ردًا على زياد كريشان: جهلك بحركة التضامن مع فلسطين لا يسمح لك بثلب مناهضي التطبيع

أحمد عبّاس *

إلى السيّد زياد كريشان،

استمعت ببالغ الدّهشة والذّهول إلى حديثك خلال حصّة « ميدي شو » (Midi-Show) على إذاعة « موزاييك ف. م. »، يوم الجمعة 21 فيفري، المتعلّق بتصريح عضو المكتب التّنفيذي لحركة الشّعب المنصف بوزازي بخصوص عدم إعادة تعيين الوزير الحالي للسّياحة روني الطّرابلسي ضمن الحكومة المقبلة. ولئن كان من حقّك في حريّة التّعبير كمواطن بل كصحفي، أن تعتبر كلامه مشينًا أو في غير محلّه، غير أنّ ذلك لا يخوّل لك أن تعمّم وتثلب حركة التّضامن التّونسيّة مع فلسطين، وخاصّة المواطنين الملتزمين بالنّضال ضدّ التّطبيع.

 لقد صرّحْتَ « بأنّ النّظر مليّا في اعتراض البعض على روني الطّرابلسي، يكشف أن مردُّه في النّهاية إلى كونه يهوديًّا؛ وحيث أنّهم لا يمتلكون الشّجاعة على الإفصاح به صراحةً ــ كما تقول ـــ فهم يزعمون أنّ للرّجل ميولا تطبيعيّة (مع إسرائيل)، وذلك من العنصريّة ». إنّ كلامك هذا يذكّر على نحو مخزٍ بِتصريحات الرّئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي قال خلال مأدبة المجلس التّمثيلي للمؤسّسات اليهوديّة بفرنسا (Crif) إنّ « مناهضة الصّهيونيّة هو شكل حديث من أشكال معاداة السّاميّة، فخلف إنكار وجود إسرائيل، تتستّر كراهية اليهود ». أدعوك، إذن، إلى الإطلاع على الحديث الصّحفي لِروني براومان (Rony Brauman) الذي يعتبر أنّ تصريحات إيمانويل ماكرون « تغذّي وتضخّم ظاهرة معاداة السّاميّة »، أو فلترجع إلى مقال زميلك الصّحفي دومينيك فيدال (Dominique Vidal) الذي يشرح كيف أنّ « تشبيه مناهضة الصّهيونيّة بمعاداة السّاميّة فيه غباء وخطر ».

وللعلم فإنّ الحملة التّونسيّة للمقاطعة الأكاديميّة والثّقافية لإسرائيل (TACBI) التي تشعر بأنّها مُستهدفة  على نحو خاصّ ممّا أقدمت عليه من ثلبٍ، لم تنشر سوى بلاغٍ وحيد حول وزير السّياحة روني الطّرابلسي، وقد تضمّن إدانتها لتصريحاته أمام البرلمان بتاريخ 15 أفريل 2019، التي نفى فيها مطلقًا تنظيم بعض وكالات الأسفار التّونسيّة لرحلات إلى القدس وفلسطين المحتلّة  بتنسيق مع الكيان الصّهيوني، و قال إنّ وزارته لم تسلّم أيّ تصريح لأيّ رحلة سياحيّة؛ مع أنّنا كنّا قد نبّهنا المجتمع المدني التّونسي منذ 16 جانفي 2019 إلى أنّ وكالة الأسفار التّونسيّة « تونيزيا باي ترافل »  Tunisia  Bay Travel تنظّم منذ أشهر رحلات سياحيّة إلى الأردن وفلسطين وإسرائيل.  ورغم أنّ الكُتيّب الإشهاري الظّاهر على صفحة الفايسبوك التّابعة للوكالة لا يشير صراحةً إلى إسرائيل، ولكن برنامج الرّحلة الماثل على الصّفحة ذاتها يذْكُرُ بوضوح محطّاتٍ في مدن حيفا وطبريّا وهما تقعان اليوم في إسرائيل، إضافة إلى محطّات أخرى في الضّفّة الغربيّة والقدس. وقد أكّد مسؤولو الوكالة لمناضلي الحملة التّونسيّة لدى اتّصالهم بهم للاستفسار عن تلك الرّحلات، « أنّ السّلطات الإسرائيليّة تستخبر لدى الحكومة التّونسيّة عن كلّ فرد من المسافرين التّونسيين؛ وفي صورة خلوّ الملفّات ’من أيّ نشاط سياسي‘ فإنّها تسلّم تصاريح لاجتياز نقطة العبور بين الأردن والضّفّة الغربيّة في أقلّ من ثلاثين دقيقة، تحت رقابة الجيش الإسرائيلي ». كما أكّد المسؤولون في الوكالة أنّهم يقومون بتلك الأسفار بانتظام منذ سنة 2018  دون التّعرض لأيّ مشكلة. وقد نشر بعض السيّاح التّونسيين المشاركين في رحلات تلك الوكالة، صورا وفيديوهات على شبكات التّواصل الاجتماعي وهم في تل أبيب وحيفا.

وإلى الآن تواصل وكالة « تونيزيا باي ترافل » ـ في غياب أيّ مساءلة ـــ رحلاتها إلى فلسطين وإسرائيل، المنظّمة بموافقة الحكومة الإسرائيليّة. وخلال رحلتها الأخيرة في ديسمبر 2019، سجّلت الوكالة فيديو منشورًا بصفحتها على الفايسبوك، يصوّر زيارةً لمدينة الخليل، ويُرى في الدقيقة 26 منه الدليلة السّياحيّة وهي تفاوض جنودا إسرائيليين حول مرور مجموعة سيّاح من نقطة عبور (checkpoint) تفضي إلى مقام إبراهيم. وتُسمعُ الدّليلة وهي تقول : « السّيّاح يحملون تصاريح إسرائيليّة »؛ وللعلم فإنّ رحلة الوكالة المقبلة إلى هناك مبرمجة للفترة مابين 16 و 23 مارس 2020.

والثّابت أنّ وزارة السّياحة لم تفعل شيئا لوضع حدّ لذلك الاتّجار غير القانوني واللاّ أخلاقي رغم إدانته من قِبَلِ منظّمات المجتمع المدني الكثيرة ومن القوى الدّيموقراطيّة التّونسيّة. وهي بذلك تترك المجال لتنامي تطبيع سياحي نصف متخفٍّ مع الدّولة الصّهيونيّة، في خرق واضح للدّستور والقوانين التّونسيّة.

لقد صرّحْتَ أيضا خلال الحصّة الإذاعية ذاتها، « أنّنا نمارس الكثير من النّفاق، فما ترانا نفعل إزاء الحجّ إلى الغريبة (بجزيرة جربة) التي يفِدُ عليها يهود من العالم أجمع؛ نحن نعلم جيّدا أنّ هناك من بينهم يهودا من أصول تونسيّة يقيمون بإسرائيل، وأنّهم يأتون بجوازات فرنسيّة أو ألمانيّة أو غيرها؛ فهل علينا أن نتثبّت منهم فردا فردا ؟ » أنت تُغفِلُ، هنا، معلومة هامّة ذكّر بها روني الطّرابلسي في حديث لوكالة الأنباء الألمانية (DPA) في موفّى نوفمبر 2019، عندما صرّح « أنّ الحجيج اليهود القادمين من إسرائيل لا يدخلون بجوازات سفر إسرائيليّة، وإنّما يحصلون على تصاريح على الحدود التّونسيّة، أو يدخلون بأيّ جواز سفر آخر. وهذا الأمر شائع منذ حكم الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة». فعلا، نحن نمارس « كثيرًا من النّفاق »  عندما نغضّ النّظر عن هذه « التّصاريح » التي تخرق القوانين التّونسيّة. والواقع أنّ الصّحفيين التّونسيين لم يحقّقوا أبدا حول تلك التّصاريح، والأدهى من ذلك أنّهم لم ينقلوا حتّى تلك الفقرة من حديث روني الطّرابلسي؛ بل ركّزوا على فقرة أخرى لا تقلّ إشكالا، يقول فيها « إنّ  90 %  من الحجيج اليهود القادمين من إسرائيل هم من أصل تونسي وقد غادروا البلاد خلال الحروب العربية ـــ الإسرائيليّة. وهؤلاء الأشخاص وُلِدوا بتونس ومن حقّهم العودة إلى بلادهم والحصول على جوازات سفر تونسيّة، فالمسلمون من عرب إسرائيل يذهبون كذلك للحجّ في المملكة العربيّة السّعوديّة ! »  لقد كان من الأصوب مقارنة هذا الوضع بوضع الغالبيّة من الفلسطينيين في غزّة والضّفّة الغربيّة ومخيّمات اللاّجئين في البلدان المجاورة، الذين تمنعهم إسرائيل من الدّخول إلى القدس. ومن جهة أخرى، كأغلب المواطنين اليهود الإسرائيليين، أنّ  المهاجرين من تونس قد انخرطوا في جيشِ احتلالٍ  يمارس يوميّا جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانيّة ضدّ الشّعب الفلسطيني، وخاصّة في غزّة والقدس. وزير السّياحة يبدو أكثر انشغالا بمصيرهم من انشغاله بسياسة التّضييق المخزية على التّأشيرات التي تمارسها السّلطات التّونسيّة على سكّان غزّة. ففي شهر جويلية 2019، كان من المنتظر أن يقدم إلى تونس مهندسان من غزّة لتأهيل طلبة تونسيين من كليّتي الطّب والهندسة في مجال الطباعة ثلاثية الأبعاد لأدوات طبيّة، وهي خبرة اكْتُسِبت تحت ضغط الطوارئ وإلحاح الحاجة لمواجهة الحصار الإسرائيلي ـــ المصري؛ غير أن طلبهما للحصول على تأشيرة دخول بقي دون جواب؛ وهكذا لم تكتف الحكومة التّونسية بزيادة عزلة سكّان غزّة، بل أنّها عرقلت مشروعا علميا مجدِّدًا وتضامنيا من شأنه أن يحسّن على المدى القريب نوعية العلاجات ويخفّض من تكلفتها في تونس وفي فلسطين.

قُلْتَ أيضا في الحصّة الإذاعيّة ذاتها « إنّ هناك أشخاصا في تونس وفي العالم العربيّ بصورة أعمّ، يعتبرون أنّ اليهوديّ الوحيد المقبول هو الذي ينكر أصله، مثلما أنّ هناك في الغرب بعض المتطرّفين الذين يعتبرون المسلم الطّيّب هو من يتنكّر لديانته وقوميته وأصله. اليهودي الذي يعتبر دولة إسرائيل شرّا مطلقا وينبغي تدميرها هو الطّيّب والجدير بأن يُحَبّ. إنّ مثل هؤلاء اليهود نادرون؛ وقد يمثّلون ـــ حسب قولك ـــ نسبة واحد على عشرة آلاف من يهود العالم. وفي نظر بعض النّاس، يكون مجرّد الانتماء إلى الديانة اليهوديّة جالبًا للشّبهة ». وتُضيف : « إنّ المواطنين من أمثال سارج عدّة لا يوجد منهم أكثر من واحد على عشرة آلاف ». قولك أنّ « إسرائيل هي أصل اليهود » هو تصريح عنصري ومعادٍ للسّاميّة حيث أنّ نسبة كبيرة من اليهود أو ممّن أصولهم يهوديّة في العالم، ومن ضمنهم مواطنونا التّونسيّون، وبالأخصّ وزيرنا للسّياحة، لا انتماء لهم لتلك الدّولة. لقد فكّك المؤرّخ الإسرائيلي شلومو ساند في كتابه « اختراع الشّعب اليهودي » أحد أسس الفكر الصّهيوني الذي يزعم أنّ اليهود ينحدرون من مملكة داود، مفسّرًا أنّ الشّتات لم ينشأ عن طرد العبرانيين من فلسطين وإنّما من عمليات اعتناق متتالية للدّين في إفريقيا الشّماليّة وجنوب أوروبا والشّرق الأوسط. و سياسيا إسرائيل ليست سوى آخر سلسلة القوميّات الدّينيّة التي تفاقمت في نهاية القرن التّاسع عشر، وامتدّت إلى العصر الحاضر بتأثير من شعور الغربيين بالذّنب إزاء جرائمهم التي اقترفوها ضدّ اليهود.   

وتكشف أقوالك أيضا عن جهل كبير بتطوّر حركة التّضامن العالميّة مع فلسطين منذ فترة قريبة، خاصّة بعد ظهور الحركة العالميّة لمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (BDS) التي تكوّنت في جويلية 2005 دفاعا عن حقوق الشّعب الفلسطيني، إثر نداء أطلقه أكبر ائتلاف للمجتمع المدني الفلسطيني. إنّ الحركة العالميّة BDS المتجذّرة في عقود من الصّمود الشّعبيّ الفلسطيني في مواجهة الاستعمار والفصل العنصري، تهدف، على غرار حركة جنوب افريقيا المناهضة قبلها للميز العنصري، إلى تشديد الضّغط الاقتصادي والثّقافي والسّياسي على نظام إسرائيل القمعي، إلى أن يعترف بالحقوق الثّابتة للشّعب الفلسطيني ويوفي بها في احترام كامل لِلمقاييس والمبادئ التي أقرّها القانون الدّولي. كما أنّ لـِحركة BDS جذورًا في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وتبعًا لذلك فهي ترفض مطلقا أيّ شكل من أشكال الميز والعنصريّة، بما في ذلك الإسلاموفوبيا ومعاداة السّاميّة. وقد غيّرت هذه الحركة المناهضة للعنف، جذريًّا مضمون النّقاش حول النّزاع الإسرائيلي الفلسطيني، وقد جلبت إليها أشخاصا كثيرين يهودًا أو من أصول يهوديّة في أوروبا والولايات المتّحدة. ونجد في مقدّمتها « الاتّحاد اليهودي الفرنسي  من اجل السلام » (UJFP) ومنظّمة « الصّوت اليهودي من أجل السّلام » (Jewish Voice for Peace). وحتّى داخل إسرائيل، ورغم القوانين التي تزداد قمعيّة وقتلا للحريّات، هناك أصوات تعلو ضدّ الاستيطان والفصل العنصري، منها صوت مدير عام منظّمة « بتسيلم » غير الحكوميّة حجاي إلعاد، المحامي ميخائيل سفارد الذي مكّن فلاّحين فلسطينيين من استرجاع أراضيهم التي استولى عليهم المستوطنون، والصّحفيان في جريدة « هاأرتز » أميرة حاس وجيديون ليفي ومؤسسة « أكاديميون من أجل المساواة ».

لو قيل للمجنّدين الفرنسيين الشّبان ضمن الوحدات المرسَلة إلى الجزائر للمشاركة في الحرب سنة 1957،  إنّ الاستعمار سينتهي بعد 5 سنوات، لما صدّقوا ذلك. وهناك مؤشّرات تبعث على الظّنّ أنّ نهاية الاستعمار والأبارتهايد الإسرائيلي  قد باتت قريبة، وستكون سريعة ولا مُتوقّعة مثل نهاية الميز العنصري في جنوب إفريقيا، أو ـــ إذا اتّخذنا صورة أقرب للمخيال التّونسي ـــ مثل نهاية نظام بن علي. ولنا، دليلاً على ذلك، التّحوّلُ الذي يجري داخل أسر يهوديّة في أوروبا والولايات المتّحدة. وقد أعطى الكاتب الأمريكي الإسرائيلي إيريك فلام (Eric Flamm) شهادة هامّة على ذلك في مقال نشره منذ فترة قريبة. والرّجل من المخلصين لإسرائيل إذ هاجر إليها سنة 1994 وأصبح من مواطنيها؛ ثمّ عاد سنة 2001 إلى الولايات المتّحدة حيث أصبح زعيما للحركة الصهيونية الليبرالية  « ج ستريت » (J Street). يروي إيريك فلام في مقاله : « منذ شهر تقريبا، قال لي ابني ذو الخمس عشرة سنة إنّه ضدّ الصّهيونيّة لأنّه لا يمكن أن يدعم فكرة أن يتمتّع اليهود في إسرائيل بمعاملة تفضيليّة بالنّسبة للفلسطينيين في كلّ مظاهر الحياة، مثل التربية والسّكن والعمل والحقّ في العدالة. وهو يعتبر أنّ الاضطهاد العسكري للفلسطينيين واحتلال الضّفة الغربية وغزّة من العناصر الملازمة للصّهيونيّة السّياسيّة ». ويتساءل في موضع آخر من المقال : « كيف اكتسب الولد أفكاره المناهضة للصّهيونية وكيف اعتنق مبادئ BDS  ؟ » فهو إذن  يقدّم بعض عناصر الإجابة التي أدعوك إلى اكتشافها.

إنّ جيل الألفيّة في الولايات المتّحدة وأوروبا يُناصر القضيّة الفلسطينيّة ويناضل مع الشّباب في العالم العربي، وفي تونس بالأخصّ، لمساعدة الشّعب الفلسطيني على التّحرّر من الاستعمار والفصل العنصري. وقد حان الوقت للصحفيين التّونسيين أن يتفطّنوا لذلك.

ختامًا، تفضّلوا سيّدي بقبول فائق تقديري.


(*): أحمد عبّاس : باحث في الرياضيات، مدير بحوث بباريس ومنسّق الحملة التّونسيّة للمقاطعة لأكاديميّة والثّقافيّة لإسرائيل (TACBI) وأمين الجمعيّة الفرنسيّة للجامعيين من أجل احترام القانون الدّولي في فلسطين (AURDIP).

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !