة يشرف عليها هذا المركز.

العمّال وصحّة الناس: آخر اهتمامات الحكومة

ولا يقف هذا الانحياز الحكومي لصالح الشركات الكبيرة فحسب، بل أنّه يشتمل أيضا على انحياز طبقي آخر لصالح رؤوس الأموال على حساب العمّال. اذ أفاد أحد العمال في تصريح لانحياز أنّ أقلّ ما يمكن أن يقال عن ظروف العمل بمصنع شركة بروموتاكس هو أنّها “كارثية”.

وذلك خاصة في ظل الوضع الصحي الراهن، اذ تم إجبار العمال على تسجيل الحضور بمكان العمل من خلال جهاز البصمة، رغم خطورة هذه الطريقة لإمكانية نقل العدوى عن طريق الجهاز. إضافة لهذا الخطر، لم يتم تمكين العمال إلا من كمامة واحدة لكل فرد، يستعملها كامل اليوم ويقوم بغسلها حين يعود إلى منزله. وذلك في غياب تام لوسائل الحماية والوقاية الصحية يصل لحد استعمال الحمّام لغسيل أواني الغداء.


إلى ذلك، كان لافتا التقرير النقدي* الذي أصدره مخبر عمومي مختّص في قطاع النسيج (تابع للمعهد العالي للدراسات التكنولوجية بقصر هلال)، وشكّك فيه أصحابه في وجاهة المعايير التي وقع اختيارها بكراس الشروط. وكان من ضمن النقاط الواردة بالتقرير سؤال حول سبب اعتماد مخبر المركز الفنّي للنسيج رغم أنّه غير مؤهل علميا لذلك، على عكس مراكز أخرى. كما تساءل التقرير عن سبب غياب اختبارات مهمّة ضرورية مقابل اشتراط اختبارات أخرى غير ضرورية سترفع من تكاليف الانتاج التي ستسدّدها الدولة لأصحاب المصانع.







أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !