رأي | تونس في ورشة الإبتكار السياسي

بقلم سفيان فرحات

مهما تكن نتائج الانتخابات الرئاسية، فإن تونس قد عاشت بين الدورين الأول والثاني على وقع جدل سياسي لم تعرف مثيله من قبل؛ أفكار تشيرٌ إلى ثغرات في المنظومة السياسية برمّتها، أو بمراجعة استعمالات بعض المفاهيم، أو تُبرز خواء منطقٍ مستهلك لعقود (…). حتى في أيام الثورة، لم تصل حدّة الوعي إلى ما وصلت إليه اليوم. آنذاك، تحرّرت الإرادة من كابوس جاثم لعقود، ولكن لم يُتح التعطّشُ للحريات حينها أن يفكّر التونسيون بهدوء أو يتخيّروا بين السيناريوهات أو يطوّروا مفاهيمهم حول الدولة والمواطنة والحاكم والفساد والديمقراطية وغير ذلك. مسائل يمثّل التدبّر فيها جوهر المشاركة السياسية، والتي طالما أريد لها أن تُختصر في عرض وطلب بين المترشّحين والناخبين، وذلك منطق السوق الذي انتقل من الاقتصاد إلى كل دوائر الحياة. صعد خلال هذه الفترة الانتخابية أكثر من خطاب يقطع مع الروتين السياسي، سواء ذلك الذي كرّسته المنظومة الحاكمة نفسُها أو الذي ظنّ أنه الصوت الوحيد المعبّر عن الثورة. يمكن أن نذكر هنا: محمد عبو، سالم لبيض، الصافي سعيد، لطفي المرايحي، وحتى منجي الرحوي ضمن العائلة اليسارية، ووجوه جديدة تؤثث المشهد من مختلف الأحزاب والتيارات، وهؤلاء قد نضجت أصواتهم بالتدريج مع سياقات ما بعد الثورة. لكن يبقى قيس سعيّد قاطرة هذا التجاوز الذي يعرفه الخطاب السياسي التونسي، ليس فقط باعتباره الصوت الأعلى للطرح الجديد الذي يحاول أن يقطع مع البائد من الأفكار والخطابات، بل أيضاً بما خلقه حوله من جدل. فمنذ ظهوره بدأت محاولات فهم هذا الصعود السياسي وتفسيره، فتقاذفته التصنيفات من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار مما زاد من هالة الغموض حول مرجعياته، وهو خيط التقفه سعيّد بنفسه ليضع نفسه فوق المنطق الأيديولوجي ويدعو التونسيين للقطع معه في تناول السياسة. منذ المناظرة الأولى، وهي أوّل حضور إعلامي موسّع له كمرشّح رئاسي، بدأ قيس سعيّد في تطعيم الخطاب السياسي بمفردات مثل الإرادة الشعبية وآليات تنفيذها والقطع مع بيع الأوهام الانتخابية، وإمكانية سحب الوكالة والبناء من القاعدة صعوداً إلى القمة. حينها، بدت هذه المفردات غريبة على الأذن التونسية، لكنها بمرور الوقت ترسّخت وتحوّلت إلى عُملة جديدة في الفضاء السياسي. ومن جهة أخرى، دخل الخطاب المطروح من بعض السياسيين الجدد إلى منطقة من المصارحة في طرح قضايا تونس بعيداً عن المداورة أو المقاولة السياسية. وللشعب التونسي أن يأمل من خلال دفع هؤلاء إلى حلبة السياسة أن ترتفع قليلاً الشروط الفكرية والأخلاقية للعمل السياسي، فقد شهدوا على مدار عقود اقتحامها من قبل الانتهازيين والمخادعين. وفي الوقت الذي غابت فيه مرجعية الثورة عند كثيرين اعتقدوا وأن أثرها قد طُمس في النفوس، استطاعت هذه المجموعة الجديدة أن تُرجعها لموقعها الطبيعي كمعيار اختيار. فالثورة صانعة الشرعية السياسية للمرحلة الحالية، بل يمكن اعتمادها ليس فقط ضمن اللعبة الانتخابية، وإنما استلهامها في إعادة بناء النظام السياسي والتشريعي التونسي، بما في ذلك من جرأة على المفاهيم المكرّسة. فكأن لحظة الانتخابات بتفاعلاتها قد فتحت نافذة لإمكانيات الابتكار داخل الفعل السياسي في تونس. بمرور قيس سعيّد للدور الثاني، برزت آثار “الصدمة” في وجوه الطيف السياسي والإعلامي (وخصوصاً طائفة الكرونيكورات التي تعتقد أنها تملك دفة توجيه الحياة السياسية في تونس)، وصار سعيّد كوجه طارئ على اللعبة السياسية (وليس على السياسة بشكل عام) ومساره غير المتوقع مدار كل حديث. كان واضحاً أن أدوات التحليل المعتمدة منذ سنوات – خصوصاً تلك التقسيمات على أساس القرب أو البعد من الإسلام السياسي – قد عجزت عن تقديم مقولات متماسكة. خلخلةُ هؤلاء والمنطق الذي يفرضونه على الناس كان في حدّ ذاته أحد إنجازات الفترة الانتخابية. مع هذا النوع من الإعلام القائم على التلاعب بعقول الناس، خيضت أكثر من معركة خرج فيها الخطاب الجديد منتصراً، مثل انسحاب برهان بسيّس لدى اعتراض الصافي سعيد عن مضمرات أسئلته وتحاليله، ثم مرّر قيس سعيد درساً آخر، حين رفض كل الدعوات للظهور بينهم، مع حضور متفرّق في وسائل إعلام أجنبية وحتى لفائدة مواقع إلكترونية تونسية. كان سعيّد قد حصّل خُمس الأصوات في الدور الأول من الرئاسية دون المرور من “قنوات” محتكري نسب المشاهدة العالية. لا بل أن ما حقّقه أسقط صنماً وهمياً آخر، وهو أنه يمكن تحصيل أصوات التونسيين دون حملة تقوم على التنازلات للوبيات الإعلام في سبيل دخول فضاء السياسة. آخر محطات هذه الفترة الانتخابية قبل يوم الحسم، كانت المناظرة التلفزية بين نبيل القروي وقيس سعيّد. وهي لحظة مفصلية حيث بدت أقرب إلى فرجة تتعلق بالقطع مع التفاهة السياسية. فمع تعوّد المتلقي التونسي على مفردات خطاب سعيّد بالتدريج، استطاع أن يرفع درجة جديدة أعلى من معتاد النقاشات السياسية، وهو ما أربك خصمه وبعثر أوراقه. في المشهد العام، ومع “الاختراق” الذي حقّقته الوجوه السياسية الجديدة في المشهد التونسي، إلى أي حدٍ يمكننا الحديث عن استثناء تونسي حقيقي؟ استثناء مغاير لذلك الذي يأتي كرمي ورود من الأشقاء والأصدقاء.. والأعداء أيضاً. التفكير في علاقاتنا الدولية انطلاقاً من مصالحنا، أو إعادة بناء نظامنا السياسي في انسجام مع مسار الثورة، أو تجاوز فكرة البرنامج الانتخابي القائم على الوعود إلى البحث عن آليات ترجمة الإرادة الشعبية، وغيرها مما طرحه الصاعدون الجدد، أليست أشكالاً من المساهمة في التفكير العالمي اليوم في مأزق الديمقراطيات وضرورة تطوير أدائها كتعبير عن الخيارات الشعبية، وألّا تكون أداة لمصالح الأوليغارشيات (حكم القِلة). ذلك ما يشغل أبرز قامات الفكر السياسي في العالم اليوم من نعوم تشومسكي إلى سلافوي جيجيك. فكأن “شهر السياسة” الذي عاشه التونسيون ضمن الحملات الانتخابية قد وضع – بعفوية – بلادهم على خط “إنتاج” حلول للديمقراطية المأزومة عالمياً، ويعادُ ابتكار السياسة من جديد، فلا تكون المؤسسات والقوانين حواجز بين المواطن والقرار، بل مرايا له. ولعلّ التغيير الذي يحدث اليوم في تونس هو المعنى الأعمق للثورة، حيث يتغيّر الحاكم منذ أن يخلّ بعقده مع مواطنيه وبدون تكلفة تدفعها البلاد وأجيالها القادمة.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !