رأي | دروس ماكيافيلي التي لم يُراجعها نبيل القروي

بقلم يوسف الشادلي


لطالما فكّرت في نفسي متسائلا عن ما إذا كان هناك ما هو أسوأ من أن يكون المرء ماكيافيليّا، وكُنت لدهر أعتقد أنّ الإجابة عن هذا السؤال لا تكون إلاّ بالنفي. لكنّني ولُحسن حظّي أو لسوئه، أعاصر من هو أسوأ بكثير، وهُم بإيجاز: تلاميذ نيكولا ماكيافيلي الفاشلون.


مع أنّ إسم نيكولا ماكيافيلي مُرتبط تاريخيا بالشرّ والمكر والدهاء والقسوة، وبمبدأ عملي هو “الغاية تُبرّر الوسيلة”، إلاّ أنّه كان مفكّرا متبصّرا وسياسيّا ألمعيا، ويكفيه فخرا أن شهد له الفيلسوف الألماني هيغل بالعبقريّة. فقد قام ماكيافيلي بنقل المعرفة السياسيّة من مجال الأخلاق إلى مجال الواقع، وافتتح عصر الواقعيّة السياسيّة بما لها وما عليها، فحوّل السياسة إلى علم. وهمّي هنا ليس نقد ماكيافيلي وإنّما صفع بعض أتباعه الذين لم يراجعوا جيّدا دروس أستاذهم ومُلهمهم. وحديثي هنا عن نبيل القروي باعتباره أفشل تلاميذ ماكيافيلي على مرّ التاريخ، حيث يندُر أن ترى “أميرا ماكيافيليّا” يرتكب كُلّ الأخطاء التي نهى “الأمير” عن ارتكابها بشدّة.

وأنا على رأي ماكيافيلي “لا ألوم الملوك المتطلّعين للاستيلاء على الولايات، لأنّ طبيعة التملّك والسيادة راكزة في نفس كُلّ أمير، بل أراني أميل للثناء على كُلّ راغب في مدّ نفوذه إذا كان يُحسن التصرّف. ولكن من يحاول امتلاك البلاد وهو جاهل بطُرق السياسة، ثمّ يتفانى فيما توحيه إليه شهوة التملّك، فهو جدير بأن يُلام على تهوّره لوما عنيفا”.


الدرس الأول: المتملقون لا يصنعون الأمراء وإنّما يُهلكونهم

يَسْعَدُ أميرنا “سي نبيل” بجوقة المتملقين المحيطين به، الذين لا يتركون مقاعدهم في تلفازه إلاّ للأكل والغائط والنوم، ويطرب لما يسمعه منهم، سواء تعلّق الأمر بالثناء على كرمه أو بإعلاء قيمته وذكائه أو بمدح عبقريّته في صُنع نفسه من العدم. لكن كُلّ ما قيل على شاشة “نسمة” لا يعدو كونه كلاما أجوفا زاد في غرور سي نبيل وعزّز وهمه في أنّ السُلطة باتت في يده لا محالة. لكنّ ماكيافيلي نبّه أنّ “أولّ حُكم يُصدره الناظر على عقل الأمير، يبنيه على صفات الرجال الذين حوله، فإن كانوا أكفاء وأمناء ثبت عقل الأمير وحكمته”، لكن “سي نبيل” اختار أن يحيط نفسه بمن يُردّد على مسامعه ما يريد سماعه لا ما يجب أن يسمعه، فاختلط الزيف بالحقّ والتقدير بالتملّق، حتى صار عسيرا عليه التمييز بين الغثّ والسمين.

ونبيل القروي نفسه أدرى بخاصّته ونفاقهم وريائهم فقد سبق أن مدحوا وتملّقوا أشخاصا آخرين غيره، بأمر منه، ثُمّ شتموا نفس الأشخاص وحطّوا من سُمعتهم -وقد كذبوا بذلك مرتين- وذلك أيضا بأمر منه. وقد وقع سي نبيل بذلك في أكثر الخطايا فتكا بالأمراء والملوك والأباطرة، وهي خداع الذات، حيث “يصعب اتّقاء الإصابة بداء حُبّ الملق” لأنّ الإنسان على رأي ماكيافيلي يُحبّ ذاته ويخدع نفسه في ما يتعلّق بها. ولا مناص من الوقوع في هذا الخطأ إن لم يُعمل بنصيحة ماكيافيلي التي بيّنت أنّ الطريق الوحيدة لتجنّب هذا الخطأ القاتل تكمُن في “إفهام الناس أنّه لا يسوءك أن يُقال عنك الحقّ أمامك”.

الدرس الثاني: الكرم فضيلة ومهلكة في آن

ويُرى نبيل القروي على أنّه كريم حليم بالناس عطوف عليهم، يُكرمهم بما له من مال ويجود عليهم بالغطاء والكساء وما تيسّر من المقرونة. لكنّ أميرنا هذا ليس كريما على العامّة من الفقراء والمساكين وحدهم، بل يُكرم أيضا الخاصّة، سواء تلك القارّة والتي تُعتبر خاصّته أو تلك التي تعمل لحساب من يدفع. لكن سي نبيل لم يقرأ ما قاله ماكيافيلي عن الكرم من جهة كونه “خلّة مُهلكة لذاتها” وهو مصيب في ذلك لأنّ ممارسة الكرم تفترض أنّك تملك ما تتكرّم به، وبممارسة الكرم ينقص مالك فتفقد القُدرة على ممارسته بعد ذلك، “فإمّا تصير فقيرا مرذلا وإمّا تفرّ من الفقر إلى الجشع والاغتصاب وتصير مذموما مكروها”.

وعلى الرغم من أنّ سي نبيل لم يفقد قُدرته على الكرم لنفاذ ماله وإنّما لحجر مالي صادر عن القضاء، إلاّ أنّه صار “فقيرا مرذّلا” وكان ذلك وراء أكبر نكسة تعرّض لها في حملته الانتخابيّة. خرج “آري بن ميناشي”، وهو أحد أفراد الخاصّة الذين تكرّم عليهم سي نبيل بمليون دولار أمريكي لقاء بعض الخدمات، وفضح بُخل الأمير بأن لم يُقدّم ما عليه من مكرمة واكتفى بمائة وخمسين ألف دولار حوّلها مباشرة من حساب زوجته إلى حساب “شركة الضغط” Lobbying company. وأشار “بن ميناشي” إلى أنّه وحلفاءه وعملاءه لا يساعدون الأمير لكَرم يدّعيه وإنّما لمصلحة يرونها مُتحقّقة فيه، فبخس بذلك قدر الأمير وكشف زيف كرمه، كما أشار بوضوح إلى خفّة عقل الأمير وذلك استنادا إلى “صفات الرجال الذين حوله”، فما دام قد أحاط نفسه بالأغبياء فهو بالضرورة من طينتهم وإلا ما كان ليعوّل عليهم، فذكّره بذلك بالدرس الأوّل المذكور أعلاه.

لذا لا تنسى مُستقبَلا أيّها الأمير الزائف أنّ أستاذ الواقعيّة السياسيّة قد قال أنّ “انتساب الانسان للبُخل أقرب إلى الحكمة لأنّه يجلب العار ولا يجلب البغضاء”، وقد جلبت لنفسك البغضاء حتّى فضحك من بغضك.


الدرس الختامي: لا تكُن ماكيافيليا إن لم تكُن قادرا على ذلك.


من المُغري أن يكون المرء ماكيفيليّا، وقد أصبح الأمر أكثر إغراءً بعد أن أوجد البشر كلمات ومفاهيم بديلة عن الماكيافيلية (لما علق في أذهان العامّة من فساد أن يكون المرء ماكيافيليا)، وسي نبيل نفسه يستعمل هذه المفاهيم الرديفة فيقول عن نفسه أنّه “براغماتي” و”واقعي”، لكن بقدر ما يظهر الأمر مُغريا فهو خطير بنفس الدرجة، ذلك أنّ ما يظهر امتيازًا وذكاءً قد ينقلب على صاحبه فيستحيل خنجرا في خاصرته. وهو حال أميرنا المهزوم الذي لم يستطع درأ مفاسده فأصبح مرذولا بأن اشتهر بالتغيّر والخفّة وضعف العزيمة، وهي الأمور التي نهى عنها ماكيافيلي نهيا قاطعا ونهائيا. فبدل أن يُذاع عن سي نبيل أنّه تقي وأمين ومُحبّ للإنسانيّة ومُخلص ومتديّن، أذيع عنه أنّه ماكر وسارق وكاره للإنسانية وغدّار ومُنافق، وهي بالضبط الصفات التي يجب أن لا تُذاع عن أيّ أمير حتّى وإن كانت تعكس حقيقته، “فالعامّة مأخوذون بالظواهر وبنتائج الأشياء، والعالم لا يشمل إلاّ العامّة”.
يظهر إتّباع الماكيافيلية أمرا يسيرا وبسيطا، لأنّ المبدأ العامّ الذي يرى أنّ “الغاية تُبرّر الوسيلة” هو مبدأ نافع للمصلحة الخاصّة بالأمير، إلاّ أنّ هذا المبدأ ليس مُعلّقا لوحده في السماء، بل له شروطه ومسلكيّته. لذا يا أيّها التلميذ الفاشل، لا تكُن ماكيافيليا إن لم تكُن قادرا على أن تكون كذلك.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !