رأي | عن قيود الملكية الفكرية

مقال لمحمد ليمام صميدة

تحول نقاش مهني، جمعني بـزميل، حول ذكر إسم المؤلف من عدمه في مقالاتنا إلى نقاش فلسفي حول ثنائية حق المؤلف والحق في المعرفة وتمعنا في البحث لنجد أن العديد من الأطروحات السياسية والتقنية انبثقت عن هذا الموضوع. المسألة تضع على كفتي الميـزان حقوق المؤلف من جهة ومسؤليتنا الجماعية تجاه المعرفة من جهة أخرى. لرسم الإطار يجدر أولاً تحديد المفاهيم في سياقاتها التاريخية.

ينبني مفهوم حقوق المؤلف على فكرة الملكية الفكرية بينما تطور الفكر الإنساني بالتـراكم إلى حد أن العديد من الآليات الأساسية لصنع الخطاب لم تعد تخضع لضوابط الملكية الفكرية. على سبيل المثال، نستعمل كوسيلة للإقناع الحجة الحسابية ؛ المعدل أو النسبة (%) أو المجموع أو غيـرها من الوسائل الحديثة للمحاججة.

والوسيلة البلاغية ؛ الإستنتاج أو التجريد أو التلخيص أو غيـرها من ميكانيزمات البناء الخطابي التي كانت ممكن أن تخضع للملكية الفكرية. في ناحية أخرى، لصنع خطاب معين كان بالإمكان أن أستدل مثلاً بمفهوم تقسيم العمل بشكل أو بآخر دون ربطه لزوماً بأدام سميث لجهل مني ربما أو لغاية معينة أو لعدم أهمية ذلك. على هذا الأساس، مالذي يجعل حقي كمؤلف لهذا المقال يتجاوز الحق الإنساني في تطوير المعرفة ؟

تاريخياً ذكرت الملكية الفكرية في إطار تشريعي للأول مرة سنة 1967 بمناسبة تأسيس المنظمة العالمية للملكية الفكرية التابعة للأمم المتحدة. من بين أهداف المنظمة ضمان التعاون الإداري بين الدول. كما تنص إتفاقية الإنشاء على أن مفهوم الملكية الفكرية يضم الحماية من المنافسة الغير مشروعة.

تأتي هذه البادرة وسط واقع سياسي متقلب : ست سنوات بعد بناء حائط برلين، أربع سنوات بعد معاهدة الحظر الجزئي للتجارب النووية المتبناة من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي تتلو بدورها أزمة صواريخ كوبا، سنة اثر إندلاع الثورة الثقافية في الصين.   لا يعني ذلك أن حقوق المؤلف و براءة الإختراع هما نتاج هذه الإتفاقية. حيث يعود اول تطبيق قانوني لحقوق المؤلف للاوائل القرن الثامن عشر.

حقوق المؤلف أو الحق في المعرفة ؟

في الأصل ينحدر مفهوم حقوق المؤلف عن المذهب الفلسفي الطبيعاني. و يعتبر جون لوك في هذا الاطار أن الانسان كذات واعية و مفكرة له أحقية امتلاك ذاته و كل ما تخلقه ذاته من خلال الجهود المبذولة. تنفي هذه الفكرة تفاعل الذات الواعية مع مختلف الذوات التي تحيط بها و تؤسس لمبدأ الفكر الخالص. بما يجعل أي نتاج تخلص له الذات لا يرتقي فحسب لصفته كأصل و لكنه مجرد في نشأته و بنائه عن كل ما أنتجته الذوات الأخرى.

و هو ما يمكن أن يتعارض ضمنياً مع مبدأ الملكية نفسه. لتبسيط المعادلة لنتخذ فكرة جون لوك كنتاج لذاته. حسب قوله، تعتبر فكرته هذه ملكه. لكن ما يمكن نقده في هذه المقاربة أن المفكر يستثني من الملكية أفكار الذوات الأخرى التي بنى عليها هو نفسه نظريته، ويحشرها بذلك عنوة، من خلال آليات تجريد هي الأخرى مستغلة، ضمن ملكيته الخاصة. مما يجعلنا قادرين على إعتبار المبدأ فلسفياً عاملا هاما في خوصصة المعرفة الجماعية.

على المستوى القانوني، تم التنصيص أول مرة على حقوق المؤلف سنة 1710 في علاقة بتقنين إمتيازات شركة طباعة ونشر بريطانية في هذا المجال. كما ضمنت الولايات المتحدة الأمريكية بدورها مبدأ الحفاظ على حقوق المؤلف في دستور 1787. يجدر الإشارة أن التجارب الدولية في هذا النطاق لم تخل من محاولات القطع مع السياق العام. حيث تركت الثورة الفرنسية وراءها آثار محاولات القطع مع الإمتيازات التي تخولها حقوق التأليف.و قبيل الحرب العالمية الثانية اقترح وزيران فرنسيان منتميان للجبهة الشعبية إلغاء الملكية الأدبية والفنية لكن لقي مقترحهم صدا كبيرا من قبل الناشرين.

إرتبط الإلغاء عامة في التاريخ بالتخلي عن ممارسات رجعية. و على هذا الأساس، يندرج إلغاء الملكية الفكرية و الإمتيازات المتعلقة بحقوق التأليف في العديد من الحقبات التاريخية ضمن قناعة مجتمعية بأن الأصل في الأمور هو حرية الفكر. و المقصود من الفكر الحر هو، من ناحية، تحرر الفعل الفكري و من ناحية أخرى، تحرر نـتـاج الفعل الفكري أي الفكرة. لهذا يعتبر بعض المدافعين عن مبدأ الغاء الملكية الفكرية أن حق المؤلف غير قابل للمصادرة بطبعه. من هذا المنطلق يصبح نسب فكرة ما لمؤلف مصادرة لحقوق مؤلفين آخرين راغبين في استغلال نفس الفكرة، عن علم أو عن جهل، في صياغة مختلفة.

لاختبار علاقتنا الحالية بالفكر كنتاج لمبدأ تكريس حقوق التأليف على أرض الواقع، سأنطلق من تجربتي السابقة كطالب بالجامعة في انجاز أطروحة تخرج. بما أن التأطير لم يكن بالقدر الكافي للجميع، عولت على نفسي في البحث و الكتابة. و تفاديا للسرقة الأدبية التي نبهنا منها أساتذتنا، حرصت على دراسة ما كتب عن الموضوع قبل الانكباب على الكتابة، و في مرحلة ثانية أعدت صياغة الخطوط العريضة المنبثقة عن الدراسة الميدانية، ثم أضفت على أساسها تخميناتي. لم ترق أفكاري لأساتذتي لا لصحتها من عدمها على الأرجح و لكن لعدم انتسابها (المعلن)  لأي من منظري الاقتصاد أو خبرائه. مما أجبرني على البحث عن سندات علمية لأفكاري لكي أنسبها لمن هم أولى بالمصداقية.

يترجم مفهوم المصداقية في الساحة الأدبية و الفنية بالأمانة الأدبية. و يدل ذلك أن الانتساب الفكري قضية أخلاقية قبل كل شيء. مما يجعل أي طرح فكري يجتاز اختبار المنطق بمجرد أن ترتكز بنيته الإبستمولوجية على التنسيب. و ما إن نتحدث على المعيار الأخلاقي، يتبادر إلى الذهن وجوباً السلم القيمي الذي يضع مؤلفا أو مفكرا ما موضعا أرقى أو أدنى من مؤلف أو مفكر آخر. وهو أيضا ما يسمح لمن هم في أعلى السلم بالإنتساب لشخصهم و يجعل إمكانية خرق العقد الأخلاقي متاحة.

سرد الكاتب والصحافي البولوني الملقب بصوت الفقراء ريشارد كابوشينسكي في كتاباته أحداث رحلاتة التي زار من خلالها العديد من البلدان الإفريقية و تطرق لوقائع تاريخية وسياسية شهدها وقتها. أسالت مؤلفاته الكثير من حبر الناقدين لما تحمله في طياتها من تداخل بين الواقع و الخيال. أيعتبر ذلك تجن على الميثاق الأخلاقي ؟

ربما إذا نظرنا الى المؤلفات بعين الناقد السياسي، أما بالنسبة لنقاد الرواية فلا ضير في ذلك. أردت أن أشير من خلال هذا المثال أن نسب (على الصعيد الفكري) الكاتب يتيح له امتيازات شخصية تخدم مصداقيته. وإن أردنـا التوغل أكثر في علاقة القيمة بالملكية الفكرية، نجد أن تفاوت ثمن المؤلفات من كاتب الى آخر يؤسس لنوع من الطبقية الفكرية.

التساؤل الذي يطرح على هذا المستوى هو التالي : إن ألغينا الملكية الفكرية، كيف للمعرفة أن تتطور بالتراكم دون الوقوع في تكرار نفس الأفكار ؟
بالرغم من قناعتي بأن تكرار الأفكار لا يقلص من حجم المعرفة، بل بالعكس يخدم عمقها، و بغض النظر عن الدلالة المعرفية التي تكتسيها صياغة الأفكار وتجعل كل فكرة منفردة في حد ذاتها، إن شئنا الحفاظ على نفس ديناميكية التراكم المعرفي دون اللجوء لنسب الأفكار لمؤلفيها، بالإمكان تحديد نظام أرشفة رقمي للمؤلفات بمختلف أنواعها.

مما يجعل الإستدلال بمرجع لا يتم بالرجوع للمؤلف ولكن بذكر الرقم المرجعي للوثيقة. أما إذا أردنا خلق ديناميكيات جديدة للبناء المعرفي تخرج عن إطار التراكم، خدمة للحق الإنساني في المعرفة، من المفروض أن يتاح للجميع بحكم التجربة الإنسانية، المهنية و العلمية من إبداء نظرته في نطاق المعرفة العامة دون أي قيد أو شرط. التفاوت في التجارب على إختلاف مشاربها يجعل من الخطاب المعرفي الحر أكثر ثراءاً و عمقا و تفردا من بناء هرمي يستمد شرعيته من قواعد فكرية صالحة هي الأخرى للتفكيك والمسائلة.

وبالتالي يصبح تساؤلنا مغايـرا : كيف يتحول بناء المعرفة من هيكل يجسد توارث الخطابات العلمية وانما فضاءاً مفتوحاً لخطابات لا تعترف بعلاقات التبني الفكرية ولا تخضع لعلاقات سلطوية ؟ لن يمكننا هذا المقال من محاولة الرد على هذا التساؤل بما أنه ليس موضوعا للدرس حالياً. في خطوة أولى و للمرور نحو الإجابة على هذا التساؤل يجب تحرير الخطاب العلمي (فلسفي، أدبي، سياسي، إقتصادي، فيزيائي…) من قيود الملكية الفكرية.

بـراءة الإختراع : إمتلاك الصناعة أم صناعة الإمتلاك ؟

بتطور التقنية، أصبحت الملكية الفكرية تتجاوز مستوى الخطاب العلمي لتحتكر بالإضافة لذلك أساليب تقنية و اختراعات. في هذه العلاقة الحديثة، تدخل عناصر تفاعل أخرى بمستويات مختلفة في البناء التقني، على سبيل الذكر لا الحصر العوامل الإقتصادية (الربح، الثمن، القيمة، السوق…) العوامل الإجتماعية (الصراع الطبقي، النظام القيمي، تقسيم العمل في المجتمع…) العوامل الثقافية (إنفتاح أو إنغلاق حضاري، تنوع إثني أو ديني). هدفت الملكية الفكرية في القطاع التقني لتطوير الصناعات بالأساس والتجارة بدرجة ثانية. تعود أول تجارب حماية الملكية الفكرية في اوروبا إلى القرن الخامس عشر واهتمت بالطباعة والنقل البحري للبضائع.

على غرار ما تمثله حقوق المؤلف بالنسبة للملكية الأدبية، وضعت بـراءة الإختراع بالنسبة لكل ماهو تقني. غير أن الرهانات التي ارتبطت ببراءة الإختراع فاقت في قيمتها واعتمادها حقوق المؤلف. وخصوصاً وإن علمنا أن صناعة الأسلحة وما تخفيه من أثر على موازين قوى عالمية اعتمدت في تطورها الملكية الفكرية. كما خضعت أيضا قطاعات حيوية للاحتكار الفكري و من ابرزها صناعة الأدوية. في حين انبنى كذلك التطور المعلوماتي على ذات الأساس ؛ جميع قواعد البيانات، النظم المعلوماتية و لغات البرمجة تفرض هي الأخرى بنسب متفاوتة عقوداً للملكية.

بما أن العديد من هذه الصناعات الثقيلة تخضع بصورة أو بأخرى لسلطة الدول من منطلق سيادي، مثلت هذه الأخيرة عنصـراً فاعلاً في تعزيز مبدأ بـراءة الإختـراع من خلال فض النـزاعات التي تخص حقها في الملكية الصناعية. على هذا الأساس، تعتبر بـراءة الإختراع أداة لإحتكار وسائل الإنتاج قبل أن تكون وسيلة لخوصصة المعرفة. إذا اتفقنا أن التقنية هي جزء من رأس المال الصناعي، يتبين لنا، بصفة جليّة، أن تعارض الأنظمة الليبرالية مع مبدئها الذي ينص على حرية حركة رأس المال، وهذا يـرجع أساساً لدعمها لبـراءة الإختـراع في هذا النطاق.

إذا افترضنا أن القوى العاملة في سوق الشغل المفتوح لا تخضع لنفس ضوابط رأس المال في حركتها، و أن التقنية، في كونها رأس مال نسبياً ثابت، هي نتاج حصري لليد العاملة المتخصصة، يمكننا الإستنتاج أن التطور التقني يخدم بصفة تفاضلية مصلحة  رأس المال على حساب البروليتاريا. أتخذ مثال المتصرف الذي ينجز أساليب عمل داخل مؤسسة تحتكرهم هي بدورها بحكم العقد المهني الذي يربطها بالموظف و بحكم بـراءة الإختراع التي فرضتها على التقنية ؛ إن يغيّر هذا الموظف وظيفته، لا يمكنه نقل الأساليب التي ابتكرها معه بما أنه لا يمتلكها.

إمتلاك الدولة لوسائل الإنتاج مختلف عن إحتكارها من قبل القطاع الخاص. حيث تعتبر الدولة، في الأصل، الضامن الأساسي للعدالة الإجتماعية من خلال إعادة توزيع الثروة و الدعم المتواصل للحقوق الإجتماعية والإقتصادية بينما يمثل الهدف الربحي أساس كل قـرار تتخذه المؤسسات الخاصة. يندرج بذلك إستغلال بـراءة الإختـراع (كوسيلة إنتاج حديثة) من طرف الدولة في إطار مخططها الهادف لتوزيع عادل للثروة.

هذا على المستوى النظري، لكن في حقيقة الأمر يجب الأخذ بعين الإعتبار العلاقات السلطوية المتأتية من تفاعل الدولة مع محيطها (السوق، الدول الأخرى، المواطنين). أما بالنسبة للمؤسسات الخاصة، يتم إعتماد بـراءة الإختراع لتوسيع نطاق القيمة المضافة مقارنة بالمنافسين.
لتبسيط هذه الفكرة، لنتخذ مثال الملكية الصناعية التي تفرضها بعض الدول على الأدوية التي تنتجها، في إطار ديمقـراطي يمكن الضغط بشتى الوسائل عليها لتغيير سياساتها الصحية في توفير عادل للدواء على مستوى داخلي. على المستوى الخارجي.

تسعى الديبلوماسيات لتوقيع اتفاقيات تعاون فيما بينها تدعم من خلالها الحق في التداوي. في المقابل، عندما تتخلى الدولة عن مهمة صناعة الأدوية لفائدة الخواص، تتحول تدريجيا آليات الملكية الصناعية بدورها بيد الشركات الخاصة، مما يجعل السياسات المتعلقة بالحق في التداوي، في جزء هام منها وبصفة حصرية، رهينة أهواء السوق المتقلبة بعد ما كانت تنبني على رؤية إجتماعية للحقوق. وإن اقتصر تحليلنا للملكية الصناعية على علاقتها بالحق في الصحة، فهي في الحقيقة تشمل مجالات (كالطاقة والتسليح) و أبعاد سياسية وإقتصادية أوسع لا يسعنا التطرق لها بالتفصيل في هذا المقال. ينبغي التأكيد هنا أن آثار الخوصصة بأنواعها تؤدي لنفس العواقب لكن الملكية الصناعية هي نقطة اللاعودة في الأنظمة الليبرالية.

 وتكمن الخطورة في علاقة الهيمنة التي تفرضها الشركات على الدول، والأمثلة عديدة (قطاع الإتصالات، قطاع التكنولوجيات الحديثة، قطاع الأدوية، قطاع الطاقة…). في فرنسا، فرضت شركة إتصالات خاصة بـراءة إختـراع على قاعدة عناوين وطنية وحرمت بذلك الدولة في حد ذاتها من استغلال بيانات في غاية من الأهمية كان من الأحرى أن تكون بعهدتها.

في تونس، يعد المعهد الوطني للمواصفات والملكية الصناعية على مدى خمس سنين (من 2013 إلى 2017) معدلا سنوياً يناهز 564 براءة إختراع، 70% منها راجعة لشركات غير مقيمة[1]. هل تطرح وزارة الصناعة، في إطار صياغة مخططاتها، تساؤلات حول مدى تأثير براءات الإختراع التي تصدرها على النطاقين الإجتماعي والإقتصادي ؟ إن أخذنا بعين الإعتبار الأربع عشر معاهدة التي صادقت عليها تونس تحت إشراف المنظمة الفكرية للملكية، ندرك بأن قرار وزارات الصناعة في شأن الملكية الصناعية لا يمكن أن يكون في إنعزال عن التوجه السيادي لوزارات الخارجية.

في محاولة لعزل مسألة الملكية الفكرية والصناعية عن الحقـل السياسي و الفلسفي، تسعى العديد من المنظمات الأممية والوطنية لتعويم هذه القضية وسط أطـر تقنية وقانونية معقـدة و مقيِّدة. تواجهها في جانب آخر، أطـراف تسعى لتحرير المعرفة والتقنية من ضوابط الملكية بنفس الآليات.

طبيعة البدائل و علاقة الفكر بالتقنية

فِعل بدون تزوير“، “عندما نتشارك (ما ننتجه)، يفوز الجميع” كلها شعارات راجعة لمؤسسة المـشاع الإبداعي التي تطرح بدائل تقنية لمسألة الملكية الفكرية. تقترح المؤسسة ست أنواع من عقود التوزيع و إعادة الإستعمال التي تمثل بدورها تركيبات لأربع عناصر : الإسناد، الإستغلال الغير تجاري، الإشتقاق و النشر المماثل. بالرغم من التمشي التحرري الذي انطلقت فيه هذه المبادرة، إلا أنها تنطبق حصرياً على الأعمال ذات الحقوق المحفوظة. ويعني ذلك أن إنجاز عمل من خلال إستغلال “عشوائي” لأعمال أخرى تخضع للملكية مرفوض. وهو ما يرجعنا لنقطة البداية.

من خلال تجربة خاصة، خلص ريشارد ستالمان، هو الآخر، إلى بناء عقد حر لتوزيع البرمجيات (جنو)  وصاغ بشأنه بياناً يفسر فيه نظرته للملكية الصناعية و طبيعة العلاقات الإنسانية والإقتصادية التي تنبني على أساسها. يعتبر هذا المشروع أكثر تحرراً في فلسفته من المشاع الإبداعي لكنه لا يخلو من الهنات على أرض الواقع. ما يمكن أن أعتبه على أطروحة ستالمان هو نفس التسرع الذي سلكته المقاربات المتبنية أو الداحضة لمبدأ الملكية الفكرية في التحول من الطرح الفكري للحل التقني. حيث لم يتم فصل التصورات، و تم تقديم المشروع المؤسس للتحرر الفكري في قوالب معدة بالأساس على قياس الملكية الفكرية (قواعد السوق : التبادل، المنافسة، العرض والطلب…)، في حين تكتسي فلسفة مشاريع الإنعتاق في جوهرها الإجتماعي منحى تضامني لا تضمنه بنفس القدر الأنظمة الليبرالية.

تاريخياً، يبدو أن إلغاء الملكية الفكرية كمشروع إرتكز في القرن التاسع عشر على أطروحات سياسية و فلسفية معمقة (برودن، ولـراس) بينما تحول في عصر ما بعد الحداثة إلى مسألة تكاد تكون تقنية بحتة. وذلك يدعو في حد ذاته لبناء فكري جديد في علاقة بهذه المسألة قبل الإنسياق وراء التطور التقني، مما يسمح بتفكيك العلاقات السلطوية النابعة عن الملكية الفكرية بأنواعها (الإقتصادية، الإجتماعية، السياسية).

خاتمة

تؤثر الملكية الفكرية على نمط العيش وتتأثر به. تعددت التجارب المجتمعية البديلة التي تسعى للقطع مع نمط العيش السائد، ونذكر أبرزها ما يستدل عليه بـالفضاء الثالث و هو مفهوم طوره الباحث في علم الإجتماع الحضري ري اولدنبورغ لتغيير طبيعة استغلالنا للفضاءات و نوعية التفاعلات الإجتماعية الناتجة عنها. وإن كانت هذه التجارب تنبني في إطار مجموعات متفرقة و لكنها تسائل من خلال ممارساتها جميع ترسبات المركبات الذهنية المشتركة. من بين المسائل المطروحة في هذه الفضاءات، نجد قضية التحرر الفكري. بالرغم من صبغتها الإجتماعية الهامة، تبقى هذه التجارب كغيرها، منكبة على الجانب العملي للمسألة وتعلي بذلك الجانب الفكري أقل إهتماماً. وفي خضم التحديات الراهنة والتطورات الحالية فالعالم، أعتبر أنه ضروري إعادة طرح الموضوع للنقاش والتفكير قبل المرور إلى تفضيل خيار على آخر.



أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !