رأي | عن تاريخ النضالات داخل الأطر الليبرالية

مقال لمحمد ليمام صميدة حول بناء الخطاب التاريخي المتعلق بالحراك الإجتماعي.


ماذا للتاریخ أن یذكر وأن یمحو عما نعیشه في الفترة الراهنة ؟ إذا إعتبرنا أن التاریخ مجرد ذاكرة
جماعیة انتقائیة، إلى أي مدى تتفاعل وسائل الفرز الزمني مع النضالات المجتمعیة الحالیة من جهة ودینامیكیة السوق من جهة أخرى؟ یجدر الإشارة أن العلوم في شمولیتها وخصوصا منها الانسائیة، لا یمكن فهمها خارج أطر السلطة. هل یعني ذلك أن تاریخ ما بعد الحداثة یمكن أن یشهد بأمانة عن فترات تسلط السوق، عن فترات تسلط الحاكم وعن فترات انعتاق المجتمع ؟

في محاولة للإجابة الجزئیة عن هذه التساؤلات، یمكن تفكیك المسألة وتسلیط الضوء على الوحدات
الإستطدرادیة في علاقتها بالبیانات العمومیة أي ما یمكن أن یفرزه المؤرخون اللاحقون من خطابات
إنطلاقا من البیانات التي تنشرها وتنتجها الدولة في إطار علاقات الإستهلاك التي ینبني علیها إقتصاد السوق، تنتج الدولة بیاناتها حسب معادلة بین التكلفة والطلب،وذلك إجابةً لحاجیات الحكام، رجال الأعمال، الباحثین،الصحفیین وفي أخر المطاف الحقوقیین أفرادا كانوا أو جماعات. لذلك من الأنسب إتباع أثر البیانات لدى مستعملیها.

ما إن یذكر مصطلح البیانات العمومیة في تونس خارج أجهزة الدولة، یتم ربطه بالشفافیة، أما داخلها فهي بالأساس وسیلة لإدارة دوالیب مؤسساتها. إن تمعنا قليلاً في المعطيات العمومية الأكثر تبادراً للأذهان نجد الميزانيات، العقود المبرمة مع القطاع الخاص، المناقصات العمومية، نتائج المناظرات، محاضر الجلسات، القوانين، المناشير والأوامر الحكومية. و هذا ما يؤكد التأثير الهام للسوق في صناعة المعرفة من جهة و إنعدام ثقة الشعب في هياكل الدولة من جهة أخرى.

أما عن المعطيات العمومية المعتمدة بالبحوث، يمكننا ذكر البيانات الديمغرافية، القانونية والإحصائية المتعلقة بوظائف الدولة. يمكن لهذه البحوث من صياغة قراءة علمية لواقع الحقوق الإجتماعية، الإقتصادية، السياسية في فترة ما من خلال بضع معطيات عمومية و دراسات سابقة. هكذا تبنى المعرفة التاريخية، السوسيولوجية أو السياسية في هذا المجال بالتراكم.يبدو في الظاهر أن هذا البناء الإبستمولوجي موضوعي، أي خارج عن تجاذبات السلطة و لكنه فالواقع محدود بأطر منهجية و بمعايير خاصة بالبيانات تحددها الدولة.

أحسن مثال لتوضيح هذه الفكرة هو التعاطي العلمي مع مرض السرطان في تونس ؛ لا يمكن للباحثين الحاليين واللاحقين في العلوم الإنسانية التوغل في دراسة واقع الحقوق الصحية لمرضى السرطان ما لم تصدر الدولة بياناتاً إحصائية على مستوى وطني بتفاصيل جهوية، جندرية، عمرية و طبقية. بينما الحال أن المعطيات القليلة المتوفرة هي نسب مئوية على مستوى إقليمي حسب طبيعة الأورام. مما جعل البحوث العلمية التي تطرقت لهذا الموضوع كانت بصفة حصرية طبية.

رفض الدولة نشر البيانات العمومية ليس مرتبط بضوابط إقتصادية تتعلق بإنتاج المعطيات وانما بتعليمات سياسية ساعية لتفادي التأججات الإجتماعية. كمثال آخر نذكر عمليات المسح الطبوغرافي بطائرات دون طيار التي قامت بها مؤسسة جوجل في تونس بعلم مسبق من وزارة الدفاع بالرغم من الأطر القانونية المانعة لمثل هذه التدخلات. مكنت هذه العملية جوجل من التصرف الحر في قاعدة عناوين وطنية لا يمكن للباحثين الولوج لها عبر أجهزة الدولة. رفض الدولة نشر البيانات العمومية هنا ليس مرتبط بضوابط إقتصادية تتعلق بإنتاج المعطيات وانما بدواعي إقتصادية ساعية لحماية مصالح السوق.

فتح قواعد بيانات مماثلة كان ليمكن باحثين اجتماعيين واقتصادين من فهم التوسع العمراني، من تقييم أسعار الكراء وكلفة البناء و لكن من منطلق منطق الدولة الداعم لأفضلية السوق على الحقوق تعد هذه الأطروحات ثانوية. يبدو الأمر أكثر تعقيداً عندما نتحدث على بيانات عمومية مستغلة لغايات نضالية. بالرغم من الحراك الإجتماعي المتواصل في الحوض المنجمي بقفصة من 2008 إلى الآن، إلا أن مسألة إنعدام الملكية العقارية لا تكاد تطرح في حوارات المجموعات المهتمة بالشأن العام مقارنة بالتشغيل، بالحق في الماء، بالحق في بيئة سليمة… غياب الخطاب المطلبي حول الحق في الملكية العقارية يكشف عن غياب المعطيات المتعلقة بهذا الحق، أو بالأحرى التعقيد القانوني الذي تكتسيه هذه المعطيات.

حيث يعتبر غموض المعطيات من بين وسائل الدولة الناجعة للتعتيم والتكتم عن المعلومة. يصعب إذاك للأجيال القادمة من المؤرخين إعلاء المسألة العقارية بالحوض المنجمي في خطابهم نفس القدر من الإهتمام كمعضلة التشغيل أو الماء في ظل غياب المعطيات. وتجدر الإشارة أن غياب المعلومة هنا يخدم مصلحة شركة فسفاط قفصة كمالك قانوني و مستغل لأراضي الحوض المنجمي. للأسف، الأجهزة المعلوماتية للدولة لا توثق الحراك الإجتماعي كما توثق نشاطاتها و كل ما يتعلق بنشاطاتها.

إن أمكننا، عبر دليل التربية الذي تصدره الوزارة، أن نحصي العدد السنوي لقاعات التدريس في كل معتمدية، ليس بإمكاننا متابعة تجربة الجامعة الشعبية محمد علي الحامي عن طريق معطيات رسمية. نفس الشيء بالنسبة للتشغيل : كل العمال الغير المصرحين من قبل المشغلين، و هم الفئة الأكثر تهميشا، لا تندرج معطياتهم في سجلات الدولة وكذلك الشأن بالنسبة لتحركاتهم الاحتجاجية. كيف للتاريخ أن يسرد هذه التجارب الإنسانية ؟ على أي سندات قانونية، إحصائية رسمية يجب الاعتماد ؟


بما أن الإدارة العمومية لا تعترف بكل ماهو خارج عن أطرها القانونية لصنع المعرفة، يجدر بالمؤرخين و النشطاء السياسيين الإرتكاز على المخزون المعرفي المواطني لتمثيل حراك الفئات الخارجة عن مسالك الدولة الرسمية في خطابهم السردي لواقع الحقوق. التمازج بين ماهو صادر عن الدولة وماهو صادر عن المواطنين يحد من هيمنة الخطاب الأحادي في العلاقة السلطوية للمعرفة. كما يعتبر تمكين المواطنين من كتابة التاريخ إنصافاً لنضالاتهم في تكريس حقوقهم الإجتماعية، الإقتصادية، السياسية، الثقافية والبيئية.


لن تكون هذه المقاربات فوق النقد العلمي خصوصاً و أن السردية التاريخية سعت منذ عصور لتوحيد الخطاب عبر إعتماد نفس تقنيات المحاججة و مقارعة الخطابات بأخرى للتجرد من الهوامش. عكس ما يتصوره البعض، يعطي النقد مشروعية أكبر للمقاربة لما يمثله من دفع لصناعة بديلة لتاريخ نضالات الشعوب. ويصبح عندها الحديث على تجارب مجتمعية مثل واحات جمنة، خلافاً للطرح السائد، موضوعا للتباحث والنقاش ومحاولة لقلب الموازين بين ماهو محوري وماهو على الهامش. في هذا الإطار تسمح هذه القطيعة الإبستمولوجية تدريجياً بالإعتراف العلمي بضرورة العدالة الإجتماعية و ضمان الحقوق بعيداً عن التجاذبات السياسية.


ا

ً
.


ً

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !