قيس سعيّد… حتى يُستَكمَل شعار “الشعب يُريد” بقرار “اسقاط النظام”…

رأي – الأعمدة – غسّان بن خليفة

مثّل انتخاب قيس سعيّد رئيسًا بصقةً مُدويّة أطلقها من أحشائهم مئات الألوف من التونسيين والتونسيات في وجه هذه المنظومة الحاكمة. أعتقد أنّ هذه الصورة المجازيّة هي الأصدق تعبيرًا عمّا جرى خلال الأسابيع الماضية. ويكفي أن نرى اليوم علامات الامتعاض التي اعترَت وجوه بعض النوّاب والدهشة البادية على وجوه بعض السفراء الغربيّين خلال خطاب الرئيس الجديد لنُدركَ أنّ تلك البصقة الساخطة قد بلغت مكانها.


فكان هذا الحدث تعبيرًا عن سخطٍ ونقمةٍ عارمتيْن تجاه حصيلة السنوات الماضية من “الانتقال الديمقراطي” بما عجّت به من أحداث وأحزاب وصراعات وسياسات لم تُحسّن حياة الناس في شيء تقريبا. كما مثّل ما يشبه مراهنتهم الأخيرة على امكانية اصلاح هذا النظام بأدواته القانونية، عبر اختيار سياسيّ يشبه عامّة الناس ولا يشبههم في آن، فهو بسيط مثلهم ويعبّر عن أفضل ما استبطنوه من قيم ومبادئ وان كانوا لا ينجحون كثيرًا في تجسيدها. والأهمّ أنّه لا يتّصف بما التصق في ذهنهم من صفات لدى بقية السياسيّين. فهو يبدو: نظيف اليد ويكره الفساد وأهله، صادقًا، مثقّفًا، متواضعًا، عادلاً، مستقلًا عن أجندات اللوبيات والأحزاب، يحترم القانون بصرامة… هذا ما رآه أغلب الناس في سعيّد، ولم يهتمّوا كثيرًا أو يستوعبوا تمامًا مشروعه لتغيير نظام الحكم…


الّا أنّه حانت اللحظة لنصارح بعضنا بأنّ هذا الاختراق الذي صنعته الطبقات الشعبية وجزء هامّ من الطبقة المتوسّطة وما تبعه من شعور بنشوة الانتصار وروح ايجابية متفائلة، تجسّدت في حملات النظافة والتزيين وغيرها من مبادرات، لن تكون – على أهمّيتها – كافية لاسقاط هذه المنظومة (أو “السيستام”).
اذ أنّ فكرة تغيير نظام الحُكم نحو “من المحلّي إلى المركز” هي فعلا فكرة ثورية مبدئيًا، لأنّها يمكن أن تتلافى أحد أهمّ عيوب “الديمقراطية التمثيلية”. وهو اقصاء الناخبين من ادارة الشأن العامّ اثر الانتخابات، ليحتكرها طيلة الدورة الانتخابية ممثّلوهم الخاضعين لمصالح رؤوس الأموال وحسابات الأحزاب وأولويّات السفارات. كما أنّ امكانية محاسبة الناس لمن انتخبوا دون انتظار الموعد الانتخابي هي أداة هامّة لمحاصرة امكانيات الفساد والتمعّش، فيظلُّ المُنتخَبون في دورهم الأصلي وهو خدمة الناخبين والدفاع عن مصالحهم. ومبدأ محاسبة المُنتَخبين وامكانية عزلهم هو بالمناسبة من أهمّ ابداعات “كومونة باريس” الشيوعيّة، التي شدّد عليها كارل ماركس في كتاباته عن تلك التجربة الثوريّة التي لم تعش بما يكفي لنحكم عليها بحسم.


بيْدَ أنّ هذا النظام الانتخابي، كما أيّ نظام انتخابي آخر، غير مُؤمَّن من الثغرات التي يمكن أن يتسلّل منها لصوص المال والسياسة، وهو في الأصل وسيلة لا غاية في حدّ ذاته. وسيلة يُفترض أن يُعمل من خلالها على تحقيق مشروع ما. ولهذا ينتقد البعض اكتفاء سعيّد بشعار “الشعب يريد”. فالشعب قال بوضوح خلال انتفاضته الثورية قبل سنوات أنّه “يريد اسقاط النظام”… وإسقاط النظام والتغيير الجذري للواقع يتطلبّان رؤية استراتيجية ثورية، يتمّ تجسيدها على مراحل في مختلف المجالات، وعلى رأسها الاقتصاد. كما يتطلبّ تجسيد هذه الرؤية أدوات تتجاوز حتمًا ما تسمح به صلاحيات ساكن قصر قرطاج.. بل وحتى صلاحيات ساحة القصبة وقبّة البرلمان… فالدولة بنهاية التحليل ليست سوى أداة في يد الطبقة المهيمنة، تشرّع من خلالها وتنفّذ ما يخدم مصالحها. وبالتالي، فإنّ من يريد اسقاط النظام عليه أن يعيَ جيّدًا بأنّه سيكون في مواجهة هذه الدولة وأن يعمل على افتكاكها من أيدي من يعتبرونها ملكًا خاصًا لهم، لا تؤثّر فيه لا انتخابات ولا انتفاضات… كما أنّ عليه أن يدرك أنّ النظام أوسع من الدولة، وأنّ الصراع معه يتجاوز السيطرة على “المجتمع السياسي”. بل انّ حسم هذا الصراع يمرّ أساسًا بتحقيق الهيمنة الثقافية ومجالها الرئيس هو “المجتمع المدني”، بالمعنى الذي أوضحه المفكّر الماركسي غرامشي.


هل يحمل سعيّد ومن معه هذه الرؤية؟ بصراحة، رغم ثقتي في نزاهة الرجل وفي صدق العديدين ممّن حوله، مازلت شخصيًا لا أعرف إلى أيّ مدى هم مدركون لما يتطلبّه الأمر من تصوّرات جذرية وشاملة يجب أن تتحوّل الى سياسات وقوانين… وما سيتبعها ذلك بالضرورة من مسّ بامتيازات الطبقات والقوى المهيمنة داخل البلاد وخارجها… وهو ما سيعني حتمًا المواجهة التي تتجاوز منطق “احترام القانون” و”التزام الدولة بتعهّداتها”…


وفي اطار هذه المواجهة، سيتفنّن محترفو الارتزاق الحزبي والاعلامي، خدَمُ البرجوازية السمسارة الحاكمة وأسياد الأخيرة في مراكز الهيمنة الدولية، في احتواء الرجل وافراغ مشروعه، على ما فيه من نقاط ضعف وغموض، من محتواه قبل أن يبدأ في العمل على تحقيقه… وان لم تنجح محاولة الاحتواء، فسيتمّ مباشرة المرور إلى الحصار. فهل تحضّر سعيّد ومن معه لهذه المواجهة المُحقَّقة في حال ما صمّموا على تنفيذ ما عبّروا عنه من مواقف اجتماعية ووطنيّة اصلاحيّة؟ تحديدًا ضمان الدولة للحقّ في التعليم والصحّة والضمان الاجتماعي وصيانة سيادة البلاد وكرامتها الوطنية والتعامل مع التطبيع كجريمة خيانة عظمى ونقد سياسات صندوق النقد الدولي والحدّ من التداين الخارجي والخ.؟ هل يعتقد سعيّد ورفاقه أنّ أصحاب القرار الفعليّين بالداخل والخارج سيقبلون بتحويل هذه المواقف الى أفعال؟

لا أظنّهم يجهلون ما ينتظرهم من تحدّيات جسام، بل وأعلم أنّ بعضهم صاروا يخشون – بحقّ – على حياة الرجل منذ أن صدع بموقفه المشرّف ضدّ التطبيع مع الكيان الصهيوني. الاّ أنّ الوعي بجسامة المسؤولية لا يكفي.
وأحسبُ أنّ أُولى خطوات التحضّر لهذه المواجهة هي التوقّف عن ترديد العبارات الساذجة من نوع “شعبنا أذهل العالم” و”نطمئن الجميع” و”لسنا بحاجة إلى أحزاب” و”الشعب سيقرّر ما يريد” و”مراعاة مصلحة جميع الأطراف” والخ. والعمل على توضيح وترجمة المواقف الإيجابية المُعبّر عنها عبر سياسات ومشاريع قوانين واجراءات عمليّة. وبالتوازي مع ذلك التخلّي عن رفض التنظّم والعمل جدّيا على بناء حركة سياسية جماهيرية تحمل هذا “المشروع” وتكون رافعته التنظيمية. فهذه الحركة ستكون ضرورية لرفع الحصار المُرتقَب على الرئيس في قرطاج من قِبل المُمسكين بباردو والقصبة وأسيادهم في السفارات والمؤسّسات المالية الدولية وأعوانهم في “المجتمع المدني” وكلاب حراستهم في وسائل التضليل والدعاية.


ومادام سعيّد ورفاقه اختاروا أن يكسروا مقاطعتهم السابقة للعبة الانتخابية، فعليهم بتقديري أن يذهبوا في هذا الأمر حتى النهاية. وذلك بالعمل على ارساء تفاهمات واقامة تحالفات مع القوى السياسية الوطنية التقدّمية (الإصلاحية منها والثورية) التي يتشاركون معها جزءًا هامًا من الأهداف. وكذلك الاستعداد مسبقًا لامكانية وصول الصراع المُتوقّع الى حلّ البرلمان وتحضير قائمات لخوض الانتخابات التشريعيّة القادمة.


فمن دون التسلّح برؤية استراتيجية واضحة وبأدوات فاعلة لخوض الصراع السياسي، وهو في جوهره وطني وطبقي، لن يكون قيس سعيّد سوى محافظ وطني عبّر في لحظة أزمة عن حنين الطبقة المتوسطة والطبقات الشعبية إلى صورة متخيّلة لدولة الرعاية الاجتماعيّة الغابرة. وفي أفضل الأحوال، لن يبقى من مروره بقصر قرطاج سوى ذكرى مغامر حالم عبّر عن احباط وطموحات الكثيرين في فسحة أمل عابرة… ولن يبقى من عبارة “الشعب يُريد” سوى رجع الصدى وزفرات الحسرة على ما كان يمكن أن يكون…

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !